محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
ذ. محمد ستي
محمد ستي، أستاذ التعليم الابتدائي
مدير مدرسة الإمام علي بأبركان ابتداء من سنة 2014
قائمـة محتويات الصفحـة
- ذكريات في بيت الأجداد
- أطلال ولا شيء إلا الأطلال
- الزمن الجميل
- مهنة الدرارزة بأبركان
- لعيبة الزربوط
- كاصي لاكروط
- من ذاكرة المدينة
" السي الطيب القزدار الورطاسي رحمه الله"
- السوق الأسبوعي والمقاومة الزناسنية
- دور "ثمغارث" في القبيلة: الحكمة والتأثير في صنع القرار
- أطلال منسية
- القَنِّيش أو الجُّمّيخ
- الجلسة بلا بَرّاد بحال الخيمة بلا أوتاد
- صور من شارع الطحطاحة قبل التهيئة في السبعينات
- "الهربال".. أسطورة بني يزناسن الذي طوَّع الجبال بسيارته العجيبة
ذكريات في بيت الأجداد
تصادفنا أحيانا مواقف تستفز ذاكرتنا فتجعلنا نستعيد أشرطة تحكي عن ماض كنا أحد صانعيه ببراءة طفولتنا، فنستحضر منها ما كان موشوما في أعماقنا، من أطياف صور لحياة عشناها بكل تفاصيلها، حتى تركت بصماتها منقوشة في ذاكرتنا التي تأبى النسيان، و لم يكن من بد غير ترجمتها إلى حروف و كلمات تليق بها، و لعل ذلك يتطلب منا التغلغل أكثر في المخزون الوافر بذاكرتنا، لتستوقفنا فيه تلك الذكريات التي عشنا فصولها بالبيت الكبير الذي تشهد جدرانه على ما لم بينها من أفراد عائلة كانت تربطهم أواصر محبة صادقة، تقاسموها فيما بينهم بقلب نقي و غير متكدر، حتى أن ابتسامتهم لم تكن تفارق محياهم، ليوزعوها بين الكبير و الصغير، فالكل تغمره نشوة و رضا و هو يتوسط المجلس بين الأحباب في حضرة الجد الذي يسع قلبه الجميع، فتراه يحادث الكبار أحيانا و يلاعب الصغار أحيانا أخرى، و حتى إذا جنى الليل و انبعث السكون من ظلمته، افترشت النساء البيوت بما توفر من حصير و لحاف و غطاء صوفي يسمى" بورابح" و آخر يسمى" بوشراوط" يلتحفه الجميع، و يشتركون دفأه و هم على جنب بعضهم يتسامرون و يستمتعون بمستملحات يرويها أحدهم إلى أن تأخذهم غفوة النوم.
و نحن صغار إذ كنا نتسابق إلى من يتوسد فخد الجدة التي كانت تتحفنا بما لديها من أحاج(امقيدش، و ثامزا ووو) و ألغاز لا زالت عالقة في أذهاننا، و كان إذا استبد النوم بأحدنا جعلوا له مكانا بجانب الأطفال الذين صاروا نياما، و تستمر الجدة في سرد ما لديها في مخزونها من حكايات تمتع السمع و ترهف الحس لتفننها في طريقة الحكي، فنستمع إليها بشغف و نطالبها بالمزيد، و هي في ذلك غير متذمرة، بل تراها توزع حنانها بين أحفادها بكل رضا و أريحية، و يشاركها أحيانا بعض النسوة في تبادل الألغاز و البحث عن حلول لها، و نحن في غمرة هذا السجال إذ نتدافع حول من يأتيه الدور لينال شرف توسد فخد الجدة، لتهرش فرو رأسه بأناملها الحنونة و هي تردد ترانيم و أدعية، و إذا أطبق النوم جفوننا صرنا إلى أماكننا بين الأطفال نفترش فراشا و غطاء واحدا نتشاركه جميعا، و عند انبلاج الصبح نستفيق على رائحة الشاي المنعنع و الفطير المصنوع بالشعير" راخصاص" و كل ما جادت به البادية من منتوجاتها من عسل و سمن و حليب، أما الجدة بعد أن تنهي ما في عهدتها من أشغال تجدها تتسحب ألى غرفتنا، فتهمس في أذن هذا ثم تعاود الآخر إلى أن توقظنا جميعا لنشاركهم فطور الصباح، و لعل ما ميز ذلك التقاسم في كل خاصتنا ليشمل اشتراكنا لفراش و غطاء واحد، هو ذلك التلاحم الذي استشعرناه في طفولتنا فولد لدينا انسجاما و تلاقيا في المشاعر و الأفكار نتيجة ما تشربناه من تقاليد في بيت الأجداد، و إذ نتحدث عن هذا الماضي الجميل نتمنى أن يعاودنا ما افتقدناه فيه بفقدان من كان يلمنا في البيت الكبير الذي تحول إلى أطلال بتنا نتباكاه كلما تذكرنا أنه كان لنا فيه ذكريات خلت.
و تبقى الجدة مثالا للمرأة اليزناسنية التي أعطت الشيئ الكثير من أجل الابقاء على تلاحم أفراد عائلتها، و قد كانت العفوية و الطيبة و المحبة من السمات التي طبعت شخصيتها، فجعلتها قريبة من قلوب الجميع، و لها من العطف و الحنان ما كانت توزعه على الكبير و الصغير، حتى إذا صرت إليها و أنت في حالة من الضجر و التكدر بسبب تعقيدات الحياة، هونت عليك بكلمات تجعلك تنتشي نشاطا يغير من حالتك المكتئبة، أما إذا استشعر أحد أفرادها مرضا فإنها تستزيد من اهتمامها و عنايتها به، و لن يغمض لها جفن إلا إذا تحسنت حاله، و هي في كل هذا تقدم خدماتها بالبيت دون أن تشعر أحدا بانشغالها عنه، فمثل هذا النموذج للمرأة ذات القلب الكببر و العقل المدبر تحتاج منا كل التقدير و الاحترام، باعتبارها مدرسة فريدة منطلقها العفوية و الطيبة و المحبة الصادقة.
أطلال وأطلال ولا شيء إلا الأطلال
منازل تهدمت بعد أن هجرها أصحابها، فتحولت إلى أطلال منسية تكومت أحجارها، لتوحي لنا بعدم جدواها بعد أن كانت مرصوصة بنيانها، كمعمريها من أناس عاشوا الألفة و الترابط العائلي، يلفهم حنان يسع الجميع رغم تعددهم، فتجدهم يتوزعون في أداء مهامهم اليومية بتلقائية، لتوفير ظروف ملائمة للعيش، فالواحد منهم يسوق الأغنام لترعى كلأ و عشبا، و الآخر يلتحق بأعمال الزراعة، بينما يتكلف الصغار و النسوة بجلب المياه و القيام بأشغال البيت، و أحيانا يخرجن إلى مساعدة أزواجهن دون تذمر، و في الليل يتسامرون حول ما يخفف عنهم عناء النهار، و كان الكل ينتشي قوة و صحة بدنية، يتحمل على إثرها قسوة العيش و الطبيعة المتوحشة التي تحيط به، و في هذا التدبير العائلي المحكم تجد له زعيما يكون من بين أكبر الإخوة، يعودون إليه عند احتياجهم للمشورة أو النصح في أدق الأشياء، لحنكته و تجربته العريقة في الحياة، و لا يأتمرون إلا بأمره مهما اختلفت الرغبات و الاختيارات، فهو محاط بقدسية منبعها الاحترام، لأنه المدبر و الضامن برجاحة عقله للإبقاء على تلاحم العائلة و العيش تحت كنف واحد.
فالمنازل التي تكومت أحجارها اليوم و انتهت صلاحيتها، فإنها تخفي بين ثناياها أسرارا يمكن سبرها و استنطاقها لتشهد على أقوام أرادوا أن يعلمونا كيف نعيش مجتمعا عائليا و في أحلك الظروف، و كيف نمارس العدل بتلقائية في توزيع الأدوار و المهام، فالجميع يشتغل و ينتج دون اتكالية، كما أرادونا أيضا أن نتعلم كيف نتعاون لمواجهة صعوبات الحياة، و كيف نحترم من يستحق الاحترام، و كيف نعتمد فكر و مشورة الزعيم العادل، و قوة أفراد العائلة الملتحمة، و كيف نعلم أبناءنا قيما تجعلهم متراصين بطيبتهم و أخلاقهم، و كيف نتحمل الشدائد من أجل غيرنا، و كيف نتعلم القناعة و اقتسام القليل مع الآخر، ألم يكونوا بكل بساطتهم ينعمون بالرضا في مجتمعهم المصغر الذي يسوده الإحساس بالآخر و تقبله بكل محبة صادقة، رغم ما كانت تتسم به ظروف الحياة بالوعورة و التعقيدات، ألم تكن تلك المنازل المتهدمة التي نمر عبرها و لا نعيرها اهتماما، قد أوت يوما أقواما جعلوا لنا من تقاليدهم و سلوكياتهم قيما نحتذي بها و نسعى إلى إنباتها و ترسيخ جذورها بيننا، إلا أن واقع الحال يجعلنا عاجزين عن لم أفراد أسرة فبالأحرى عائلة متسمة بالتعدد، ولنصدق القول عن أنفسنا أننا خسرنا كنزا لم نستطع الحفاظ عليه.
