محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
ذ. محمد ستي
محمد ستي، أستاذ التعليم الابتدائي مدير مدرسة الإمام علي بأبركان ابتداء من سنة 2014
قــــــــائمـــــــة محتــــــويــــــــات الصفحــــــــــة - أعراس بني يزناسن بأجزائه الستة - أغاني الصف عند قبائل بني يزناسن بأجزائه الخمسة
أعراس بني يزناسن بالأمس القريب
الأعراس مناسبة احتفالية للإشهار بالزواج، تختلف طقوسها من منطقة إلى أخرى رغم تشاركها في بعضها، إلا أن أشواطا قبل إقرار الزواج كان لابد من تخطيها كتقليد متعارف عليه، باعتباره أساس نجاح العشرة الزوجية، لذلك فاختيار العروس له من الأهميه في إرساء نوع من التماسك، بانتسابها إلى المجتمع العائلي الصغير الذي يرتبط فيه أفرادها بعادات و تقاليد مشتركة، يجمعها التراضي و الألفة، و هما سمتان تميزان جميع العناصر المنتمية للعائلة، و للحفاظ على هذا الترابط تحت سقف بيت الأجداد، فقد صار اختيار العروس من الشروط الأساسية لخلق نوع من التعايش و التكافل، و تقاسم المهام التي ينخرط في إنجازها رجال و نساء و أطفال في مواجهة متطلبات الحياة، فإن الأم بحميتها العرقية، و رغبتها في الإبقاء على التماسك العائلي، فإنها تتولى عملية البحث عن فتاة مناسبة، تكتمل فيها المواصفات التي تؤهلها للعيش وسط عائلة تتقاسمها أعمال البيت بخفة و نباهة( لحداكة) و أن تتوفر على مسحة من الجمال( مسرارة)، و أن تكون طيبة المعشر( مصوابة)، و خدومة( تطيع حماتها في كل صغيرة و كبيرة)، و قد يشاركها تقصي مثل هذه المعلومات الدقيقة معارف و أقارب، بامكانهم استدراج الفتاة إلى الحمام لتفحصها و الوقوف على سلامة جسدها من العيوب، كما يتم التداول معها في أمور شتى لاختبار مدى لباقتها في الحديث، و قدرتها على السماع أكثر من الثرثرة، و مدى تحملها مضايقة الآخرين و تقديمها خدمات لطالبيها، و فوق كل هذا فإنهم يتدبرون لحيلة تدخلهم منزل الفتاة للوقوف على مدى قدرتها على تدبير أشغال البيت، و مدى براعتها في تقنيات الطبخ و مستوى علاقتها بالجيران، و بعد استجماع ما أسفر عنه البحث من معلومات تولاها نسوة العائلة، يأتي دور الرجال لتعميق النبش أكثر في جذور عائلة الفتاة، لما في ذلك من أهمية في اختيار نسب يليق بهم كأخوال لأبنائهم، و بعد استكمال التقصي الذي تم إجراؤه بدقة متناهية، ينعقد مجلس العائلة للتشاور و التداول في مصير الفتاة، و أحيانا يكون للعريس كلمته في انتقاء عروسه، بعد لقاءات عند الساقية بحجة جلب الماء، أو عند العين بغرض التصبين، أو وسط الغابة بسبب جمع الحطب، ففي هذه الأماكن كانت تنسج علاقات حب طاهرة، تُتوج بالزواج بعد صراع مرير مع العائلة، التي لن تجد لها من بُدّ غير تقبل اختيار ابنها و لو عن مضض، للانتقال إلى مرحلة الخطبة التي يتولاها النسوة كزيارة أولية لانتزاع الموافقة المبدئية من أهل الفتاة، يصطحبن معهن " السكر و الحناء" كعربون لحلاوة العشرة بمحبة، و فأل خير على العروسين و أهلهما، على أن تأتي مرحلة مناقشة الصداق، يحضره الرجال للتفاصل فيه إلى أن يحدث التوافق بين الطرفين، ليتوج بالزغاريد كتعبير عن إقرار مشروع زواج، و غالبا ما كان يصطحب في مثل هذه المواقف رجل يتميز بعلو الهامة بين أفراد القبيلة تكون كلمته مسموعة، لا يتجرأ أحد على مجافاتها، يتدخل عند المواقف الحرجة لتلطيف الأجواء، و خلق الانسجام و التجاوب بين الطرفين، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة عقد القِران بعد مشاورة العدول للعروس من وراء حجاب بحضور شاهدين، ليتم توثيق الصداق المتفق عليه كشرط لإضفاء الشرعية على الزواج، فتقام احتفالا بهذه المناسبة وليمة بسيطة تجمع العائلتين، و لم تكن وقتها تشبك العروس