محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
ذ.عبدالكريم عبداللوي
عبدالكريم عبداللوي، أستاذ التعليم الابتدائي، متقاعد
قــــــــائمـــــــة محتــــــويــــــــات الصفحــــــــــة البحث عن حارس الخرفان السي أحمد الحكواتي حركة دائبة في حينا حين ينطق المعلم من رحم المعاناة النعل المرهون لدى الحلاق لفقيرة مريم الخالة توشة من يوميات طفل قروي
البحث عن حارس الخرفان
بعد قضاء عدة سنوات في مدرسة بعيدة ومعاناة طويلة مع برودة طقس فصل الشتاء في سنوات الستينات،و تساقط الأمطار بغزارة لأيام عديدة بدون انقطاع ٠ کان محمد طفلاً قرويا ذا بنية ضعيفة ،فهو ابن رجل قوي عالي المنکبين طويل القامة متزوج من امرأتين وله منهما أطفال کثيرون، يشتغلون في فلاحة أرضهم ويستعينون علی صعوبة الحياة وکثرة المصاريف بتربية المواشي والدواجن٠ ولما کبر الأولاد ، ساعدهم أحد أعمامهم علی الهجرة إلی أوروبا رفقة الجيل الأول بحثا عن عمل يحسن وضعيتهم و يفتح الآفاق أمامهم ٠ لکن بقية الإخوان الصغار لم يستطيعوا مواصلة دراستهم نتيجة بعد دوارهم عن الطريق المعبدة المٶدية إلی أقرب مدرسة، کانوا يضطرون لحمل دراجتهم الهواٸية الثقيلة علی أکتافهم النحيفة، ويقطعون مسافات طويلة في طريق موحلة و تحت أمطار منهمرة،و يقضون يومهم يرتجفون من شدة البرد القارس ،بملابس مبللة وبطون فارغة، لقد تحملوا الکثير من المعاناة رغم حداثة سنهم وأخيرا استسلموا لواقع الحال، وغادروا حجرات الدرس دون فاٸدة تذکر٠ کان محمد أصغر إخوته ورغم بنيته الضعيفة يساعد أباه في الضيعة تارة ، ويشتغل عند المعمر فوترو في موسم جني العنب تارة أخری٠ و عندما تغيب أمه يتولی رعي الغنم بجانب الغلال غير بعيد عن المنزل، والذي يتطلب يقظة فاٸقة مخافة تسلل الأغنام إلی المزرعة وتسببها في ضياع جزء من محصولها٠ اقترب حلول عيد الأضحی المبارک، وکان محمد ينتظر قدوم ذلک اليوم الذي سيرافق أباه إلی سوق المدينة ليبيع تلک الأکباش التي حرص طوال عدة شهور علی تسمينها للظفر بمبلغ مالي يعينه علی التغلب علی کثرة المصاريف٠ نام محمد باکرا هذه الليلة للنهوض بعد الفجر مباشرة لمرافقة والده إلی السوق، سمع صوت محرک سيارة عمي عبدالله تتوقف عند حظيرة الماشية،نط من مکانه و انتعل حذاءه بسرعة البرق و فرک عينيه ، وقفز داخل السيارة المکشوفة ( بيک اب) بسرعة فاٸقة وضعت الأکباش في مکانها علی أساس أن يتولی محمد حراستها٠ انطلقت السيارة کالسهم تحت جنح الظلام ، وعند وصولهما إلی السوق بحثا عن محمد فلم يجداه، اسودت الدنيا في عيني الأب المسکين ، حاول العم عبدالله أنّ يطمٸنه ، لکنه لم يفلح،لحسن حظه ، لم تمر إلا لحظات حتی باع کل الأکباش بثمن مناسب لإحدی الجمعيات الخيرية٠ حينها طلب من الساٸق العودة بسرعة إلی الدوار للاطمٸنان علی سلامة محمد أصغر أبناٸه وأحبهم إلی قلبه٠ لما اقتربت السيارة وجدا محمدا في انتظارهما لم يصدق الوالد ما رأته عيناه وهو يصيح مندهشا إنه محمد يا عبدالله، إنه محمد، عانق ولده وأجهش بالبکاء وهو يردد والکل قد تحلق حولهما ٠ جلس علی حصير تحت ظلال الکروم وهو يردد : ظننت أني فقدت يا قرة عيني إلی الأبد ٠ وأم الولد تطمٸنه لقد سقط ولدي المسکين من السيارة عندما ارتطم جسمه بحبل الغسيل ولولا لطف الله لهلک.
السي أحمد الحكواتي
هو رجل طويل القامة معقوف الظهر، يتخذ من عصاه متکأ يحمل کيسا يحرص عليه کثيرا ،لا يسلمه لأحد مهما کانت الأسباب، يمشي بخطوات طويلة متسارعة لا يقدر أحد علی مجاراته في المشي٠ نتذکر يوما رافقه إلی حينا أحد أصدقاٸه يسمی هو کذلک السي أحمد، قصير القامة يجد صعوبة کبيرة للحاق به٠فيبدو منظرهما غريبا واحد يمشي والآخر يجري٠ لم ندر کيف تسلل هذا الرجل الغريب إلی قلب حينا المحصن والذي لا يستطيع أحد الاقتراب من حدوده ، فقد کان اسم بشاح يخيف القاصي والداني وهو المعروف بدقة تصويبه للحجارة فيصيب هدفه سواء کان قريباً أو بعيدا ومن مختلف الزوايا٠ في بداية الأمر ، کان شباب الحي يتحلقون حوله ,أما نحن الصغار فكان الخوف يمنعنا من الاقتراب منهم، فنتساءل عن سر قهقهاتهم القوية واللامتناهية و التي تملأ أرجاء المکان، کانت تنتابنا الريبة من مظهره والتوجس من حرکاته ونظراته الثاقبة٠ لم يدم الوضع طويلا، فقد صار من بيننا أطفال شجعان يحاولون التقرب منه بين الفينة و الأخری٠ يفترش المسکين الأرض في مدخل الدرب،هذا المکان الذي يمر منه الجميع، لقد کنا نتحرک بکل حرية ونشاط نمارس ألعابنا بعفوية و طلاقة ،لکن عندما احتل هذا الغريب المکان جثم علی أنفاسنا وکدنا نختنق ٠ کنا نتنفس الصعداء عندما يقصد حي لبني جديد أحيانا ويحل معززا مکرما عند أسرة الشلالي المعروفة بالجود والکرم٠ وأخيرا اهتدينا إلی حل سينقذنا من هذا الکابوس الجاثم علی صدورنا( أقرب طريق إلی الإنسان هو بطنه) فقد کنا نتسلل إلی المطبخ و نسترق فواکه متنوعة وطماطم ونسلمها له وأجسادنا الصغيرةترتعد من شدة الخوف مقابل ابتسامة منه ،تفسح لنا المجال لنعود لسابق عهدنا ونملأ أزقة الحي الضيقة ضجيجا و صراخا٠ مرت الشهور تلو الشهور فصرنا لا نبرح مجلسه ، خاصة أيام الجمع والآحاد، بل صرنا لا نفارقه، أينما حل وارتحل٠ السي أحمد الحکواتي عرف بذکاٸه الملفت، خصوصاً عندما يشتد به الجوع فقد کان أکولا نهما ، لا يعرف الشبع إلی بطنه طريقا٠ ينتظر شهر رمضان شهر الکرم والجود بفارغ الصبر ، فيتناول أطباقا شتی وزليفات متعددة من الحريرة الشهية خاصة إذا تزامنت مع موعد نشرة الأخبار المقدمة من طرف لطيفة القاضي والذي کان من المعجبين بصوتها الرنان، المنبعث من تلفاز عمي الحاج بولنوار بدرب الحاج علي من قبيلة بني ميمون (ناس الجود والکرم)٠ تری ماذا يحمل صاحبنا داخل الکيس ؟