و لعل في قبائل بني يزناسن منازل لو نطقت أحجارها لشهدت على كفاح تلك الأقوام التي صنعت لنا ما لا نقدر على أن نضاهيه بغيره، فهل لنا القدرة على إنباته و الإبقاء عليه؟
الــــــــــــــــــزمن الـــــجميــــــــــــــل
الجميل في كل زمن ما ارتبط بما أرساه أهله من قيم نابعة من عمق الذات الإنسانية و احتياجاتها لتمتد بتأصلها في المجتمعات، على أن تتجدر أكثر بالأخذ بها و تبنيها، و اعتبارها أساس الحياة الاجتماعية التي تنظم العلاقات بين الأشخاص، بما يشدهم إلى بعضهم، و يسمو بإنسانيتهم إلى حد يجعلهم يعيشون في ألفة و تراض، فيهما من التعاون و التكافل ما يبعث على الحب و الطمأنينة، يقتسمون المتوفر، يعودون المريض، يساعدون المحتاج، يقدمون خدماتهم دون انتظار ثناء من أحد، سلوكاتهم مبعثها الاحترام و التقدير المتبادلين، طباعهم تنم عن إنسانية منطلقها التسامح و الإيثار و الإخاء، يمتلكون قوة داخلية تُحيي ضمائرهم و تنعش تفكيرهم، يقدمون من خلالها ما ينفع المجتمع و يسير به إلى الأفضل، كما يعشقه كل تواق إلى إرساء نمط إنساني راق، قابل للتطور لكن دون أن يزيغ عن جوهره المنطلق منه، حفاظا على التماسك الاجتماعي الذي يعد المربط الأساسي، الذي يحتاج إلى تقويته و تجدره، بإرساء قيم صارت إلى الاندثار، و غدت من الماضي الجميل الذي يحن إليها كل من عايشها لفترة قبل أن ينتقل إلى أخرى لها خصوصياتها، لكنها تفتقر إلى تلك الجوانب القيمية و الخلقية بكل عاداتها و طقوسها الايجابية التي كان للأجداد نصيب في إقامتها و تثبيتها، و جعلوا منها نسقا يُحتذى به، و مرجعا يُحتكم إليه في تدبير شؤون حياتهم.
الجميل في زمن الأجداد هو ما افتقدناه في زماننا و عاشوا عليه، و نجحوا في تنظيم علاقاتهم انطلاقا من مبادئ تبنوها و آمنوا بجدواها، و جعلوا من القيم و الأخلاق مصدرا لتهذيب سلوكاتهم، و نشر المحبة و التسامح و درء الأحقاد و الضغائن، زمن حاربوا فيه الفساد، و أعلوا صوت الحق، و أصبح للعدل وجود قوي في أعرافهم، و للأمانة عليها حافظون، و تغليب المنفعة العامة عليها سائرون، و خدمة الآخر تطبعوا عليها و تربعت في قلوبهم و بعجز بعضهم مستشعرون، استأصلوا الخيانة و دافعوا عن المواقف الحقة و المبادئ الصلدة و لرجاله مساندون، للشرف قيمة لا تساوم و من أجله يموتون، للكرم حضور و لأصوله متبنون، تلك خصال باتت في الزمن الماضي نتحاجى بمواقف رجالاته الملفتة، نُمعن السمع لقاصِّيها فتحرك فينا الرغبة في استحضار تلك المُثُل التي عاشوا عليها، و طبقوا معانيها بحرص شديد، لكنها صارت حكيا تترجمها كلمات و سطور و لا تفيها حقها، و يعجز اللسان عن وصفها، و تستحق أن تكنى مرحلته بالزمن الجميل، لقدرة أصحابه على تَمثُّلِه في الواقع، و جعله نبراسا يستضيء به الجميع، و ينتشون مزاياه، و يستلذون معاني قِيَّمِه و ما تحتويه، و على أساسه بنوْا طقوسا و عادات ابتدعوها لتصبح نظاما يعتمدونه في تمتين علاقاتهم، بممارسة أنشطة تعاونية تكافلية عرفت" بالتويزة" التي كانت تخضع لقوانين تلزم الجماعة على احترامها، كما جعلوا لاحتفالاتهم تقاليد مهذبة، منبعها الكرم في تقديم المأكل و المشرب، و احترام المدعوين بالحفاظ على مقاماتهم و الرفع من شأنهم دون تنقيص من قدر أحد، و لمة الأهل و الأحباب على اختلاف أعمارهم في كل مناسبة، يتم فيها صلة الرحم، و تقوية الرباط بينهم بخلق جسر التواصل و تفقد أحوال القريب و البعيد، و إقرار عملية التضامن كمساعدة لا تقتصر على الماديات فقط، بل تتعداه إلى الإعداد و التنظيم و الانخراط في تنزيل تلك الطقوس و شعائرها، التي تضفي على الفرح لونا مميزا يشعر الجميع بالانتشاء سعادة و لا مجال فيه للتذمر و الخصومة، فالكل يندمج في تنشيط الحفل بأريحية تامة، كما كانت الخلافات لا تتعدى محيطها العائلي أو القبلي، تعالج في مجلس يترأسه" كبير العائلة"، يتميز بالحكمة و رجاحة العقل، قادر على تذويب النزاعات و لا يجعلها تخرج عن دائرة اختصاصه، و كل قراراته يؤخذ بها لما فيها من إنصاف للمتخاصمين، على اعتبار أنها تصدر انطلاقا من معرفته ببواطن الأشياء، و درايته بأصول الأحكام الشرعية، و قدرته على النبش في بواعث النزاع، و الإحاطة بها حتى لا يُظلم في حضرته أحد، كما كان للحشمة و الوقار دور في تفتيت المشاكل، و تغليب روح التسامح للإبقاء على الرابط الذي يلمهم، و الابتعاد عن التشدد و العصبية التي تزرع البغض و الحقد، و إلى ما سلف ذكره من مناقب تشرب بها الأجداد، فإن إذكاء روح التعاون بينهم، و مؤازرتهم لبعضهم كانت تتجاوز كل الخلافات التي اعتبروها واهية أمام المرجع الديني الاسلامي، الذي انتهلوا منه المبادئ السمحة في مسعى منهم للحفاظ على تماسكهم، دون ابتغاء منفعة خاصة غير خدمتهم للآخر، و مساعدتهم له بما يرفع عنه الفاقة و العوز.
خصال متعددة تم تعدادها عن الزمن الماضي، و انتفت في زماننا و حلت محلها سمات دخيلة على مجتمعاتنا، برزت مع العولمة و ما رافقها من تطورات تكنولوجية، جلبت معها عوائد انساق معها جيل، و انبهر بكل ما تحمله في جعبتها من سلبيات و إيجابيات دون اعتدال في استعمالها، فصار المجال واسعا للاحتكاك مع ثقافة الآخر، و التأثر بها و بما تُبطنه من عادات كان لها وقع في اندثار ما توارثناه، و التخلي عنه بطواعية دون إعمال للعقل في انتقاء الجيد منها و المتوافق مع ثقافتنا و هويتنا، مما يؤكد أن التفريط فيما صنعه الأجداد من قيم لم يكن سببه التكنولوجيا، و لا التطورات التي واكبتها على جميع الأصعدة، بل سوء استعمالها و عدم توظيفها فيما يطور من القدرات العلمية للرقي بمجتمعاتنا، و كذلك التقليد الأعمى للموضة التي ولع بها الأبناء، كتعبير وهمي على التمدن و مواكبة العصر، كلها دواع أفقدتنا قيما عشقناها، و وددنا أن تتشربها الأجيال المتعاقبة، و تستقيها من منبعها الأصلي، لتُبقي عليها مستمرة و ملازمة لهم في حياتهم، لكن في مقابل ذلك أن يعملوا على صناعة زمانهم بمميزات أجمل، فيها من العصرنة و متطلباتها، و فيها من القيم و المبادئ ما يعينهم على الحفاظ على هويتهم، و استقلالياتهم، و ممارسة اختياراتهم دون تقليد، فلا هم يحتاجون إلى جلباب أجدادهم، بل إلى أفكارهم و قيمهم، و لا إلى موضة الغرب و ما يرافقها، بل إلى إبداعاتهم و علومهم، لتتحقق لهم حياة أفضل، جذورها قيم خلوقة ورثوها عن الزمن الجميل، و معارف متطورة منبعها زمن التكنولوجيا و ما تقتضيه العصرنة، إلا أن انبهارهم جعلهم ينسلخون عن ماضيهم التليد و يتخلون عن كل جميل فيه، فلا هم حققوا حلمهم كما رسموه في خيالهم و لا هم استطاعوا الحفاظ على حلم الأجداد فيهم، فكان الضياع حليفهم، فالماضي جزء من الحاضر في بناء مستقبل بشخصية مستقلة، و هوية تحدد الانتماء بكل تمظهراته التي تشكل موروثا غنيا بقيمه و مبادئه و طقوسه الايجابية، الدافعة إلى الأفق السامق الذي يرتجيه كل طموح إلى التغيير، فلكل قمة أساسات قوية ترتكز عليها لتُبقيها شامخة و مستمرة، و الأساسات الحقيقية لبلوغ ذلك ما خلفه الأجداد من قيم و عدم التفريط فيها، و الإلمام بكافة العلوم و ترجمتها إلى واقع يستنفع بها العامة من الناس.