و الذي لا يفارقه قيد أنملة ويحرص عليه حرصا شديدا، وکثيرا ما يغضب إذا حاول أحد الشباب انتزاعه منه لاقتناص لحظات مزحة فقط، حينها ينکمش جسمه النحيف و يدخل رأسه بين کتفيه معلنا عن حالة صوم عن الحرکة والکلام، حينها ”يتضبب” السي أحمد ، فندرک أنّ الحل هو توفير وجبة غذاٸية في الحين لتدبير الأمر٠ وأثناء تناوله للطعام يتعمد أحدنا مشارکته و قد يستشيط غضبا وهو المعروف عندنا برفضه القاطع بأن يشارکه أحد وجبته، إما أن تکون من نصيبه هو فقط أو يترکها متذمرا ٠ ذات يوم أصبحت الحرکة في حينا غير عادية ، منبهات سيارات وزغاريد نسوة لاتنقطع،إنه موعد حفل زفاف الشاب جمال المعروف بطيبة قلبه وتفانيه في عمله ، في مثل هذه المناسبات يشعر السي أحمد بسعادة لا توصف ،وکأنه هو العريس لما سيحظی به من أکل وشرب طيلةأيام الزفاف فيکرمه أهل الوليمة إکراما کبيرا٠ بعد تناوله هذه الوجبة الدسمة تحلقنا حول السي أحمد تحت ظلال الزبوجة ٠ و فجأة فتح کيسه الغامض ،الذي لم ير النور منذ زمن بعيد ، ولکم کانت دهشتنا کبيرة عندما أخرج منه بعض الکتب التي تتضمن قصصا وروايات تاريخية فبدأ يحکي لنا تفاصيل أحداثها بأسلوب سلس وطريقة مشوقة ونحن کلنا آذان صاغية، نتتبع تسلسلها مشدوهين بلسان السي أحمد الذي کنا نعتبره أميا حتی أتانا الخبر اليقين ٠ في المساء و عندما تقترب الشمس من المغيب،نستند إلی جدران مسبحنا الأولمبي في القبوز وهو عبارة عن کدية تطل علی أرجاء المدينة البرتقالية الفتية ،و يتطوع أحدنا بإعداد إبريق شاي شريطة أنّ يکون بالشهيبة إرضاء لرغبة السي أحمد الحکواتي،وبعد الإلحاح الشديد واستعمال طرق شتی يرضخ أخيرا لرغبتنا ويأخذ عصاه العجيبة فيبدأ عملية نفخ راٸعة وکأني بالعصا آلة موسيقية من طراز رفيع، فجأة يتوقف العزف ويشرع في أداء مواويل لکبار شيوخ المنطقة والتي غالبا ما تدور مواضيعها حول الغربة ومعاناتها أو بر الوالدين أو تعبيرا عن حالات اجتماعية تشد إليها الناظر والمستمع شدا٠ لقد استمر هذا الجو البهيج لسنين طويلة، وبدأت تتغير ملامح الزمان والمکان و ظهرت المجموعة الغناٸية العشران بقيادة الإخوة عمر و الفداوي والزنبي ورابح وبولعيون في حي سالم العتيق بحيث کانت الفرقة مکونة من شباب الحي الأفذاذ ، ذاع صيتها في کل مکان ،٠ أما نحن فقدت انشغلنا بالدراسة أکثر،واستخلفنا جيل جديدٌ لم يستطع صاحبنا التأقلم معه، مرت شهور وأحسسنا بفراغ کبير في حينا، لقد اختفی السي أحمد الحکواتي عن أنظارنا إلی يومنا ھذا ، لکن أبدا لن تنساه قلوبنا،سيعيش دوماً في ذاکرتنا ،فإن عاد يوماً سنقيم له عرسا بهيجا في نادينا
حركة دائبة في حينا
لم نکن نحس بالقنوط والملل إطلاقاً، ولا تعرف الرتابة إلی نفوسنا طريقا،فقد کنا نستيقظ باکرا و نتمتع بکل اللحظات ونسترق أخری تحت جنح الظلام الدامس في ألعاب مختلفة، کانت کثيرة ترتبط أغلبها بالمواسم والمناسبات لکننا کنا نفضل لعبة ﴿الراوليکا﴾بحيث تکون المنافسة علی أشدها لهذا تتعالی الأصوات منذ البداية بأن تکون القسمة متعادلة ومستوی الفريقين متقاربا ، تستمر اللعبة لساعات وهم کل واحد منا إما إنقاذ أصدقاٸه من السجن أو يلقی عليه القبض هو کذلک، وقد لاتنتهي أطوارها إلا عندما يتدخل الکبار بمناداتنا بالدخول إلی المنازل٠ وتبقی الأمور علی حالها إلی اليوم الموالي ٠ بعفوية بريٸة، تنتقل التجارب والخبرات من شخص لآخر، فالاعتماد علی النفس ومحاولة إثبات الذات کانت سيمة هذا الجيل ، عشقه للتحدي يفوق کل وصف، يحارب الخوف بنفسية البطل الصغير، تراه يبحث عن أجزاء لا قيمة لها، لکنه بذکاٸه وإصراره المستمر، يحولها إلی لعبة مسلية تجعل منه بطل المرحلة ومحطة إعجاب الآخرين٠ في حينا العتيق هذا، تتزاحم الأحداث، لانشعر برتابة الحياة بتاتا، مع اقتراب عيد المولد النبوي الشريف ،يزف لنا الصديق بوبول العاشق لکرة القدم حتی النخاع ،خبر قدوم فرقة عيساوة الجبلية التابعة للشيخ الکامل بمکناس إلی مدينة برکان٠ کانت أسعد أوقات حياتنا، فدقات الطبول و نغمات المزامير تستهوينا کثيرا فتجعلنا نرافقهم إلی أحياء عديدة من المدينة وأرجاٸھا، وقد نضطر أحياناً إلی حمل أکياس الدقيق وکأننا أفرادا من المجموعة٠ کان السيد حيدا رجلا أنيقا في ملبسه ويزيده شکل العمامة علی رأسه بهاء، وهو يميل يمنة ويسرةمع نغمات مزماره الراٸعة، خاصة عندما نصل إلی دواوير بني مهدي ذات الطبيعة الخلابة، مما يجعل الطيور تنزعج وتطير مذعورة لقدوم هذا الزاٸر الغريب الذي احتل المکان و تسبب في إيقاف عذوبة سمفونية الزمان والمکان٠ مع مرور الزمان،اکتسبت هذه الفرقة شهرة واسعة ومريدين من مختلف الأحياء ، قد يرافقونهم إلی مدينة مکناس للحضور في الموسم السنوي بمناسبةعيد المولد النبوي الشريف٠ في حينا کانت المجموعة تحيي ليالي صاخبة فقد نضطر لدفع عشرين فرنکا للسماح لنا بالدخول لمشاهدة هذا العرض العجيب ، فأصوات الطبول والمزامير تسمع من بعيد ، وتجعل البعض من الرجال والنساء يدخلون في نوبات من الحرکة السريعة والمتواصلة ويصدرون أصواتا غريبة ويزداد قرع الطبول مما يجعلهم يتساقطون تباعا، فاقدين لوعيهم٠صور وأنغام مازالت عالقة بذاکرتنا إلی اليوم رغم مرور عقود من الزمن٠ ........................... جمعت هٶلاء الرجال والنسوة ظروف شتى،تركوا كل شيء خلفهم ولم يحملوا معهم حاجات ذات قيمة تذكر. همهم الوحيد بيت يأويهم وعمل يضمن رزقهم وقوت يومهم. فقد کانت مدينة بركان في طور النشأة فلا ترى الا بعض المنازل المبنية بلبنات التراب محاطة بالصبار،متناثرة هنا وهناك ببويقشار و لگرابا العليا. نزحت عدة عاٸلات من اهالي بني ميمون لتستقر بدرب الحاج علي، تلتها أسر من ضواحي زايو وأولاد شعايب وبني بويحيي فاستقرت بجانبها ، بعدما کانت في البداية تقطن بحي بويقشار، اشترت بقعا ارضية من المرحوم اليماني ، سرعان ما بنت بيوتات بسيطة، استقروا فيها ونقلوا طريقة عيشهم إلی هناک بحيث حافظوا علي نسيجهم الاجتماعي لمواجهة ظروف الحياة القاهرة. مع شروق الشمس نستيقط غالبا على أصوات بعض الباعة المداومين علی الحي،فهذا باٸع الاسفنج الساخن تسمع صوته الجهور ينفذ عبر النوافذ الصغيرة المزينة بنبتة الحبق العطرة إلی آذاننا ،فقد يتوقف برهة إذا لم تشتر بضاعته ، مما يدفعه إلی رفع صوته اكثر فأكثر ،وقد يتزامن مع باٸع النعناع ‘المانتي‘ الذي يفضله الجميع لراٸحته الزكية ومذاقه المنعش غالبا ما تغضب الأم اذا ما خالفت طلبها واشتريت نوعا آخر. يفتح عمي السي العربي دكانه وهو الفقيه الوقور البشوش ،يحظى بتقدير واحترام الكبار رجالا ونساءكيف لا وهو الذي يحفظ کتاب الله و يمتاز بقراءته الشيقة وقد حباه الله بصوت جهور و لسان فصيح. يضع كل شيء في مكانه المعتاد، فيتسابق الاطفال لشراء قطع الخبز الكبيرة ‘البولنجي‘ بثمانين فرنكا والحليب المركز ‘نستلي‘ وأملهم ان يحظوا ببعض القطع النقدية‘خمس او عشر فرنكات ك‘تدويرة ‘ صباحية لقضاء مآرب أخرى. كم كنا نشتاق لتلك الجلسة الصباحية ،الجميع يتحلقون حول ماٸدة واحدة،جالسين علی أفرشة بسيطة.