مهنة الدرازة ببركان
الدرازة" الحرفة التي امتهنها الرجال في أمكنة مختلفة من المنطقة، عرفت انتشارا واسعا خلال السبعينات و الثمانينات، لما كان إقبال كثيف من الساكنة على حياكة" بوشراوط" من الثوب أو الخيط، لضعف القدرة الشرائية للطبقات المعوزة و الهشة، كانت توجد واحدة بحي الأندلس تعود لعائلة" وعلي"، اشتغل بها المسمى" العمراوي" ابن الطحطاحة لمدة طويلة قبل أن يهاجر إلى الديار الألمانية، و معاونا له احترف البناء و ولًّى لها ظهره لقلة مداخيلها، و الأخرى قريبة من مستوصف بويقشار، لصاحبها محمد الرمضاني الذي ورثها من أحد أقربائه، الذي تعلم منه الصنعة و تشرب قواعدها الأساسية لما كان يشتغل مساعدا له، عمرت طويلا بنفس الدكان إلى أن هاجرها ليمتهن المطعمة بسوق" مبروك"، لقد كان طويل القامة، شغوفا بحرفته قلما تجده خارجا، يتعامل مع البسطاء من الناس المنحدرين من الأحياء الشعبية، أو البوادي اليزناسنية التي كانت تمتلك الصوف الوافر من الماشية، تغزله لتحوله إلى أغطية و زرابي ينتفعون بها شتاء، يفترشونها أرضا للضيوف و للانتفاع الذاتي، كانت تقدم كصداق للزوجة، مما حدا بهم إلى الاهتمام أكثر بإنتاج الصوف و حياكتها، خاصة لما يكون عدد الذكور كثير بالأسرة، فإنه يُصبح مُلزم عليهم ضمان نصيب كل واحد عندما يصير مؤهلا للزواج، لذلك تجد كل بيت يمتلك منها عددا لا يستهان به، مما شجع على انتشار مهنة الدرازة عند الرجال خاصة بمنطقة بركان، التي تشتهر إلى جانب الفلاحة بتربية المواشي التي توفر المادة الخام من الصوف، فهي تدخل في خانة مكونات التراث و نواته، لم تظهر فجأة بل لها امتداد تاريخي انطلقت من البوادي مع النسوة بمنازلهن، حيث برعن و تفنن في أصول التلوين و الرسم الهندسي المتناسق، لينتقل إلى المدينة مع الرجال، على أن تعرف توقفا عن ممارستها لعدم جدواها، لما اكتسحت السوق أغطية متنوعة و بجودة عالية، و ظهرت مصانع بآلات متطورة و ذات إنتاج سريع، كما استغنت البوادي عن حياكة الصوف بالطرق التقليدية، لذلك هاجرها عشاقها لما وجدوا بديلا يغنيهم عن أغطية ثقيلة و أقل سخونة، مما حدا بها أن تتراجع و تضمحل و تغلق أبوابها، لا أعتقد أن يكون لإحداها وجود بالشكل التقليدي المتعارف عليه، لقد كان من اختصاصها حياكة بوشراوط بالثوب و الخيط البالي، و الطلامط بالصوف، لم تكن تحتاج لأكثر من حرفيين و مساعد، كانت شاقة في ممارستها، و لكنها مناسبة للفقراء في زمن لم تكن الأغطية قد انتشرت بشكلها المثير، لقد كانت الدرازة تشكل طابعا مميزا للمدينة، لما كان لها وجود بارز لا يمكن طمسه إلا بقلة الاهتمام و التغاضي عنه، ليصبح من التاريخ الماضي.
لعبة" الزربــــــــــوط"
الزربوط"، اللعبة المستديرة، الصغيرة الحجم و الأكثر شعبية في وقت لم تكن الألعاب الإلكترونية قد ظهرت بعد، كانت تُلعب بتقنيات و فنيات رائعة، تُغري متتبعيها من الأطفال لخوض التجربة كي تبدأ معهم رحلة تعلُّم تلك المهارات التي تتطلبها، حتى يصبحوا خلال فترة قصيرة من ممارسيها المتمرسين داخل المجموعة، يشاركونهم التحدي للظفر بلقب أحسن ممارس للُّعبة دون منازع، و أحيانا قد يبلغ التحدي مداه، فتصبح الخشيبات، أو الملونات، أو أشياء أخرى عينية بسيطة فاصلا بين المتنازعين أمام تصفيقات الأقران و تشجيعاتهم، فتجد الواحد منهم يحاول الحصول على أفضل" زربوط" لعله يُعينه على ربح الرهان، فيقوم بعدة تغييرات عليه، كأن ينزع المسمار الأصلي و يستبدله بآخر له مواصفات خاصة، و يستعمل خيط البناء، يضع عند نهايته قفل المشروبات، أو عمود صغير بغرض إحكام قبضته، حتى يُصبح أكثر مرونة كان يُطليه بنبات" الخُبيزة"، كما يقوم بإزالة الجزء العلوي منه للتخفيف من وزنه، و إذا صادف أن نجح أحدهم في تحصُّلِه بالمواصفات المطلوبة، فقد يتهافت على شرائه الكثيرون، و إذا لم ينتبه إليه فقد يتعرض للسرقة، و لا أحد يدله على الفاعل حتى لا ينعت" بالشّكّام"، و هي الصفة التي كان يمقتها الجميع و يتحاشون الوقوع فيها، بينما السارق يكتفي بإخفائه في البيت، أو اللعب به على مقربة منه حتى لا يُفتضح أمره، و بعد مدة يكون فيها رفاق الحي قد نسوا الحدث، يقوم بإظهاره في حلة جديدة، يكون حينها قد غيَّر فيه بعضا من ملامحه الأولى، كما كانت تُحدَث خلال التحدي مشادات كلامية، أو تعارك بالأيدي عندما لا يتقبل أحدهم هزيمتين متتاليتين، يساعده رفاقه في ذلك، أو يتدخل الكبار المارين أمامهم لفك النزاع و إصلاح ذات البين بينهم، لم يكن للحقد مستقر في قلوبهم، قد تجدهم بعد برهة يبحثون عن بعضهم في مختلف الأمكنة المعلومة، ليلْتمَّ الشمل من جديد، و يبدأ" الزربوط" في الدوران على حلبة التحدي، و الاستمتاع به تحت تشجيعات الأقران الذي عجز بعضهم عن تعلم تقنياته، أو عدم قدرة البعض الآخر على شرائه، فيكتفون بالتفرج أو التشجيع، أو جلبه لصاحبه عندما ينفلت منه بعيدا علّه قد يكافئه فيما بعد، بأن يجعله يستمتع به و لو إلى حين، لم تقتصر اللعبة على مكان معين لممارستها، بل كانوا يتخذون من الطرقات و أبواب المدارس حيزا منها للتدريب عليها و اكتساب مهارات إضافية، و إذا صادف أن أحدهم لم يُنجز واجباته المنزلية، فحتما سيكون حظه" الفلقة" من الأستاذ، ناهيك عما قد يسمعه من أقسى الكلام الناصح، ثم يقوم بتفتيش ملابسه و محفظته عساه يعثر على لعبة" الزربوط" ليصادرها منه دون تردد، و لا يسمح بمراجعة قراره تحت أي طائل كان، أما إذا انفلت منه أثناء اللعب و أصاب طفلا من مجموعته أو من المارة و اشتكاه لوالده فسيلقى نفس المصير الذي لاقاه بالمدرسة أو أكثر، تلك رحلتنا مع" الزربوط" بحلوها و مرها، و المتعة كانت منها النصيب الأكبر، و لا أعتقد أن أحدا منكم و هو أب أو جد أن يُدير له ظهره، بل قد يجربه على كِبر، و ينهمك في اللعب به باستمتاع منقطع النظير، و هو يستحضر معه شريط الذكريات بأحداثها العالقة في الذهن، و التي لن تُنسى مهما بلغ الإنسان من الكبر.
كاصي لاكروط
كلمة" كاصي لاكروط" متداولة بشكل لافت وسط العمال في قطاع البناء أو الفلاحة أو...........، إذ يقصدون بها كما الشائع تلك الوجبة الفاصلة بين الفطور و الغذاء للتزود بما يعينهم على استكمال الأشغال بخفة و دون عناء، غالبا ما تكون أكلاتها خفيفة و لكنها ذات منفعة للجسم، حتى غدت مواد إعدادها من الشروط الأساسية المطلوب توفرها من قِبَلِ المشغل قبل التفاصل في أشياء أخرى.
الكلمة دخيلة لكنها باتت تسمية شعبية أكثر استساغة في التواصل و قضاء الحاجات الذاتية المرتبطة بالأكل على اختلافه، يبدو أنها فرنسية بكل تفاصيلها، ما عدا نوعية الأطعمة المقدمة خلال هذه الوجبة التي جعلوا منها خفيفة، و عندنا أثقل إذا توفر الزاد" من لبن و حرشة و زبدة و بيض وووو" فإنهم يأتون عليه حتى الشَّبَع، رغم قولهم و هم يهمون إلى ما يُسكت معدتهم " نَمْشِي نْكَسّر الجُّوع" في انتظار حلول وقت الغذاء، و هو المقصد الشائع عند العامة، لكن اشتغالهم المتواصل هو الذي يفتح شهيتهم على الأكل، فيجعلون من الوجبة الخفيفة" تَغْلِيقَة" حتى التخمة، و في الغذاء كذلك، و هو ما يوسع المفهوم أكثر ليرتبط بالأسباب و الظروف العامة التي تحيط بكل الأطراف.
كلمة" ساندويتش" متداولة هي الأخرى بشكل ملفت أيضا، و تؤدي نفس المعنى و لا أدري العلاقة الرابطة بينهما، فهي تاريخيا تعود لصاحبها الأنجليزي" جون مونتاغو ساندويتش" الذي عاش الفترة الممتدة بين( 1718 و 1792)، و مما يُروى في حقه أنه كان مولعا بالقمار إلى درجة أن ينسي معه تناول وجباته النظامية، فكان يعوضها بأكلات خفيفة و بمواصفات محددة، يلتهمها و هو منهمك في لعبه، حتى اشتهر بتلك الطريقة الغذائية التي تسمَّت باسمه" ساندويتش".
تنوعت التسميات و الفعل واحد، المصطلح دخيل و لكن عادة الوجبة الخفيفة صباحا و احتساء الشاي و لوازمه مساء ليست من الدواخل في شيء، فهي متجدرة اعتاد عليها الأجداد قديما و توارثها الآباء، و لم يعرف عليهم أن أعطوها إسما خاصا إلا قولهم الذي اشتهر عنهم" ديرونا شي كاس أتاي" تصدر منهم بنبرة خشنة فيها أمر و تسريع في الإنجاز، في إشارة إلى رغبتهم في التزود بما ينعش ذاتهم المنهكة، و يمدهم بالحيوية و النشاط، فالإنسان اليزناسني عُرف عنه الإستيقاظ باكرا من أجل الصلاة و التفرغ للعمل، فمن الطبيعي أن يحتاج بين الوجبتين إلى ما يسد به الرمق، و يُذهب عنه الشعور بالجوع، و لما كان هذا الفعل الغذائي المترسخ بدون إسم يُترجمه عند التواصل، فمن الطبيعي أن يتأثر بمسميات دخيلة دون أن تحمل ثقافتها التي لا تختلف إلا في الشكل و الأصناف المؤثثة للمائدة.
مستملحة ( عبدالحق مهداوي ) :
أوتي بمياوم جديد إلى مدينة أبركان من قبل أصحابه وكلهم ينحدرون من مدينة بعيدة.
ذهبوا إلى حقل فلاح وكل مرة يناديهم بالقول : يا الله الفلاحة أجيو تكورطو.
استشاط المياوم الجديد غضبا فقال : واش كل مرة أجيو تكورطو... أجيو تكورطو ...واش جينا نخدمو ولا جينا نكورطو.
لم يفهم كلمة نكورطو فاعتقد المسكين أن ثمن لا كروط سيقتطع من أجرته لذلك اليوم.
من ذاكرة المدينة
" السي الطيب القزدار الورطاسي"
" القزدار" الذي يطوف بين الأحياء و المنازل بدراجته الهوائية القديمة، صائحا فيهم عمن لديه براد أو مقراج أو طنجرة تحتاج إلى إصلاح، يضع دراجته على حائط، يُخرج أدواته، ينزوي في مكان بجانب باب إحدى المنازل، يأتونه بكل الأواني المعطوبة التي تحتاج إلى ترميم، بعد أن كانوا ينتظرون مروره بالحي لأيام خلت، يشرع في ترصيصها بإتقان، يلتهم بخفة بعضا مما تكرم به الجيران، يناولوه أجره البسيط، ليستأنف الطواف مناديا إلى أن يصيح فيه أحدهم أن يتوقف ليرمم له المكسور من الأواني، أو يشتري منه ما قد استغنى عنه، ليعيد إصلاحه و بيعه للبسطاء المحتاجين ممن عجزوا عن اقتناء الجديد، لكن مع اكتساح السوق بأواني مستعملة، و بأثمنة مناسبة، وذات جودة عالية، بدأت هذه الصنعة المتجولة تخبو حتى صارت إلى الإندثار، لتعود إلى الدكاكين مستقرة في مكان يقصده كل من احتاجه من المواطنين، فاتخذت منعطفا آخر، حيث تحولت إلى صناعة" مراشم الكاطو" و" الصواني"، و أحجام أخرى للحلويات إلى جانب الصنعة الأصلية، اشتهرت ببركان على يد صاحبها المتمرس الذي عُرف عند العامة" بالسي الطيب القزدار الورطاسي"، الذي اتخذ بزنقة علال بن عبد الله بالطحطاحة مستقرا لممارسة مهنته، التي تشربها و أتقنها حتى أصبح مقصد الجميع دون استثناء، حيث اعتبرها عشقه المُتيَّمِ به الذي لم ينقطع عنه تحت أي ذريعة، إلى أن أصابه كسر في كتفه إثر حادث بتافوغالت لما كان متسوقا لأجل العمل كعادته، اضطر معه إلى توقيف نشاطه لفترة طويلة، كانت تجربة شاقة و هو المعروف بحيويته و عشرته الإجتماعية مع الناس، لكنه تحملها عن مضض حتى تجاوز محنته، ليعود إلى عهده بصنعته في دكانه، و طوافه بالأسواق اليزناسنية لممارسة حرفته، حيث بات معروفا عند جميع المداشر، ينتظرون حلول السوق لإصلاح المعطوب من أوانيهم.
لقد كان رجل نكتة تبدو على وجهه البشاشة باستمرار، تعكس نفسيته المرحة التي أضحته ضحوكا في جميع الأحوال و الأوقات مع كل الفئات رجالا و نساء و أطفالا، كل من مر بجانب دكانه إلا و توقف قليلا ليُسمعه بعضا من نوادره و مستملحاته اللتان تحملانه على القهقهة بأعلى الصوت، حتى أنك لا يمكن أن تخال دكانه خاليا من الناس، كان سريع الرد في كلامه بنباهة و فطنة، لما يتسحب أحدهم بعيدا فيصيح فيه بكلمات، يجيبه عاليا بما يضحكه، فيعود أدراجه إليه مضطرا ليكمل معه ما بدأه من حديث، كانت له دردشات خاصة تعشقها النساء و الرجال و الأطفال، جلساؤه كثيرون من جميع الأعمار لا ينقطعون عنه، يمتلك القدرة على الإنسجام و التأقلم مع كل وافد إليه، حتى أنه يأبى أن يُنهي السمر الذي يطول معه دون أن يُحس بالملل، يُزيل الضيم عن الزبون بنوادره المميزة، يسترخص الحياة و لا يُعيرها اهتماما و همومها، لا تكاد الضحكة تفارقه وسط انشغاله بالعمل الذي يؤديه بانشراح و خفة، قلما تجدهما في إنسان بدأ حياته في حقول" الدوم" مهاجرا إلى دولة الجزائر بعين تموشنت، حيث تعلم التواصل بالفرنسية، دون أن تُكسر ظهره أو تجعله ينهار، بل زادته إصرارا و قوة ليكمل مسيرته باحثا عن الأفضل، فقادته الصدف إلى تعلم المهنة التي عشقها من إسبانيين، تشرب منهم الصنعة و تفنن في إتقانها، كما أخذ عنهم تلك الكلمة التي اشتهر بها و يرددها كثيرا" المورو"، متهكما ساخرا دون أن يسيء بها لأحد، لقد استطاع بحبه للناس، و شغفه لصنعته أن يربي بناتا سترهن بالزواج و توظفت إحداهن بالبلدية، و إبنا كان مغتربا بألمانيا، سكن بجوارنا بحي الأندلس مكتريا منزلا يعود لوالد الملقب" بقوسينا" الذي يكنى" بفشات"، لينتقل بعد ذلك إلى منزله الذي استقر به حتى وافته المنية رحمه الله سنة 1991 عن عمر يناهز 71 سنة.