نتناول فطور الصباح،وقد تزيد فرحتنا إذا كان بيننا ضيوف کرماء ،غالبا ما نلتصق بهم ولا نفارقهم حتى يكرموننا ببعض الفرنكات، فلم تكن تهديدات والدينا تفسد فرحتنا هذه. تبدأ الحركة تدب في هذا الحي البسيط ذي الدروب الضيقة،فالكل يقوم بواجبه ويٶدي مهمته، نحمل نحن الصغار الخبز النيء الى فرن ‘الصفارة‘ في لبني الجديد، قد نرتعد من الخوف بسبب تأخرنا ، خاصة إذا كان العجين شعيرا فهو يتطلب حرارة عالية،فيبدأ السي محمد في الصراخ والعتاب مرددا :في المرة القادمة اذا كررتها، والله لن اقبلها اطلاقا،لكننا كنا نحبه كثيرا،كان انسانا طيبا بشوشا ،متقنا لصنعته ، له زبناء كثيرون وخاصة في الايام الاخيرة من شهر رمضان لحرص الناس علی استقبال الضيوف بأطباق الحلوی المتنوعة بمناسبة عيد الفطر،مما يضطره للسهر حتى اقتراب موعد السحورلتلبية رغبات الساکنة من الأحياءالمجاورة٠ مع اقتراب الساعة العاشرة،تزدهر كل انواع التجارة في دروب الاحياء لقلة الحوانيت، فينشط الباعة المتجولون،فلكل واحد زبناٶه الداٸمون، فجل النساء لا يغادرن منازلهن الا لماما، فتجدهن يتركن أشغالهن بمجرد سماع صوت عمي محي الدين البزاز، الذي يتقن فن تجارة مختلف أنواع القماش،يوقف دراجته الهواٸيةة ويفتح صندوقه العجيب فتخطف كل واحدة قطعة او أكثر فبعد فحصها والتدقيق في ألوانها تبدأ عملية المساومة، فغالبا ما يحصل التراضي حينها يسجل العم اسم الزبونة وثمن القطعة عله يحظى باستلام ثمنها في الزيارة القادمة. اما الاطفال فينتظرون باٸع الشامية عند مدخل المدينة،فبمجرد نزوله من الحافلة القادمة من وجدة، حتى يتحلقون حوله، فيلبي كل الطلبات والاذواق بابتسامته المعهودة وصبره الجميل. ‘يتبع‘
حين ينطق المعلم
كان عمي العيد رجلا أنيق الملبس، معروفا بتسريحة شعره الجذابة ، مكافحا و مثقفا ونشيطا. له أسرة صغيرة مكونة من زوجة و بنتان وثلاثة أولاد، يشتغل في المدينة ، أما أسرته فظلت تستقر في البادية٠ يقصد مقر عمله في الصباح الباکر علی متن دراجته النارية غير آبه لا بقساوة الطقس من برودة شديدة وأمطار غزيرة ورياح قوية ولا بشدة حرارة الصيف القاٸظة٠ يمتطي دراجته وهو يوصي أبناءه بالجد والاجتهاد و التزام الهدوء ومساعدة أمهم عند الحاجةٍ٠ عندما يصل إلی محله الموجود في حي تجاري ينبض بالحرکة منذ الساعات الأولی من الصباح، يرکن دراجته جانبا ويحکم إغلاقها وهو الحريص علی ضبط کل أموره الصغيرة منها و الکبيرة ، فهو أثناء حديثه يميل دوماً إلی تقديم النصاٸح والمواعظ وکأنه خلق لتأدية رسالةٍ سامية هدفها إسعاد الناس ولو بكلمة وابتسامة خفيفة٠ رجع الطفل الصغير إلی منزله المتواضع المحاط بأنواع شتی من الأشجار المثمرة، مرهقا من شدة التعب والعياء، کان عليه أن يقطع کل يوم مسافة طويلة للوصول إلی المدرسة . من عادة عمي العيد أن يعود إلی منزله قبل غروب الشمس ، اللهم إذا أرغمه بعض زبناٸه علی إتمام عمله فيضطر إلی تلبية رغباتهم من شدة الحياء٠ يتجمع الصغار بجانب المنزل وهم ينتظرون أباهم، وسرعان ما يتسابقون لملاقاته، عندما يرون ذلک الضوء الخافت يقترب شيٸا فشيٸا ، وصوت محرک الدراجة النارية يکسر هدوء وسکينة المکان٠يشعر الأطفال بفرحة لا توصف وهم يعانقون ويقبلون أباهم ، و يحملون الأکياس الصغيرة ويدلفون إلی المنزل، وعمي العيد يمشي بخطوات ثابتة محبورا سعيدا٠ اجتمعت الأسرة حول الماٸدة لتناول طعام العشاء، بدأ الجميع يأکل إلا محمد ، ليس من عادته، فهو أکبر إخوته، داٸم البشاشة والمرح ، وقد تعتمد عليه الأسرة لقضاء مآرب کثيرة رغم صغر سنه لنباهته وذکاٸه٠ الأمر الذي أثار انتباه أبيه، فرغم شدة جوعه لم يستطع مواصلة الأكل ، و فجأة ، سأل ابنه قاٸلا بلهجة حزينة: ماذا حدث يا صغيري لماذا لا تشارکنا الطعام؟ أيؤلمک شيء؟ أأنت مريض؟ في تلک اللحظة أجاب محمد أباه ، لقد طلب المعلم منک الحضور غدا إلی المدرسة، شغلت تساؤلات کثيرة بال الأب الطيب لم يهتد بتاتا للإجابة عليها وهو يحاول أن يسترق سويعات من النوم ليريح جسمه النحيف المرهق ويستعد لآخر أتعب منه٠ لاح الصبح وأشرقت الشمس وسطع ضياٶها، فرح محمد وهو يرکب الدراجة لأنه سوف لن يحس بالتعب والعياء هذه المرة ، فرغم برودة الطقس شعر بسعادة کبری وهو يتمتع بجمال الطبيعة وکأنه في نزهة ربيعية٠ توقف محرک الطفطافة ،معلنا انتهاء الرحلة الشيقة٠ استقبل السيد المعلم أبي استقبالا حارا وأنا مشدوه أتفرس وجوههما وأرهف السمع لالتقاط کل کلمة ينبسان بها، انتهی اللقاء بينهما ، ودع أبي معلمي بحرارة لم أعهدها فيه من قبل٠ جلست في مکاني المعهود وشرع مدرسنا في شرح الدرس و هو يطيل النظر إلي وکأن لسان حاله يريد أن يكلمني في موضوع ما. عند نهاية حصة المساء سلمني معلمي الغالي هدية مازلت أحتفظ بها إلی يومنا هذا في مکتبتي وهو يردد أعانك الله يابني٠ لأول مرة أقطع تلک المسافة الطويلة الفاصلة بين المدرسة والبيت بدون عناء، ناديت أمي من بعيد والفرحة تغمر کياني، لأ دخل على قلبها ومضة سعادة وسلمها هدية معلمي الغالية ،إنها أول هدية في حياتي من قبل معلمي الذي أنار دربي ، لکني تفاجأت لما رأيت کل الأثاث في غير موضعه ، سألت أمي : ما بال المنزل هکذا؟ ردت علي و عيناها تفيض دمعا: من أجلک يا ولدي سنغادر منزلنا هذا لنقطن عند جدتک في المدينة، ينبغي أن تتابع تعليمک هناک، هذا ما أوصی به معلمک أباک هذا الصباح. غادرنا منزلنا الجميل تحت جنح الظلام، وخيم حزن عميق على نفوسنا، توقفت السيارة قرب منزل متواضع في حي شعبي بدون إنارة ، طرق أبي بابا قصديري وسرعان ما ظهر وجه جدتي، عانقت أمي بحرارة شديدة مرحبة ،تحلقنا نحن الصغار حولها والفرحة تغمر قلوبنا. في اليوم الموالي التحق محمد بمدرسته الجديدة،انسجم بسرعة مع أقرانه وواصل اجتهاده و نشاطه،وأصبح من التلاميذ المرموقين بفضل نباهته وذاكرته القوية. حصل محمد على شهادات عليا مكنته من تبوء مناصب عليا، وأصبح من كبار الكتاب والشعراء والباحثين. ولم ينس يوما فضل ذلك المعلم الذي اكتشف نباهته وشغفه بالعلم.