السوق الأسبوعي والمقاومة الزناسنية
ن عند إجالة النظر، لكنه في واقع الأمر ينطوي على خبايا أعمق من البيع و الشراء، فهو فضاء يجمع بين المتناقضات في نظام محكم، أدواره متعددة و بخلفيات إيجابية، فيها من الخدمات ما ترضي به كل مبتغ ساع إلى ما يريد، فهي منسجمة مع كل مرحلة تاريخية يكون فيها للسوق حضور مميز للعب إحدى الأدوار الرائدة، التي تشهد على بطولات أصحابها و بسالتهم في الذود عن حِيَاض المنطقة، و استرداد ما ضاع منها بالغصب، كما حدث خلال فترة الاستعمار الذي أطبق على أنفاس قبائل بني يزناسن، بتجريدهم من أراضيهم و نهبهم لخيراتها، و ما اكتووا به من أنواع التعذيب و التعسف، لأجل ذلك تبنوا المقاومة كبديل جهادي لتقويض سياسة المستعمر و إيقاف مدِّها، مما أعطى لقضيتهم المحلية بعدا وطنيا، و أصبحوا أكثر تنظيما، تمكنوا من وضع مخططات دقيقة لعمليات فدائية مختلفة كان للسوق فيها قسط وافر لإنجاح بعضها، من خلال الأسلحة الخفيفة التي كانت تمرر بحذر شديد عن طريق النساء اللواتي كن يضعنها في سلة البيض، أو داخل ملابسهن و هن يلتحفن" الحايك"، ليتمكنَّ من تجاوز نقاط التفتيش بيسر، و تسليمها للمقاومين لتنفيذ عملية فدائية مخطط لها بدقة متناهية ضد أحد رموز الجيش الاستعماري، أو تصفية أحد الخونة المعاونين لهم أمام أنظار حشد المتسوقين من كل القبائل، ليتعظ ضعاف النفوس منهم إذا سولت لهم أفكارهم المتذبذبة الانسياق وراء إغراءات تجنيدهم كعملاء خونة، و ليسهل عليهم أيضا التسلل في أمان إلى خارج أسوار السوق، تجنبا لتعرضهم للاعتقال من قبل جيش المعمر المنتشر في كل أرجائه، فقد حدث حسب الروايات الشفوية المحلية و بإيعاز من إخبارية الخونة أن تم تطويق السوق الذي كان يضم بين مرتاديه مقاومين أفذاذ، تواجدوا للقيام بعملية فدائية تستهدف الجيش المترامي بين أطراف السوق، و لإشعال فتيل الثورة التي كانت ستقلب موازين القوة، لكنه فطن لها و سعى إلى إفشالها و دحضها، بأن سارع إلى حظر دخول الفرنسيين و اليهود، تفاديا لأن يلحقهم أذى مما يحاك ضد أهل بني يزناسن، و في المقابل كان يُسمح لباقي المتسوقين بارتياد السوق، بغرض إحكام حصارهم بالداخل حتى يتمكن من اعتقال عناصر المقاومة عن طريق نهج سياسة الترهيب لإرغام المواطنين على الوشاية بهم، و لما عجز عن انتزاع معلومات تفيده في مسعاه، و لم يفلح في كسر صمتهم بعد أن أجمعوا على لجم ألسنتهم و أن لا ينبسوا بشيء يعينه على بلوغ مآربه، قرر الجيش تصفية جميع المحتجزين داخل السوق حتى لا ينجو أحد من الفدائيين و مناصريهم، فكان للسيد محمد بن عبد الله الحافي الذي كان متواجدا أثناءها بدكان بنعبد الله شاطر، بعد أن وصلته إخبارية تفيد بإزماع المستعمر على القيام بمجزرة رهيبة يستهدف فيها من في السوق، فأسرعا لإخطار القائد " محمد التميمي الكومندار" حسب الروايات الرائجة محليا، و الذي كان له باعُُ في فك هذا الحصار بتكثيف مساعيه مع سلطات الاحتلال التي أثمرت نتائجها، بأن تم تحرير المحتجزين بعد شد الحبل بين الطرفين، بينما التدوين الرسمي يشير إلى أن " الحسن شاطر" هو من قام بإعلام القائد" محمد" بالكارثة التي كانت ستحصد آلاف الضحايا من اليزناسنيين، الواقعة تم التأريخ لها سنة 1955، ففي كلا الحالتين فإنهما توحيان بيقظة الشعب و تعاونه مع المقاومين، و بقدرة المقاومة على زرع عيون لها للتخابر ضد الاستعمار من وسط مجتمعه المحمي بقوة العساكر.
كان السوق مجمعا لكل القبائل اليزناسنية، فقد جعلوا منه فضاء للتداول مع باقي المواطنين لإطلاعهم على مستجدات الحركة الوطنية، و توعيتهم بأهمية الالتحاق بالمقاومين، بتحريك هممهم، و إذكاء حسهم الوطني، و تسخيرهم ليكونوا عيونا لهم عند الاستعمار، يندسون وسطه لمعرفة خباياه التي يُبطِنُها، فينقلونها إلى خلية المقاومة المكلفة بجمع المعلومات عن المستعمر، فكان السوق الملاذ الآمن و المواتي لالتقاء عناصر خلايا المقاومة، لتبادل المعطيات في سرية تامة و الاطلاع على حيثيات خططه الاستنزافية، و البحث في كيفية مجابهتها و التصدي لأطماعه و جشعه، استراتيجية اتبعتها المقاومة بحرص شديد درءا لكل ما قد ينعكس سلبا على مسارها الجهادي، لذلك و تلافيا أن ينكشف عناصر خليتها السرية، و بإبعاد الشبهة عنها فقد كانت الوجوه تتغير عند كل سوق ضمانا لنجاح سريتها، و لما كان مجالا يسع جميع القبائل المتوافدة عليه، فقد كان يُستغل أيضا لتوزيع المنشورات التي كانت تصدرها المقاومة الوطنية، و الاستفاضة في شرح مضامينها لممثلي القبائل، حتى يساهموا في تمرير أفكارها الداعية إلى التلاحم تحت جناح المقاومة، و هو ما كان يثير حفيظة الاستعمار الذي كان يلجأ إلى كسر شوكتهم بالسجن و التنكيل بهم، و تشديد الخناق على المتسوقين، و تفتيش محتوياتهم عند الدخول و الخروج، لإيقاف مد المقاومة الذي اتسع ليشمل عامة المواطنين، و حملهم على المشاركة بقدر ما استطاعوا إليه سبيلا خدمة و نصرة للقضية الوطنية.
لم يقف دور السوق عند هذا الحد في تعضيد المقاومة و تحسيس المواطنين بحجم قضيتهم الوطنية، بل كانت هناك وسائل أخرى تم توظيفها من داخل الفضاء الفسيح لخدمة عناصر المقاومة و مناصرتها بما أوتي لها من قدرة، فكان للْحَلْقَة بأنواعها دور رائد في التوعية، و الحث على الالتحاق بالمقاومين، و الاستماتة من أجل التحرر من قبضة المستعمر الغاشم، و قد اعتمدت على السرد الإيحائي لمواقف تعبيرية عن الجهاد و التضحية و الإيثار لاستفزاز مشاعرهم، و إقناعهم بالمشاركة الكثيفة لتعزيز صفوف المقاومة، كما كانت تمرر عن طريقها رسائل إلى المقاومين تتضمن إشارات مبطنة لا يفهمها إلا المعنيين بها، تعِينهم على الاهتداء إلى استجلاء كل لُبسِ يحيطها، لذلك كانت الحلقة سندا قويا و مساعدا على تجاوز العقبات و المحن التي قد تعترض المقاومين، و لشدة تعلق المواطنين بهم و بقضيتهم فقد كان السوق فرصة لجمع التبرعات، كل حسب إمكانياته المتوفرة سواء كانت مالا أو مواد غذائية أو ما شابه ذلك، يتكلف بجمعها عناصر قريبة من المقاومين، لتُقدَّم كمساعدة للسجناء منهم، و لعائلاتهم، و للوطنيين الملازمين بالجبال، و كان من بين المكلفين بهذه المبادرة" المقاوم الحاج احمد شاطر الملقب ببوصبعاين" الذي كان يعرف كيف يجعل التجار و غيرهم يساهمون في دعم المقاومة، و من النوادر التي تروى في حقه أنه كان يطلب من كل ممتنع عن أداء حق المجاهدين عليه، أن يخرج من دكانه إلى الشارع و يصيح بأعلى صوته" عاش محمد الخامس"، و خوفا من أن يتعرض للاعتقال من قبل المستعمر، فإنه يفضل منحه المساهمة على أن يَقْدِمَ على هذا الفعل، و بذلك يضمن انخراط الجميع في العملية.
من فضائل السوق أيضا تتبع أخبار المقبوض عليهم لطمأنة أهلهم و ذويهم، و معرفة مستجدات المقاومين و عملياتهم الفدائية و كل الأخبار التي تخصهم، ففي ذلك تمتين للرابط المشترك الذي يلفهم و يشدهم إلى بعض، ليبقى السوق بالإضافة إلى كونه ملتقى لإذكاء روح القتال و شحذ همم الثائرين، فقد كان أيضا ملتقى له مظاهر متعددة اجتماعية منها و اقتصادية تُعالج فيه الكثير من القضايا المحلية العائلية، و القبلية التي كانت تحتكم في فك نزاعاتها إلى حكماء قبائل أخرى، لهم مكانة خاصة و كلمتهم مسموعة يأخذ بها الجميع، يجتمعون في إحدى زوايا السوق بعيدا عن عيون الجواسيس ليتداولون في المشاكل المستعصية و معالجتها بحكمة و روية، و العمل على تذويب الخلافات، و السعي إلى توحيد القبائل المتناحرة، و الحفاظ على تماسكها فيما يخدم القضية الوطنية، و بذلك يكون للسوق إضافة إلى المبادلات التجارية دور في الإعلام و التواصل بين مختلف الشرائح الاجتماعية و تقاسم الأخبار، الأمر الذي نتج عنه وعي سياسي جعل المقاومة تأخذ مسارا آخر،فيه من الدبلوماسية ما تسعى من خلالها إلى استقطاب داعمين دوليين لقضيتهم الوطنية، و قد كان لليزناسنيين ممثلون عنهم في المشاركة كسفراء للتعريف بقضيتهم، و آخرون ممن اختلفت أدوارهم في خدمة المقاومة و التواصل مع الحركة الوطنية لتوحيد الصف، و التدوين الرسمي يذكر منهم العدد الأوفر فيهم من النساء و الرجال(......،...........،.........،............،......)