من رحم المعاناة
كانت الظروف الاجتماعية القاسية تطبع حياة جل الأسر في حينا العتيق، بيوت ضيقة ، وكثرة الأبناء والبنات إضافة إلى متطلبات الحياة الضرورية. وعلى الرغم من بساطتها إلا أن المعيل الوحيد للأسرة مهما فعل لن يستطيع توفير كل ما يلزم ، ولو اشتغل طيلة اليوم، فقد يعمل ا لآباء طوال أيام الشهر ،لكن مدخولهم لن يكفي لسد مصاريف البيت. اغتنم مصطفى فرصة وجود أبيه في المنزل بعد عودته متعبا من السوق ،جلس بجانب أمه راجيا من أبيه أن يشتري له سروالا جديدا، انتفض الأب من مكانه وكاد يقلب مائدة الغذاء، أزبد وأربد والولد يحتمي بجسد أمه المنهك من التعب والفاقة، لا سكن لائق يسترها ولا معيشة طيبة تحفظ لها ماء وجهها الذي تبخر مع أعوام كلها معاناة ،مواعظ سمعتها من المرحومة أمها التي خبرت أحوال الحياة وأهوالها . في لمح البصر وجد مصطفى نفسه منعزلا في مكان بعيد عن الأعين،سالت عبرات ساخنة على وجنتيه الحمراوين، اقترب منه جارهم عبدالله، حاول أن يخفي وجهه،لكن الرجل الطيب ربت على كتفيه متسائلا عن سبب هذا البكاء وفي هذا المكان ،أجابه الولد بصدق وهو الذي لا يعرف للكذب طريقا، فقد تأثر بحديث معلمه في درس الصدق وما زال يتذكر القصة التي تتحدث عن عاقبة الكذب. سأدلك يا ولدي على عمل يتطلب صبرا وعزيمة،فإن فعلت ستوفر نقودا تشتري بها كل ما يلزمك من ملابس وكتب وغيرها. عاد إلى منزله و فاتح أمه المسكينة في موضوع الاشتغال بفيرمة النوار بضواحي المدينة،أطبقت رأسها وفكرت مليا، وأخيرا نطقت بكلمات يطغى عليها تخوفها على فلذة كبدها، كيف لهذا الطفل الصغير أن يغادر البيت على الساعة الثانية صباحا تحت جنح الظلام ولا يعود إلا بعد صلاة العصر ،يقضي جل أوقاته في ظلام دامس وتحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف. فتشت في صندوق كبير في زاوية الفناء تضع فيه بعض الأشياء التي لا تحتاجها إلا نادرا. فرحت كثيرا لما وجدت قفة متوسطة الحجم ستصلحها ليستعملها صغيرها في قطف أزهار الياسمين. حاولت الأم المسكينة أن تنام بعض السويعات ،لكن لم يغمض لها جفن مخافة إلا توقظ صغيرها على الساعة الثانية صباحا، اقترب موعد انطلاق عربة نقل العمال ، أعطته القفة وبداخلها علبة گيگوز مملوءة بالشاي وقطعة خبز وبيضتان فتحت باب المنزل القصديري المتهالك وأوصت احمد ابن جيرانها وكأنها تودعه أمانة غالية. كان يكبر ابنها بحوالي عامين لكنه كان لطيفا ونشيطا. توقف الجرار وتسارعوا إلى ركوب العربة، صعد احمد بسرعة البرق مد يده الغضة ليساعد هذا الطفل التائه و سط ظلمة دامسة ودهشة مرعبة. انطلقت العربة وهي تميل يمنة ويسرة وأجساد الصغار متزاحمة متلاطمة . لم يتمتع الصغير بنسمات الفجر المنعشة لأن المسافة طويلة فالآلام المتكررة التي تحدثها العربة إثر سقوط عجلاتها في الحفر الكثيرة.نغصت عليه متعة هذه الجولة التي لم ير لها مثيلا ، عندها تتعالى الأصوات لتنبيه السائق بسقوط احد الأطفال أو أكثر نتيجة الزحام الشديد وعدم توفر أدنى حد لشروط السلامة. بمجرد توقف العربة يوزع الكابران والذي ذاعت غلظته وجبروته كل أنحاء المدينة. فقد أصبح حديث البيوت والأزقة والأسواق لقساوته الشديدة على أطفال فطموا سريعا علي الفاقة والعوز. همهم الوحيد هو الحصول على لباس يقيهم قر الشتاء وحر الصيف مع توفير بعض الدريهمات لشراء اللوازم المدرسية، شعور لا محالة سيكون حافزا قويا للاجتهاد والمثابرة لتحقيق غد أفضل بدل قضاء حياة ستذبل يوما كما يحدث لبتلات أزهار الياسمين والتي لم تعد أنوفهم تشعر بعبقها.كما تزهو بها الشقراوات في شوارع باريس وساحاتها. ولو علمت تلك النسوة أنها ممزوجة بعرق أطفال يتامى وآخرون نخر الفقر أجسادهم البضة لما وضعتها على فساتينها الراقية. كان اليوم الأول بالنسبة لمصطفى بمثابة تجربة قاسية، فلم يتمكن جسمه النحيف تحمل هذه المشاق، تعب وجوع وعطش وخوف شديد من الثعابين والحشرات الكثيرة التي تجذها أضواء المصابيح الخافتة ومياه السواقي المتدفقة بين شجيرات الياسمين،ورائحة الأزهار والتي لم تعد عطرة الآن. بالنسبة لهؤلاء الأطفال فشدة التعب أفقدتهم حاسة الشم. رغم شدة المعاناة، تحملها الصغير بكل قواه و هو الذي كان لا يفارق جده،ولا يغفو له جفن إلا بعد أن يسرد حكاية بأسلوبه السلس ونبرة صوته الخفيفة وبراعة طريقته في الحكي تزيد الإحداث تشويقا ولهفة. رسمت معالم حياة جميلة في أعين الطفل تعتمد على الجد والإخلاص في العمل. انتظر بداية موسم دراسي جديد. لكن هذه المرة سيكون مختلفا عن سابقيه، فقد بادر بشراء كتبه ولوازم الدراسة بنفسه بعرق جبينه، وقام بتغليفها بمساعدة أمه وهي لا تكف عن الدعاء له بالصلاح والفلاح. كان يجيد قراءة النصوص بطريقة سلسة وعذبة، يندهش لها الجميع الذين يتساءلون دوما عن هذا التحول المفاجئ في مسار مصطفى الدراسي، ويبحثون عن ذلك السر الخفي وراء ذلك ، هو وحده من يعرف الإجابة عنه لكنه يبقيه لغزا كمصباح علاء الدين.مرت السنون والنجاح ديدنه، وتسلق مراتب التفوق بكل عزم وثبات سلاحه دعوات أم صادقة وكدح أبيه وصبره العظيم لتوفير لقمة عيش صعبة رغم المرض والهزال. عند حصوله على شواهد عليا،تقلد منصبا ساميا وتغيرت حالته المادية وأصبح له شأن كبير.وبمجرد حصوله على إجازته السنوية يعود إلى بلدته التي يعشقها كثيرا لقضاء عطلته مع عائلته ، يصاحب أسرته إلى منتجع رأس الماء،بلدة وديعة تطل على شاطئ جميل ،يمتاز بمكان عال لهواة القفز والغطس وملاذ آمن لهواة الصيد الفارين من لفح حرارة الصيف وضغوطات الحياة، يلتقون فوق تلك الصخرة الكبيرة ROCHERيتبادلون أسرارهم ويحكون مشاكلهم وكأنهم في عيادة نفسية. قد يتفرقون بعد حين لكن شريط الذكريات يأخذ مكانا ما بذاكرتهم ويخزنه إلى الأبد. رغم توفر عدة طرق تؤدي إلى هذا المكان الأخاذ، يجد السيد مصطفى نفسه وكأن قوة خفية تجذبه إلى هذا المكان ليمر بجانب ضيعة الياسمين ، فلا يجد لأشجارها أثرا سوى تلك البنايات الشاهدة على تاريخ حافل بالمعاناة، لاحظ طفله الصغير دمعة عالقة بجفن عين أبيه، فاجأه لماذا تبكي يا أبتي?، لم يستطع الرد، حتى انهمرت دموع سخية على خديه،حينها أوقف سيارته وبدأ يسرد ذكريات هذا المكان الأليمة. ابتسم الأب و ربت على كتف ابنه وقال: لولا هذا المكان وبؤس الزمان لما حققت أحلامي، فبفضل معاناة تلك الليالي البئيسة الصامتة التي قضيتها بين أزهار الياسمين التي لم تفح في صبايا عطرا زكيا،حققت آمالي.