لكن المثير للجدل و الذي يطرح نفسه بإلحاح أمام تساؤلات تحاول النبش في الذاكرة لاستحضار أسماء تركت بصماتها في المقاومة، و كان لها صدى قوي في إنجاح الكثير من العمليات الفدائية، و أدوار أخرى لا تقل أهمية من حيث التنسيق بين الخلايا، و توفير المؤونة للمقاومين و التخابر ضد الفرنسيين، كل هؤلاء لم ينصفهم التاريخ و باتوا على الهامش لتبنيهم مواقف لا تتوافق و التوجه الجديد للحركة الوطنية بعد الاستقلال، فتم إبعادهم و تجاهل مسارهم الجهادي، و ما قدموه من خدمات و تضحيات مضنية صارت عبارة عن أحاجي يرويها من عايشوهم، و سمعناها من بعدهم ليطويها النسيان مع الأجيال القادمة لغياب التوثيق و التأريخ لهم بسبب الإقصاء الذي طالهم، و يستحقون منا استحضار ذلك الذي تجافاه التاريخ و أعرض عن تدوينه، حتى و لو كان خطوطا إنشائية و حكائية تضمن لأصحابها التعريف بحياتهم الجهادية الحافلة بمواقف بطولية، و لنا في هؤلاء نماذج كثيرة نذكر منهم: الحاج محمد بن موسى الشاطي الذي تعرض للسجن و التنكيل من طرف الاستعمار مرات عديدة بسبب مشاركته في عمليات فدائية مختلفة، و كذلك الحاج جامع بن احمد الذي كان وسيطا يقوم على تدبير المعونات الغذائية للمقاومين التي لا تقل أهمية عن الكفاح المسلح، و كذلك دور الأطفال و مشاركتهم في ضمان وصول الغذاء إلى المرابضين بالجبال باستعمال الدواب نذكر منهم الحاج محمد بن جامع، و الحاج محمد العربي، و غيرهم كثيرون كل حسب المهام التي أنيطت به و التي لا تقل أهمية عن مثيلاتها. تهميش لم يُكشف عنه في التدوين الرسمي لتاريخ المقاومة بمنطقة بني يزناسن و غيرها لاعتبارات سياسية، و اختلاف في المواقف و التوجهات التي أريد منها مواصلة التغيير إلى تحقيق تطور يليق بحجم ما أُريق من دماء لشهداء وهبوا حياتهم لأجل بناء وطن مستقل لا يقف عند حدود إخراج المستعمر، بل العمل على مواصلة قطع دابره بتصفيته من عملاء اقتطعوهم أراض كانت تحت سيطرته، في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات الحرة باسترداد كل شبر تم السطو عليه، و توزيعه بالعدل على الشعب الذي يستحق أن ينعم بخيرات بلاده، و سن سياسة وطنية تعزز هذا التوجه بعيدة عن التبعية حتى لا يبدو الاستقلال عسكريا فقط دون أن يطال باقي المجالات الحيوية الأخرى في شموليتها التي ينبني عليها تطور البلاد اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، و هذا ما أحدث فجوة داخل صفوف الوطنيين، نتج عنه إبعاد ذوي الأفكار الحرة، و تصفية بعضهم، و إقصاء الأحياء منهم من المشاركة في الدائرة السياسية لتدبير الشأن العام، و قد حز فيهم هذا الحصار المفتعل الذي استشعرهم بخطورة الموقف و تبعاته على مستقبل البلاد و العباد، فكان من نتائجه أن فُرض عليهم الانزواء المفتعل، و عدم الاختلاط مع العامة لئلا تتسرب أفكارهم الطامحة إلى التحرر في شموليته، و إقصاؤهم من ممارسة العمل السياسي، و تعطيل مواصلة مسيرتهم الإصلاحية بتشويه نظرتهم الاستشرافية لغد مشرق رسموا معالمه بأفكار كلها أمل وطموح، فكان من شدة قناعتهم بقيمة الرسالة الملقاة على عاتقهم، أن رفضوا كل مكافأة نظير جهادهم الذين اعتبروه واجبا وطنيا لا يقدر بمال، بل و الأدهى من ذلك فقد أعرضوا عن تدوين أسمائهم ضمن سجلات المقاومين، في إطار الحملة التي أطلقتها الحركة الوطنية بعد الاستقلال، مما حدا بهم إلى التمرد على كل مبادرة من شأنها أن تشوه صورة الكفاح الوطني التي رُسمت بدماء الشهداء، مثل هؤلاء لم ينبش أحد في ذاكرتهم لاستقراء تصوراتهم و مواقفهم و وضعها في سياقها الحقيقي، حتى ينجلي كل غموض تلبس مسارهم النضالي، و الكشف عن أسرار خفية لا زالت غائبة و دفنت مع أصحابها.
دور "ثمغارث" في القبيلة: الحكمة والتأثير في صنع القرار
في المجتمعات القبلية التقليدية، لم يكن النفوذ مقصورًا على الرجال وحدهم، بل برزت شخصيات نسائية لعبت أدوارًا محورية في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وعلى رأسهن "ثمغارث"، المرأة الحكيمة التي امتلكت قدرة فريدة على تهدئة النفوس، وإيجاد الحلول للخلافات، وحماية تماسك القبيلة. لم تكن مكانتها تُكتسب لمجرد التقدم في العمر، بل كانت نتيجة خبرة طويلة، ورجاحة عقل، وفطنة في التعامل مع المواقف الصعبة، مما جعل الجميع يحترمها ويقدر رأيها. لم تكن كل النساء قادرات على أن يصبحن "ثمغارث"، بل كانت هذه المكانة محفوظة لمن امتلكن قوة الحجة، وسرعة البديهة، والقدرة على قراءة النفوس، وفهم طبيعة النزاعات. لهذا السبب، كانت تحظى بتقدير واسع من رجال القبيلة ونسائها على حد سواء، إذ لم يكن يُنظر إليها كمجرد وسيطة في الخلافات، بل كركيزة أساسية للحفاظ على التوازن الاجتماعي. كانت "ثمغارث" تتدخل في مختلف النزاعات الأسرية، فتسعى لإعادة التفاهم بين الأزواج وتجنب تفكك الأسر، خاصة في بيئة تُقدّس الروابط العائلية. كما كانت تتوسط لحل الخلافات بين الجيران، أو بين الرجال المتخاصمين على الأراضي والمراعي، أو في حالات الاعتداءات التي قد تؤدي إلى نزاعات طويلة الأمد. في القبائل، كانت بعض الخلافات تأخذ أبعادًا خطيرة، حيث يمكن أن تتحول مشاجرة بسيطة إلى قضية شرف قد تسفر عن سفك الدماء. وهنا كان دور "ثمغارث" بالغ الأهمية، إذ تسارع إلى تهدئة الأمور، وإقناع الأطراف بالتراجع عن التصعيد، مستخدمة في ذلك أسلوبًا يجمع بين الحزم واللين، وبين الترغيب والترهيب، مستندة إلى خبرتها الطويلة ومعرفتها العميقة بالأعراف والتقاليد. ورغم أن القرار الرسمي كان بيد "أمغار"، زعيم القبيلة، إلا أن "ثمغارث" كانت تُستشار في أمور عديدة، خاصة تلك المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية. ورغم أنها لم تكن تجلس إلى جانب الرجال في المجالس، إلا أن رأيها كان يصل إليهم، وغالبًا ما يُؤخذ به، نظرًا لمكانتها المرموقة وثقة الجميع في حكمتها. لم تكن "ثمغارث" مجرد شخصية نافذة، بل كانت امرأة مباركة في نظر القبيلة، تحمل كلماتها الخير والبركة، وتسعى دائمًا لإصلاح ذات البين. وكان الجميع يلجأ إليها لطلب النصيحة أو المشورة، سواء في القضايا العائلية أو حتى في الأمور اليومية البسيطة. في قبائل بني يزناسن، برزت العديد من النساء اللواتي حملن هذا الدور عبر الأجيال، وأصبحن رموزًا للحكمة والصلاح. وما زالت ذكرياتهن حاضرة في وجدان القبيلة، يتناقلها الناس كقصص تُروى عن نساء عظيمات استطعن أن يصنعن فرقًا كبيرًا في حياة مجتمعهن. لم تكن "ثمغارث" مجرد امرأة عجوز في القبيلة، بل كانت رمزًا للاستقرار وصانعة للسلام، تعمل في الظل دون أن تحتاج إلى سلطة رسمية، لكنها بحكمتها وحنكتها، كانت أحد الأعمدة التي حافظت على تماسك القبائل واستقرارها عبر العصور.