النعل المرهون لدى الحلاق
غير بعيد عن حينا العتيق سالم، يتربع سوق تجاري ،مكون من عدة حوانيت ومقاهي، ودكاكين لكثير من الصناع والحرفيين. حركة تجارية لا تنقطع منذ شروق الشمس إلى ما بعد مغيبها،يقصدها الناس من كل حدب وصوب قصد شراء كل ما يلزمهم،بحيث يجدون كل ما يرغبون فيه من مواد غذائية مختلفة وملابس وأواني،ويشتد الزحام بعد صلاة العصر ،فترى أمواجا بشرية تروح وتغدو في هذا المكان الشاسع .يضع الفراشة سلعهم على كل شبر من زنقة العيون، فتتوقف حركة السيارات، فكم عانى السكان من ويلات هذه الفوضى، نساء وضعن حملهن في ظروف صعبة لعدم قدرة ولوج سيارة الإسعاف إلى داخل الحي،وكثير من المرضى حملوا على الأكتاف في اتجاه المستشفى. اقترب عيد الفطر، طلب مني احد أقراني ‘ن‘ وكان من أعز أصحابي، نلعب ونتجول معا،وندرس فى قسم واحد،أن أرافقه إلى دكان حلاق في الطحطاحة ،يشتغل فيه رجلان،واحد منهما قصير القامة، لا تغادر الابتسامة محياه، يؤنس زبناءه بحكايات شيقة،فلا تشعر بطول مدة الانتظار، أما الآخر فكان جسمه ضخما ،طويل القامة مقطب الجبين، لا يبتسم إطلاقا. من سوء حظ صاحبي المسكين، كان هذا الرجل هو من سيحلق شعره، خاطبه بلهجة صارمة، اجلس على الكرسي ولا تتحرك، وضع ميدعة على كتفي صاحبي، بدأ يحلق شعره، فبدت علامات الخوف على وجه‘ن‘،التصق بالكرسي ولم ينطق ببنت شفة.كانت لحظات عسيرة بالنسبة لزميلي. تنفس صديقي الصعداء لما أنهى ذلك الرجل المتجهم من حلاقة شعره،اخرج صديقي قطعة خمسين سنتيما ذات اللون الذهبي وناولها للحلاق ،لكن هذا الأخير كال بشتى أنواع السب والشتم لهذا الطفل الصغير،أمسك القطعة وأمر بنزع حذاءه المطاطي ووضعه في احد أركان الدكان ، واقسم انه لن يسترده إلا إذا أضاف عشرين سنتيما. خرجنا من ذلك السجن اللعين وصديقي المقهور يجهش بالبكاء،قطعنا تلك المسافة بين فضاء الطحطاحة و حي سالم،وصديقي يمشي حافي القدمين يتألم عندما يضع رجليه على حجارة حادة. لما اقتربنا من منزله، لاحظ الأب ولده حافي القدمين ،استشاط غضبا وهو يوبخ ابنه، لكني تدخلت بسرعة قبل ان يعاقبه عقابا شديدا،فشرحت للعم‘ع‘ تفاصيل الواقعة. ناوله درهمين، وعدنا بخطى متثاقلة الى الطحطاحة لاسترجاع ذلك الحذاء المحتجز في ركن دكان حلاق لم يرحم طفلا في فصل شتاء قارس.
لفقيرة مريم
إنها جدتي لأمي ،كانت تلقب بالفقيرة مريم من طرف الجميع صغارا وكبارا. مازلت أتذكر ذلك المساء الذي جاءت لزيارتنا وأنا ابن الست سنوات. دخلت بستان البرتقال من خلال الترعة بين أشواك العوسج، الذي يوجد فيه منزلنا البسيط بجوار آخر لأحد جيراننا ،فالمكان ضيق ،طريق متربة وأشجار البرتقال المتنوعة . وكان في ملك المعمر‘فوترو الإبن‘ الذي يملك سيارة ‘R16' يمر كل صباح في توقيته المعتاد ليراقب الأشغال ويقدم النصائح بأسلوب جميل ،يختمه بابتسامته الخفيفة ويغادر المكان إلى ضيعة أخرى. كم كانت فرحة أمي كبيرة عندما رأت جدتي، تعانقتا طويلا وتبادلتا المشاعر والأشواق وكلاما متقطعا .أما أنا وأخواتي فتحلقنا حولهما في مشهد رائع وبهيج. لقد جلبت معها من المدينة أشياء كثيرة في أكياس مختلفة وقطعا من الحلوى وزعتها علينا بالتساوي .أعجبتنا كثيرا، لكننا كنا نتهافت على نوع واحد هو ‘جبح‘ لمذاقها اللذيذ. لم ندر ما سر اهتمامها الكبير بأمي في ذلك الوقت وتقديم جميع المساعدات بين حين وآخر إلا عندما كبرنا وأدركنا بأن صحة أمنا كانت ضعيفة ،ومع كل هذا كانت تقاوم الظروف القاسية وحيدة. انتظرنا عودة أبينا مع غروب الشمس، فهو دائما يجدنا في انتظاره. تسلمت منه دراجته القديمة وناول أختي الكبرى ما أحضره معه، فقد يكون كيس حلزون أو قنينة لبن أرسلتها خالتي توتة زوج عمي علال مسير تلك الضيعة أو علب سردين جلبها من دكان عمي العربي بجوار مسجد الخضران العريق. فرح أبي بقدوم جدتي. بعد تناول طعام العشاء. سهرنا لساعات أخرى في جو من الغبطة والمرح زادتها حكايات جدتنا ترقبا وتشويقا. في تلك الليلة نمت بجانب جدتي الحنون، قالت لي:" هل تذهب معي يا ابني إلى المدينة لتتعلم في المدرسة؟" أجبتها بكل براءة سأرافقك يا جدتي. كم كانت الفرحة بادية على محياها رغم ضوء الشمعة الخافت الذي لايكاد ينير الغرفة. في الصباح الباكر انزعجت جدتي كثيرا وتغيرت ملامح وجهها عندما أبديت امتناعي عن مرافقتها. فصاحت بأعلى صوتها الذي أخاف أخواتي الصغيرات فاستيقظن فزعات من شدة صراخي وبكائي. عندها غضبت جدتي وقالت :ألست أنت يابني من وافق على التعلم في المدرسة؟ ماذا ستفعل هنا في هذا المكان؟ أين ستدرس؟ لا،لا، لن أتركك للضياع؟ أنت مازلت صغيرا لا تعرف مصلحتك ؟لن أتركك ترعى ماشية السي الحسن كحال أخيك‘ح‘ .انظر إلى حاله اليوم . لم يجد عملا يليق به! ولما يئست ،جذبتني بكل قواها واسرعت الخطى ،صرخت وبكيت وتوسلت أمي لكن لا جدوى من ذلك. التحقت بنا أختي الصغيرة‘ت‘ حاملة نعلي. بعد انتظار طويل توقفت إحدى السيارات فدلفنا داخلها. كانت أول مرة أركب سيارة اندهشت وكدت أصرخ بأعلى صوتي عندما أسرعت السيارة وشعرت كأن أشجار التوت الضخمة الباسقة على جنبات الطريق تتحرك . بعد وقت وجيز وصلنا المدينة. أمسكتني جدتي بإحكام مررنا بأزقة طويلة وكثيرة حتى دخلنا منزل ابنة خالتي ‘ف‘ المستقرة حاليا في مدينة فاس. لم أرها من قبل لكنها كانت لطيفة وطيبة. بسرعة غادرتنا جدتي، تاركة وراءها طفلا منبهرا بهذا العالم الجديد. منزل جميل غرف وحمام . ما كان يؤنسني وجود شجرة مشمش وسط الفناء. لقد تم جني جميع ثمارها إلا واحدة توجد في غصن بعيد. بسرعة البرق صعدت بثقة وثبات و جنيت الثمرة وسط انبهار الجميع. قضيت أول أيام وجودي بمدينة بركان في حي لبني الجديد، كنت أخاف مغادرة البيت لأن كل المنازل متشابهة بكاملها. خرجت صباحا اشتري قبضة نعناع من حانوت مجاور لكني تهت في الأزقة الضيقة. ولحسن حظي في تلك اللحظة مر عبدالفتاح بجانبي وتبعته وكان شيئا لم يقع كم كنت أخاف أثناء الليل عندما تنطفئ الأضواء ،فيغادر النعاس مقلتي، حينها يسرح خيالي وأتذكر أمي وهي تطعم دجاجاتها علها تسمن وتبيعها للدلال بأربعة دراهم. وأحن إلى أبي عندما يعود مساء، فأتسلم منه دراجته العادية ،أركبها بصعوبة معتمدا على جذع شجرة بجانب المنزل .