تبدو أطلالًا منسية، لكنها تحكي حياةً نابضة بالعزم والصمود:
في كل الجولات والمغامرات الجبلية، تستوقفك أحيانًا أطلال لديار كانت بالأمس نابضة بالحياة، تعج بأناس صنعوا لأنفسهم وجودًا في بيئة قاسية، وتحدّوا ظروف الطبيعة ليبنوا مجتمعًا قويًا متماسكًا. بين تلك الجدران التي انهارت بفعل الزمن، كانت تُروى قصص العمل والكد، وكانت تتناقل الأجيال قيم الصبر والكفاح، حيث نشأ جيل حمل على عاتقه مسؤوليات جسام، واستطاع بفضل كفاءاته أن يُسهم في بناء محيطه رغم شح الموارد وصعوبة العيش. هذه الديار المهجورة، لو نطقت، لحكت عن أيام المجد والفرح، عن ضحكات الأطفال التي كانت تتردد بين الدواوير والمداشر، وعن السهرات الطويلة التي جمعت الأهل حول نار موقدة في ليالي الشتاء الباردة. كانت لتروي عن الأحلام التي وُلدت بين جدرانها، وعن الآمال التي رافقت أهلها في ترحالهم وسعيهم وراء لقمة العيش. ولو دُوّنت كل هذه الذكريات في صفحات الكتب، لضاقت بها السطور وعجزت الكلمات عن احتواء تفاصيلها. فهي ليست مجرد أطلال حجرية، بل شواهد على حيواتٍ كانت تنبض بالحركة، ومسرحٌ لحكايات من الصمود والمقاومة والتأقلم مع قسوة الطبيعة وظروف الحياة. كل حائط متصدع يخفي خلفه سرًّا، وكل باب مخلوع كان يومًا ما مدخلًا لحياة نابضة بالعطاء، حيث اجتمع الأهل وتآلفت القلوب، وحيث وُلدت الأحلام وكبرت الطموحات بين أركان تلك البيوت التي لم يبق منها سوى بقايا شاهدة على مجد غابر. حين تمر بجوار هذه الديار المتهالكة، لا يسعك إلا أن تتساءل: كيف كانت الحياة هنا؟ كيف قاوم أهلها قسوة الطبيعة وشحّ الموارد؟ كيف استطاعوا أن يبنوا لأنفسهم مجتمعًا متكاملًا في أعماق الجبال أو في قلب السهول الوعرة؟ الأسئلة تتزاحم في الذهن، لكن الإجابات لا تجدها إلا في صمت الأنقاض، في همسات الرياح التي تعبر بين الشقوق، وفي آثار الأقدام التي انمحى بعضها وبقي بعضها الآخر يحكي عن مسارات سلكها أناس رحلوا، تاركين وراءهم صدى أصواتهم يتردد بين الأطلال. وإن أصغيت جيدًا، ربما تسمع صدى ضحكات الأطفال التي كانت تملأ المكان حيوية، تلاحقها نداءات الأمهات ووقع خطوات الآباء العائدين من الحقول أو الأسواق، محملين بثمار جهدهم اليومي. ربما تتخيل رائحة الخبز الساخن المتصاعد من التنور، ودخان الحطب الذي كان يملأ الأزقة، يحمل معه دفء العائلة وذكريات السهرات الطويلة على ضوء المصابيح الزيتية. تلك الأطلال ليست مجرد حجارة متراصة، بل ذاكرة محفورة في الزمن، تحكي عن أجيالٍ لم تستسلم لصعوبة العيش، بل صاغت من قسوة الطبيعة دروسًا في الصبر والتحدي. في كل زاوية قصة لم تُروَ بعد، في كل جدار مهدم ذكرى منسية، وفي كل طريق مهجور أثر لأقدام كانت تمضي بحزم نحو الحياة، تحمل همومها وأحلامها على أكتافها. قد يكون هنا مجلس شيخ حكيم كان يُنير العقول بحكمته، وهناك موضع سوق صغير حيث تبادل الناس أخبارهم قبل بضائعهم، وعلى بعد خطوات ربما كان ملعبًا ارتسمت على أرضه أولى خطوات الطفولة وأولى حكايات الصداقة. المكان، رغم صمته المطبق، لا يزال حيًا في ذاكرة من عاشوا فيه أو من مروا به وتأملوا تفاصيله. فكل لبنة متهالكة كانت يومًا ما جزءًا من حكاية، وكل باب موصد كان يومًا ما مفتوحًا لاستقبال الضيوف والفرح والمآسي على حد سواء. حين تطأ قدماك هذه الديار، تشعر وكأنك دخلت عالمًا يختلط فيه الماضي بالحاضر، حيث تتلاشى الحدود بين الأزمنة، ويصبح المكان شاهدًا على التحولات التي عرفتها الأجيال. ولعل أكثر ما يثير التأمل أن هذه الأماكن، التي كانت يومًا تعج بالحياة، تحولت اليوم إلى رموز صامتة، تنتظر من يعيد اكتشافها، ويفك شيفرة ذكرياتها العتيقة، ويمنحها صوتًا بعد أن أسكتها الزمن. هكذا تبقى الأطلال أكثر من مجرد بقايا، إنها حكايات مؤجلة، تنتظر قارئًا شغوفًا ليستنطقها، ويعيد إليها شيئًا من بريق الحياة الذي خفت، لكنه لم ينطفئ تمامًا.
"الْقَنِّيشْ": مستخلص الدوم بنكهة لا تُقاوم
يُعد القنيش المستخلص من نبتة الدوم كنزًا مخفيًا لا يدرك قيمته إلا أولئك الذين جابوا الجبال واكتسبوا معرفة عميقة بخيراتها. فهذه النبتة، التي تبدو للوهلة الأولى عادية، تخفي في لبّها المدفون في الأرض طعمًا فريدًا لا يشبه أي نكهة أخرى، حيث لا يمكن الاستفادة منها إلا على يد أشخاص خبروا طرق اقتلاعها ومعالجة أجزائها المختلفة.
نبتة الدوم منتشرة بكثافة في جبال بني يزناسن، وشكّلت عبر فترات طويلة جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية للسكان، ليس فقط كنبتة غذائية أو ذات فوائد صحية عديدة، بل أيضًا كمصدر رزق للعديد من العائلات. ففي مراحل معينة، كانت هذه النبتة تُستغل في صناعة المكانس التقليدية، حيث تجمع أوراقها بعناية وتُحوّل إلى أدوات تنظيف متينة تباع في الأسواق المحلية، لتصبح بذلك موردًا اقتصادياً يُعين الكثيرين على مواجهة صعوبات الحياة.
ورغم بساطة هذا النشاط، فإنه كان يتطلب مهارة ودراية بكيفية اختيار الأجزاء المناسبة من النبتة ومعالجتها لتكون صالحة للاستعمال. وهذا ما جعل من الدّوم أكثر من مجرد نبات بري، بل عنصرًا من عناصر التراث المحلي، يعكس ارتباط الإنسان ببيئته وقدرته على تسخير موارد الطبيعة بطرق إبداعية تلبي احتياجاته المعيشية.
كل من تذوّق لبَّ القنيش أصبح أسير نكهته الفريدة، لا يتردد في قطع المسافات الطويلة بحثًا عنه، مدفوعًا بشغف لا يخبو. فطعمه المميز يجعله يستحق كل جهد يُبذل من أجل الحصول عليه، بل إن تجربته تتحول إلى متعة خاصة لا يعرف قيمتها إلا من تذوّقه مرة واحدة، ليصبح بعدها طعمًا لا يُقاوم، يستحق العناء والمجازفة من أجل استعادته.
ملحوظة : " القنيش " كلمة أمازيغية وجمعه " إِقنيشن " وبالدارجة المحلية " الجُّمِّيخ " وبالعربية " الجُمّار "
الجلسة بلا بَرّاد بحال الخيمة بلا أوتاد
في الثقافة المغربية، لا تكتمل الجلسة إلا بوجود "بَرّاد" الشاي، وخاصة إذا كان من الرصاص. فهو ليس أداة لصنع مشروب ساخن فحسب، بل يُعد عنصرا أساسيا في لقاءات السمر، حيث تُروى في حضرته الحكايات، وتُحل الخلافات، ويُحكم على المواقف والأحداث. إن لم يكن البرّاد حاضرًا، بدت الجلسة ناقصة، مثل "خيمة بلا أوتاد"، لا استقرار لها ولا روح.
يحمل البرّاد في الثقافة الشعبية عدة ألقاب تعكس طريقة تحضيره ومذاقه. فهو "بَرّاد عَشَّاري" إذا كان يكفي عشرة أشخاص، و"بَرّاد برزتو" حين يكون ممتلئًا بالشاي الجيد، ومغطى ب"كشكوشة" بيضاء. أما إذا صار مجمّرا على نار هادئة، فيُطلق عليه "بَرّاد مشحر"، بينما يُسمى "بَرّاد مُنعنع" إذا غلبت عليه نكهة النعناع. لكل اسم دلالته، ولكل جلسة نكهتها الخاصة التي يصنعها البراد.
لإعداد الشاي أصول وفنون، ولا يُسمح لأي شخص بتحضيره، بل يتولى ذلك من يُتقنه ويملك خبرة في تحقيق التوازن المثالي بين الشاي والسكر والنعناع. الشخص الذي يُقيم البراد ويشرف عليه يُعتبر "قائد الجلسة"، فهو الذي يضبط الإيقاع، ويحظى بتقدير الحاضرين. في بعض المناطق، يُعد تسليم "الصينية" لشخصٍ معين نوعًا من التشريف، وإذا لم يُمنحها من يعتبر نفسه خبيرًا في إعداد الشاي، فقد يغضب أو حتى ينسحب من الجلسة احتجاجًا!
يتميز "البَرّاد الرصاصي" بنكهة خاصة عندما يُترك "يتجمّر" فوق الفاخر (الفحم الجيد). يُغطى بمنديل ليحتفظ بالحرارة، فيما يستمتع الجالسون بالحديث في انتظار أن ينضج المشروب في هدوء. هذه الطريقة التقليدية تمنح الشاي طعمًا فريدًا، حيث يمتزج دفء الفحم بنكهة النعناع الطازج، ليكون المشروب راحةً بعد تعب، ووسيلةً مثالية للهضم بعد وجبة دسمة.