أمتطيها وأقوم بجولة قصيرة لكن غالبا ما تنتهي بسقوطي على حافة الطريق قد أتألم قليلا وأعيد الدراجة إلى مكانها المعتاد لأنها ستكون علي موعد مع أبي بعد صلاة الفجر. أعيد شريط حياتي خلال السنوات الماضية وعيناي لايساورهما النوم كيف كنت أقضي جل أوقاتي باحثا عن أعشاش الطيور وفراخها أوبيض دجاجات تعودن علي وضعه بعيدا عن الخم. في الأيام الساخنة لا ابرح ذلك الصهريج الذي يتدفق ماءه في الساقية المتجهة إلى البساتين المجاورة.كما لا أنسى قدوم حفيدة جارتنا‘ع‘ وأخيها من وجدة خلال العطلة المدرسية كانت تكبرنا بسنوات قليلة‘ كنت وأخواتي ننتظرهما على أحر من الجمر،كانت بارعة في إعداد ما كانت تسميه‘ خلطة‘ وهي عبارة عن سلطة من الطماطم والفلفل والبصل وخضرا أخرى لا أتذكرها. يسرع كل واحد منا إلى مطبخه فيأخذ ما أراد و يتجه إلى ظل شجرة البرتقال للتمتع بهذه الأكلة في جو ربيعي معتدل.كنت اشتاق إلى علبة الحلوى اللذيذة التي كان يوزعها احد العمال الفرنسيين،لا استطيع وصف تلك الفرحة عندما نسمع منبه دراجته النارية فنتحلق حوله فيعطي كل واحد منا علبته ويتمتم بكلمات لم نكن نفقه معناها فينطلق إلى جميع المنازل في كل ضيعات المسيوو فوترو الابن. لم أكن اشعر متى أغمضت عيناي و دخلت في سبات عميق. مر أسبوع بالكامل حتى حان يوم اصطحبتني فيه جدتي الي منزلها بحي‘س‘ العتيق. دخلناه مع حلول الظلام،فالأمر مختلف هنا،لاماء ولا كهرباء. جلسنا قليلا ثم بدأت جدتي بإكرام ضيفها الصغير،أمسكت سكينا ،قطعت دلاحة فاحت منها رائحة مازالت عالقة بذاكرتي إلى يومنا هذا. سمعنا دقات على الباب الخشبي فأسرعت لفتحها، إنهم من أقارب جدتي. شاركونا أكل الدلاحة بعد إلحاحها،وهي المعروفة بالكرم والجودعند الصغيروالكبير حتى كلبنا ‘ريكس‘ و أخوه‘بلاك‘ كانا ينتظران قدومها صباحا من المستشفى فبمجرد ظهورها في زقاق الحي حتى يسرعا لاستقبالها تضع بعض الطعام في آنية كل واحد منهما وهما يبصبصان بذنبيهما تعبيرا عن فرحهما بكرم جدتي شرعت في التعرف على الحي ودروبه،منازل بسيطة وأزقة ضيقة،وحانوت عمي العربي الفقيه والذي كان يكرمنا ‘بفويلات علي الرأس بإطراف أصابعه محدثة فرقعات خفيفة، كانت مداعبته لنا تسعدنا كثيرا. في البداية كنت أخاف من المقبرة الكبيرة المحاذية للحي. لكن سرعان ما استأنست مع الوضع الجديد ساعدني في ذلك كثرة أقراني وإعجابي الشديد ببع ألعابهم المسلية ككرة القدم والكلل لقد أنستني رتابة البادية. كانت جدتي وفية لمبادئها و تحقيق أهدافها كيف لا وهي التي عاشت حياة الفقر والفاقة انتقلت مع أسرتها الصغيرة إلى منطقة عين تاوجطات قرب مكناس واستقرت هناك مدة من الزمان وعادت عائلتها إلى مدشرهم بنواحي زايو. ثم هاجرت إلى بلاد الجزائر رفقة ابنها البكر وصغارها بحثا عن العمل في ضيعات المعمرين الفرنسيين.عاشت مرحلة مهمة من الاستقرار و الارتياح. لكن ظروفا طارئة عجلت بعودتها إلي أرضها الأم وبعد مدة يسيرة شاءت الأقدار أن تتعرض إحدى حفيداتها لحادثة،فأسرعت بها إلى مستشفى الدراق بمدينة بركان. تم الاعتناء بالصغيرة اعتناء كبيرا استعادت صحتها وعافيتها. ولحسن حظ جدتي،التقت بإحدى جاراتها التي اقترحت عليها الاشتغال رفقتها بالمستشفى رفضت في البداية لان طبعها لا يسمح لها بالعمل بجانب الرجال. لكن المرأة ألحت عليها وأقنعتها في الأخير. ذات صباح ،همست في أذني قائلة:"ستذهب إلى المسيد لتحفظ سورا من القران الكريم ، كما وعدتك لتلتحق بالمدرسة بعد عطلة الصيف ، في هذه المرة شعرت بفرحة كبيرة. وقفت جدتي الوقورة بباب لمسيد،رحب بها الفقيه ‘بنهلال‘ رحمه الله. جئتك اليوم بضيف جديد ليتعلم ويحفظ بعضا من سور كتاب الله. أمرني بالجلوس. أكرمته جدتي وهي توصيه بالجد والحزم. كان إقبالي قويا على الحفظ ثم الكتابة. لكن بدا لي إن صنفين من التلاميذ الأول يهتم بالتعلم والانضباط والآخر يأتي من اجل اللعب والتشويش فينزعج الفقيه منه فينهض غاضبا من مكانه ممسكا عصاه الطويلة،هنا تبدأ عملية النقر على الأنامل الصغيرة فتسقط الألواح فتصل الضربات إلى رؤوسهم فتحدث كدمات ويشرعون في الصراخ الذي ينتشر في أرجاء الحي. في مساء يوم الثلاثاء يأخذ الجميع لوحته إلى منزله لغسلها وطليها بالصلصال استعدادا لكتابة آيات جديدة ب ‘لقلم والسمق‘ ،يوصينا الفقيه بجلب‘ البركة‘ صبيحة يوم الأربعاء ويلح على ذلك لمساعدته لتوفير بعض حاجياته. يعود الأطفال إلى منازلهم وهمهم الكبير هو‘ لربعية‘ في الصباح يعطونها للفقيه أما الآخرون فتكون الفلقة من نصيبهم والبعض منهم يفضل ألم الضرب و قد يخفي عشرين فرنكا لشراء ‘بولو‘ أو‘الشامية‘ أو‘حلويتات الوليدات‘ من طرف الباعة الذين يتجولون في أرجاء الحي ويغرون الصغار بسلعهم البراقة الألوان واللذيذة المذاق . كنا ننتظر كثيرا قدوم أي زائر غريب ليكرم فقيهنا ويكون سببا في تحريرنا وخاصة في أيام الصيف الحارقة فيتعالى صراخ الأطفال وصياحهم،فينتشرون في أزقة الحي الضيقة .متجهين إلى الساحات الفارغة لممارسة ألعابهم المحبوبة. مر الصيف سريعا،اشترت لي جدتي ملابس جديدة وحذاء بنيا. أخبرتني إنها ستسجلني في اقرب مدرسة لحينا،قصدنا صباحا مدرسة الإمام علي الجديدة فتم تسجيلي . فكان أول يوم مميز في حياتي،عالم جديد يحتضنني وأصدقاء كثيرون في مثل سني يتعلمون معي في حجرة أنيقة منظمة ونلعب ونمرح في ساحة المدرسة. أية سعادة هذه التي تغمر قلبي . استقبلنا معلم شاب وسيم ذو شعر طويل. ففي بداية شهر أكتوبر من سنة 1970م كانت بداية حياة جديدة ،مختلفة عما مضى لامجال للفوضى هنا نتعلم ،ندرس، نجتهد أحسسنا بالمسؤولية منذ الصغر. فلا بد من الجد للظفر بورقة النجاح لتشاركني جدتي فرحتي الكبرىليس بنجاحي فقط بل بتحقيق علامة متميزة تكون مصدر فخري أمام زملائي وجيراني كيف لا وقد غرست جدتي الأمية رحمها الله في ذاكرتي عبارتها المألوفة. ‘قرا ما عايش غي اللي قاري‘ لكونها عايشت أطباء و ممرضين وفئات عريضة من المرضى والزوار المثقفين والتي صارت بمثابة الأم لهم جميعا. عليك رحمات من الله يا جدتي يا من انتشلتني من الجهل ووفرت لي المأكل والمشرب واللباس والكتاب لمدة عشرين سنة.
الخالة توشة
صورة اليوم، ثمينة وغالية، بحثت عنها طويلا إلى أن وجدتها عند أخ عزيز من أسرة طيبة غالية في نفوس ساكنة حي سالم العتيق وخارجه، وهي لامرأة مكافحة صبورة، كريمة و محبوبة لدى الجميع طيبة الخلق، إنسانة متواضعة تركت بلدتها النائية مكرهة، حملت بعض حاجياتها وخرجت رفقة بعض أقاربها مشيا على الأقدام في اتجاه منطقة تريفة. كانت خالتي توشة المرأة المسكينة وحيدة لا زوج يعيلها و لا أخ يشد عضدها و لا قريب يخفف من محنتها ، الأمر الذي حتم عليها البحث عن لقمة عيش كريمة كباقي النسوة اللواتي لم يجدن من يعيلهن. وأخيرا استقر بها المقام في حي عريق لكرابا السفلى(بويقشار) حيث اكترت غرفة بجوار أسر هاجرت بأكملها تروم تحقيق عيش كريم. وعندما تحسن دخلها اشترت قطعة ارض في حي سالم العتيق من عند الحاج اليماني المهداوي رحمه الله ، وبنت منزلها الصغير ، قضت فيه جل سنوات عمرها المضنية . كانت كباقي النسوة تغادر منزلها البسيط تحت جنح الظلام صيفا وشتاء إلى العمل في الضيعات الفلاحية، ولا تعود إلى بيتها إلا قبيل المغرب متعبة متثاقلة الخطى، لكن البسمة لا تغادر فاها وتلقي التحية على كل يصادفها صغيرا كان أم كبيرا. عرفت خالتي توشة بحسن الجوار و طيب المعشر، الكل يحترمها كبيرا وصغيرا، رغم قلة ذات يدها إلا أنها كانت كريمة بحيث ظلت تقيم الولائم و تعد الطعام بنفسها وتدعو جميع أطفال الحي إلى منزلها المتواضع وكنا نتحلق حول الصحون ونتناول الطعام بشراهة وهي تحثنا على الأكل والفرحة تعلو محياها. بالرغم من كونها تعيش وحيدة في منزلها الصغير، فهي دائمة الحرص على تنظيفه و كنسه من الداخل والخارج بمكنسة الدوم وقد يمتد عملها إلى المنازل المجاورة جهة اليمين واليسار. فالكل يتذكر ذلك الفرن التقليدي"ثفقونت" والذي نصبته قبالة منزلها، كان الأطفال الصغار يتحلقون حولها قبل أن ينضج الخبز، فتشرع المسكينة في توزيع قطع من الخبز اللذيذ بالتساوي على كل الأطفال، دون أن تنسى ريكس و بلاك الكلبين الذكيين واللذان كانا في ملك الفقيرة مريم وخالتي رحمة المرأة المعمرة شفاها الله،و بالرغم من فقدان بصرها لكن ذاكرتها ما زالت قوية تتحدث بثبات عن كل كبيرة وصغيرة تهم أرجاء الحي وساكنته ،ويأتي دور نسوة الحي بحيث يتوسلن إليها استعمال الفرن إلا أنها تأبى ذلك وتتولى المهمة بنفسها بسعادة كبيرة أتذكر تلك اللحظة جيدا، عندما سمعنا دقات خفيفة على الباب الخشبي وكنا متحلقين حول المائدة المستديرة والتي لا نملك غيرها، كنت المكلف بفتح الباب لخفتي وصغر سني ، عندما لمحت وجه جارتنا الطيبة،صحت بأعلى صوتي بفرحة لامتناهية:" إنها خالتي توشة" ، تبادلت العناق مع جدتي الغالية رحمها الله، تناولت معنا كؤوس شاي منعنع مع قطع من الفطير، لم تفصح جارتنا عما تريد خجلا'، حينذاك بادرتها جدتي الفطنة:أتريدين شيئا أختي توشة؟" كما تعرفين يا أختي أنا، لم تعد صحتي قادرة على العمل الشاق ، فجئت اطلب منك السماح لي بصنع بعض الأفرشة التقليدية في فناء منزلك. طبعا وافقت جدتي الرؤوف على التو دون تفكير . في صباح اليوم الموالي أتت خالتي و نصبت بعض الأعمدة بشكل هندسي بديع، كنا نساعدها بشغف كبير ونلاحظ كل حركاتها ولمساتها،لم نكن نظن يوما أن هذه الخالة النشيطة بارعة إلى هذا الحد، كانت تشتغل رحمها الله طول النهار دون كلل أو ملل، كانت أناملها الذهبية تتحرك بدقة مبهرة، تاركة وراءها جمالا لا يوصف. بقيت على هذه الحال مدة من الزمن، أعمالها تزين ذلك الفناء ويزداد رونقا عندما تكتمل اللوحة . كانت سعادتها لا توصف عندما تقصد السوق الأسبوعي _يوم الثلاثاء_ وتجلس بين النسوة اللواتي تعودن على بيع سلعهن الخفيفة المختلفة، من حلي وأعشاب.. تعود خالتي إلى منزلها بعد بيع منتوجها فرحة سعيدة لأنها تكسب قوتها بعرق جبينها فتوزع قطع الحلوى الملونة التي يعشقها الصغار آنذاك بحيث كانت الأفضل مما تحمله السلة القصبية من خضر وفواكه. وسرعان ماتعود الخالة إلى مكان عملها بلا كلل ولاملل، ضاربة موعدا آخر مع زربية أخرى تكون أكثر جاذبية وجمالا من سابقاتها، كنت اغتنم الفرصة للنظر طويلا إلى تلك اللوحات التي كانت ترسمها الخالة توشة، دون أن ألمس ولو خيطا واحدا منها، فالكل كان يحترم منطقتها في الفناء وكأن جدتي الكريمة الفقيرة مريم رحمها الله رسمت حدودا لا يمكن لأحد تجاوزها حتى من قبل الضيوف. بقيت الخالة على هذه الحال ولم أعد أتذكر متى غادرت فناء منزلنا. كنت دائم الجلوس في زقاق حينا وأنا تلميذ في الإعدادي أراجع دروسي، تعود خالتي توشة رحمها الله و وأسكنها فسيح جنانه مسرعة الخطى لتتناول غذاءها و لتعود إلى عملها في محطة تلفيف البرتقال في الحي الصناعي المحاذي لحي سالم والذي شيد في الستينات، كانت تقترب مني وكأني ابنها الغالي وتسلمني بضعة حبات من الكليمنتين ذا الجودة العالية بحيث تكون وجهته الأسواق الأوربية و هي تمتم" الله يعاونك أولدي" كنت أحس حينئذ وكان أمي الغائبة عني هي التي تحضنني. رحمك الله أيتها الأم الطيبة الكريمة وأسكنك فسيح جنانه