البراد: رمزٌ للكرم والتشريف:
لم يكن البرّاد وعاءً عاديًا لإعداد الشاي، بل كان رمزًا للكرم والمكانة الاجتماعية. وجود "الصينية" ولوازمها، مثل "الشلال"، كان جزءًا أساسيًا من جهاز العروس، تعبيرًا عن أهمية هذا الطقس في البيوت "اليزناسنية". امتلاك برّاد أنيق وصينية مزخرفة لم يكن مظهرا من مظاهر الرفاهية فقط، بل كان دليلًا على أصالة العائلة وقدرتها على حسن الضيافة وإكرام الضيف.
هكذا، ظل "البَرّاد" حاملًا لذكريات الجلسات العائلية، ومؤنسًا للسهرات الطويلة، وعلامةً على دفء العلاقات الاجتماعية. فهو لم يكن إناء عاديا، بل يُعبر عن ثقافة ضيافة متجذرة لا تكتمل الجلسة بدونها.
الجلسة، مهما اختلفت أسبابها، لا تكتمل إلا بصينية الشاي التي تتوسطها، حيث تضفي رشفاته نكهة خاصة على الأحاديث، وتنشط الفكر لطرح قضايا تحتاج إلى نقاش وحل. بهذه الصورة، أصبح الشاي محركًا للحوار ومنعشًا للأفكار، يسهل التوصل إلى حلول عملية بعد دراستها في أجواء هادئة. كما أنه وسيلة للترفيه والترويح عن النفس، يخفف الأعباء، ويزيل الضيم عن القلوب.
السكر القالب: سر الجودة والمذاق الماتع:
لم يكن إعداد الشاي عند أهل بني يزناسن عادة يومية فحسب، بل كان طقسًا مقدسًا يُراعى فيه أدق التفاصيل لتحقيق المتعة القصوى في احتسائه. فالشاي لم يكن مشروبا فحسب، بل لحظة تجمُّع واحتفاء، يتطلب إعدادها توفر كل الشروط اللازمة لتحقيق تلك النشوة التي يُحدثها كأس شاي مشحر، مجمر، ومنعنع.
ومن بين أهم العناصر التي لا غنى عنها في هذا الطقس، السكر القالب "النمر"، الذي لم يكن مجرد مُحلٍّ، بل كان رمزًا للجود والكرم، ووجوده على الصينية إشارة إلى احترام الضيوف وحسن الضيافة. إلى جانبه، كان يُختار الشاي بعناية فائقة، ولم يكن يُعتمد إلا على "شاي الشعرة"، أو كما كان يُعرف آنذاك باسم "قافلة"، والذي اشتهر في زمانه بجودته وطعمه الفريد.
كان تحضير الشاي في بني يزناسن فنًا قائمًا بذاته، حيث يُراعى فيه اختيار الفحم الجيد للتجمار، والنعناع الطازج لإضفاء نكهة زكية، مع تقنية "التشحير" التي تُكسب الشاي مذاقًا أقوى وأعمق، ليُصبح أكثر من مجرد شراب، بل تجربة متكاملة تُضفي على المجالس هيبة ودفئًا خاصًا
شارع الطحطاحة قبل التهيئة في السبعينات
في السبعينات، كان شارع الطحطاحة يمثل قلبًا نابضًا في المدينة، حيث كان مكانًا فريدًا يتجمع فيه الناس من كل حدب وصوب. كان الشارع بسيطًا في مظهره، لكنه كان مليئًا بالحيوية والتنوع. أبرز ما كان يميز هذا الشارع هو المقاهي الشعبية التي كانت تقدم "القهوة لمغليا" و"براريد الشاي لمشحر"، وهي مشروبات محبوبة كانت تجمع الزبائن من مختلف الأحياء للحديث عن أخبار المدينة ومناقشة شؤون الحياة اليومية. كانت هذه المقاهي مكانًا للراحة واللقاء، حيث يتبادل الزبائن الأحاديث وتتشكل علاقات اجتماعية بينهم، الأمر الذي جعل من الطحطاحة أكثر من مجرد شارع، بل مجتمعًا مصغرًا.
وكان الشارع نقطة تلاقي ليس فقط بين الأصدقاء والجيران، بل أيضًا بين التجار والصناع. فقد كانت هناك صفقات يومية تتم بين الأشخاص الذين يبيعون ويشترون قطعًا أرضية للبناء العشوائي، ما جعل الشارع مكانًا حيويًا لرجال الأعمال المحليين. وتجمع الطحطاحة أيضًا الفرق الفنية، مثل فرق "العرفة"، التي كانت تتخذ من المقاهي مكانًا للتحضير للأفراح والعقيقة والختان، إذ كان الزبائن الذين يخططون للاحتفال بمناسباتهم يتفقون مع فرق الطرب والعرفاء على تفاصيل الحفل في هذه المقاهي الصغيرة التي كانت تضج بالحياة.
وكان الشارع يعج أيضًا بعدد كبير من الدكاكين التي تقدم مجموعة متنوعة من السلع. من هذه الدكاكين كانت هناك محلات لبيع المواد التقليدية مثل "الحناء"، "الشب"، "الملح الحية"، و"الصابون البلدي"، وكانت تلبّي احتياجات السكان من المواد الأساسية. كما كانت هناك دكاكين لبيع المواد الغذائية، تُخدم فيها الزبائن الدائمين من الأحياء المجاورة، بالإضافة إلى المتسوقين الذين يأتون من البوادي خلال السوق الأسبوعي الذي كان يقام يوم الثلاثاء. لم تقتصر الخيارات على الطعام فقط، بل كانت هناك دكاكين لبيع الخضروات التي كانت توفر احتياجات السكان اليومية.
ولم يكن الشارع مجرد مكان للتسوق، بل كان يتضمن أيضًا محلات صغيرة للإيجار، حيث يمكن للناس المبيت فيها، ما جعل الطحطاحة بمثابة مكان مفتوح للجميع. ورغم بساطته، كان الشارع يعكس تنوعًا اجتماعيًا وثقافيًا فريدًا. كان مكانًا حيث تلتقي كل هذه الأنماط الحياتية المختلفة في تناغم تام، مما جعله واحدًا من أبرز الأماكن في المدينة.
"الهربال".. أسطورة بني يزناسن الذي طوَّع الجبال بسيارته العجيبة
كان "الهربال" شخصية أحبها كل اليزناسنيين، رجلًا تجاوز الحدود الوعرة التي بدت للكثيرين مستحيلة، ولم يتردد لحظة في بلوغ قمم الجبال بسيارته العتيقة، حاملًا همّ خدمة الناس وتقديم يد العون لهم دون تردد. لم يكن يسعى إلى الربح الوفير، بل كان يكفيه أن يُسعف مريضًا، أو يوصل أسرة إلى مسكنها، أو يساعد الأزواج في الوصول إلى بيت الزوجية في أعالي الجبال. كما لم يتوانَ عن المشاركة في "دفوع العرس" أو نقل "الهدية" إلى أفراح البوادي، مجسدًا بذلك روح التضحية والتفاني في خدمة الآخرين.
حبه للناس وحرصه على راحتهم جعلاه يحظى بثقة الجميع، حتى استأمنوه على بيوتهم لمعرفتهم بدماثة أخلاقه، وعفته، وشهامته. لم يكن سوى رجل بسيط نشأ في حي "بويقشار" الشعبي، حيث نهل من القيم التي صاغت شخصيته الشعبوية، وجعلته معروفًا للصغير قبل الكبير. وبمجرد ذكر اسمه، تجد من يروي لك إحدى مغامراته أو نوادره التي تأسر المستمع وتجذبه لمتابعة تفاصيلها بشغف.
كان مشهد "الهربال" بسيارته المهترئة يجوب كل جبال بني يزناسن، متحديًا وعورة مسالكها، أمرًا يدعو للدهشة، خاصة أنه لم يتعرض يومًا لحادث أو مكروه. لم يكن متسرعًا أو مهووسًا بعدد "الكورصات" التي يمكنه إنجازها لكسب مزيد من المال، بل كان إنسانًا متزنًا، يعرف كيف يوازن بين عمله وراحته. فعند وصوله إلى وجهته، كان يبحث عن مكان في أحد البيوت ليستريح، فيغط في نوم عميق حتى يستعيد قواه. وما إن يستيقظ، حتى يجد أمامه صينية الشاي اليزناسنية بلوازمها، فيتناول ما تيسر له منها، ثم يقوم صاحب البيت بجمع ما تبقى ويزيد عليه ليقدمه له تعبيرًا عن امتنانه وشكره على خدمته.
أما أجره، فلم يكن يتجاوز ثمن الوقود أو يزيد عليه قليلًا، وكان في كثير من الأحيان يساعد الفقراء دون مقابل، طمعًا في الأجر والثواب. بل إنه أحيانًا كان يقايض خدماته بأشياء عينية، مثل البيض، أو الدجاج، أو غيرها من المنتجات البسيطة التي يقدمها له السكان تقديرًا لما يقوم به من خدمات.
اليوم، وبعد مرور الزمن، هل لا يزال من عاصروه يذكرونه؟ هل ما زالوا يستحضرون تلك الأيام التي كان فيها "الهربال" رمزًا للعطاء والتفاني؟
لقد كان أسطورة حقيقية، رجلًا استطاع أن يطوّع الجبال بسيارته العجيبة، وأن يترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة بني يزناسن.