من يوميات طفل قروي
كلما مررت بذلك المكان الجميل أسمع هدير محرك استخراج المياه الجوفية، لكن هذه المرة لم يصل صداه إلى مسامعي ،أصبت بالحيرة، توقفت لأستفسر أحد الرعاة عن سبب ذلك. لقد جفت مياهه التي كانت تتدفق في السواقي ليل نهار منذ 1936م .قضيت في هذا المكان الرائع أولى سنوات عمري. مياه دافئة عذبة تنساب رقراقة في كل مكان، خضرة وبساتين البرتقال من كل الأصناف وكروم تسيل لعابك عناقيد ها الناضجة المتدلية بشتى الألوان والأنواع فلا ضير أن طلبت من الحارس برتقالة او عنقود عنب ،لا يمانع في ذلك مادام المسيو فيترو المعروف بالكرم و الجود يطعم الإنسان والطيور بسخاء، خاصة في المناسبات الكثيرة والمختلفة ،فهو الذي كان يسهر بنفسه على توزيع عدة قناطير من الحبوب على كل عامل بعد موسم الحصاد، وعربتين مجرورتين محملتين بالحطب بعد تشجيب مختلف الأشجار من أجل الطبخ والتدفئة في ليالي فصل الشتاء القارس. في هذه البقعة من كوكب الأرض الجميلة الخلابة، تقضي ا أيامك في نزهة أبدية، لا يعكر صفوها لا هدير محركات السيارات ولا تلوث هوائها بالأدخنة الداكنة المنبعثة من عوادمها. كنت أقضي جل أوقاتي بجانب الصهريج الذي تتجمع فيه المياه الصاعدة توا من جوف الأرض. كان بمثابة مسبح صغير. تعلمت فنون الغطس والعوم في هذه السن المبكرة إلى أن حان ذلك اليوم المشؤوم، قفزت كعادتي في الصهريج، ولما لمست رجلاي قاعه وإذا بقطعة زجاج تحدث جرحا غائرا في قدمي. لم يهتم أحد بحالي، نتيجة انعدام الوعي الصحي، و انشغال أفراد الأسرة بأعمالهم. ذات مساء ارتفعت درجة حرارة جسمي كثيرا وبت أتصبب عرقا لم يغمض لأمي الحنون جفن من شدة آلامي وبكائي . لم يتحمل أبي شدة بكائي و صراخي. في الصباح الباكر قصدنا مستشفى المدينة، بعد عملية الفحص، تبين للطبيب ضرورة مكوثي في المستشفى قصد العلاج. قضيت ثمانية عشر يوما بالتمام والكمال هناك ، وأنا ابن الثماني سنوات .عندما يحل الظلام يزداد خوفي من شدة سواده في الخارج فيخيل إلي منظر أشجار الصنوبر الباسقة المحيطة بالمستشفى من جهة حي لبني الجديد وكأنني مفقود في غابة كثيفة فالتصق بسريري والذي غالبا ما اسقط من أعلاه، لأنني تعودت النوم علي الحصير الخشن المصنوع من الحلفاء، ربما كنت أزعج جيراني المرضي لكنهم رغم ذلك كانوا يعطفون علي لصغر سني ويعيدونني إلى فراشي . وكم كان جسمي يرتعد من الخوف الشديد وأنا اسمع صوت العربة الصغيرة المدفوعة في البهو الطويل من طرف الممرضة عائشة بنت بستاني المستشفى ،فقد كانت شابة أنيقة لا تغادر محياها ابتسامتها المشرقة تبدأ في مداعبتي حتى لا أحس بألم الحقنة . ربما كنت أصغر المرضى وحفيد الفقيرة مريم المدلل،كان الجميع يعاملونني برفق وعطف كبيرين. زارني يوما أخي الأكبر الذي كان يتابع دراسته في الباكالوريا، فرحت كثيرا بإبريق شاي منعنع ‘بالمانتي‘ وعلبة حلوى مربعة الشكل لذيذة،وزعت البعض منها على الموجودين معي بنفس الغرفة. تصادفت زيارته لقاء احد زملائه في الدراسة الذي كان يخفف عنا معاناتنا المختلفة مع المرض والرتابة بسرده حكايات طويلة و شيقة بطريقة جذابة تنسيك هموم المكان وبطء الزمان. كنت ارتاح كثيرا وأنا اجلس في الشرفة المطلة على الشارع المحاذي للمستشفى ،استأنس بمرور السيارات والدراجات والمارة وهم ينعمون بالصحة والعافية. فغالبا ما يسعدني ويؤلمني في الوقت نفسه مرح الأطفال وسعادتهم وهم يقضون بعض الساعات في التمتع بمقابلات في كرة القدم،كنت أشاركهم هذه اللحظات السعيدة پكل جوارحي. مرت تلك الأيام متثاقلة وكأنها الدهر، لم يكن في تلك الغرف طفل يؤنس وحشتي، ويشاركني وحدتي وآلامي،كلهم كبار في السن، وقد تبلغ سعادتي مداها حينما يطلبون مني قضاء بعض إغراضهم، وخاصة عندما يريدون شيئا ما من المطبخ،أسرع الخطى عبر الدرج الضيق حتى أفاجأ طباخ المستشفى الرجل الطيب الذي يكون منهمكا في إعداد الوجبات،فهو قد لا ينزعج بتصرفاتي هذه لأنني كنت مرارا أساعد عمال المطبخ في حمل الصحون إلى المطبخ. لقد أصبحت وكأني واحد من مجموعة المستشفى الكل يعرفني ويمزح معي حتى الطبيب الفرنسي الوسيم حينما يصادفني في البهو فيربت على كتفي،تعرفت على كل العاملين هناك حتى البستاني كنت أرافقه وهو يشذب بطريقة هندسية بديعة نبات الأزير ذا الرائحة الزكية. ذات صباح أشرقت الشمس،وقفت طويلا أتأمل أشجار الصنوبر التي كانت تخيفني ليلا وكأنها غابات لا متناهية، وتؤنسني نهارا عندما تحوم حولها العصافير وتحط على أغصانها مغردة ،تكسر سكون غرف المرضى. لم انتبه حتى سمعت صوت صديقي الطبيب يناديني باسمي والابتسامة تشرق من وجهه ، طرت فرحا وهو يقول مازحا في اليوم لن تكون على موعد مع الحقنة الصباحية،بل ستنعم ببريق شمس الحرية،لكننا سنشتاق دوما لنزقك الطفولي الذي كان يملأ أرجاء هذا المكان.