بخاتم، بل كانت تحجب عن العريس إلى ليلة الدخلة، و لعل ما كان يميز المهر حينها ما اصطلح عليه" باللويز"، أما عند العائلات الميسورة فكان صداقها" لكرفاش بولحية"، و تبريكا لهذا الزواج فقد كان حضور فقيه الدوار أمرا ضروريا لتنكيه المناسبة ببعض الأدعية حتى تحل البركة على الزوجين. و قبل الزواج تبدأ مرحلة الإعداد لاستقبال هذا اليوم المقدس بكل شهامة و كرم، حيث يتم من جانب أهل العريس اقتناء مستلزمات العروس، من ألبسة و أدوات الزينة من حلي و كحل و سواك، و تجهيز البيت الذي سيضم العروسين بالحاجيات الضرورية، من فراش و صندوق لتأثيث الملابس و ترتيبها، و تجديد صباغة الجدران بألوان زاهية لتبدو في رونقها المعهود في مثل هذه المناسبات، ليتم إغلاقه بعد الانتهاء من الترتيبات، و تتولى الأم حراسته و لا يلجه أحد خوفا من أي مكروه قد يصيب العروسين يوم الدخلة، هواجس لا زالت تلاحق العائلات من أن يتعرض العريس لما يسمى" اتقاف"، لذلك يتم تحصينه و البيت معا تفاديا للحرج الذي سيتحمل وزره عائلة العريس، و لضمان استكمال فرحة العرس فإن الأدوار على تنوعها تتوزع حسب القدرات على المقربين و المعارف لإنجاز المطلوب، فمن النسوة من تتكلف بإعداد حلويات البيض، و أخريات تنسقن مع أهل العروس لخياطة الألبسة، و غسل الصوف و "نغدها" لصنع الأغطية "بورابح" و عدد من "الألحف"، و كلها إجراءات تتم في سرية بين العائلتين، كما يقوم أب العريس باقتناء أكباش العرس بمواصفات خاصة تشرّفه أمام أهل العروس، تعبيرا منه على الشهامة و الكرم، و أنه أهل بنسبهم و يستحقون ما يوصل إليهم في إطار ما يطلق عليه" بالدفوع". هكذا كان يختار بنو يزناسن نساءهم بدقة متناهية للحفاظ على تماسك العائلة، في إطار التعاون لمواجهة متطلبات الحياة، بينما اتخذ هذا الطقس منحى آخر في ظل التغيرات التي عرفها العالم من انفتاح على الثقافات البشرية الأخرى، ليحدث انقلاب جذري على التقاليد بمختلفها، بما في ذالك طقوس الزواج، فصار التعارف يتم خارج نطاق العائلة، و اختيار قاعة الحفلات و مراسيم الاحتفال تتم بالتنسيق مع الممون، الذي يتولى جميع الاعدادات و المتطلبات التي يقتضيها العرس الذي يدوم عمره ليلة و احدة و ينفض الجميع.
بعد إتمام الإعدادات المتواصلة لمراسم العرس التي استغرقت زمنا قياسيا شارك فيه الأحباب و الجيران، بطواعية و إقبال تام على ممارسة المهام الموزعة عليهم، في جو يطبعه المرح بتبادل المستملحات، و تذكر مواقف مثيرة عن مناسبات مضت، مما يعطي لهذه المرحلة من الاستعدادات نكهة خاصة، يستلذها المشاركون و يستطعمون أجواءها رغم كثرة الأشغال و المهام، لتميزهم بالروح المرحة الممزوجة بالرغبة في التطوع و العطاء و احتواء الآخر و مساعدته، و هو ما أبقى على التماسك الاجتماعي و سعوا جاهدين إلى الحفاظ عليه، و في غمرة الإعدادات و ما يصاحبها من عناء فإن الإبتسامة لم تكن تفارق محياهم، مع الإلحاح في الترحيب و إكرام الوافدين عليهم، حتى أنهم كانوا يعلقون أعلاما بيضاء فوق المنزل إيذانا ببداية العرس و أن الجميع مرحب به لمشاركة العائلة فرحها. بعد التحاق الأحباب و الجيران يبدأ الإعداد" للدفوع"، و هي عملية لها أهميتها من حيث كونها ترمز إلى قدرة صاحبها على تحمل مسؤولية عروسه، بما يوفره من مستلزمات العرس كمؤشر على الاهتمام الذي سيوليه لها دون تقصير، في إشارة إلى مسار الحياة الذي سيقطعونه معا بنضج و مسؤولية، إذا علمنا أن الزواج كان يتم في سن مبكر، و هي رسالة واضحة إلى أهل العروس أنها ستبدل دارا خير من دارها، بما سترفل فيه من نعيم سيكون تحت تصرفها، كما تعبر في ذات الوقت عن تشريف تستحقه و عائلتها، و كلما زاد و وفى إلا و دل على كرم صاحبه، و من مستلزمات" الدفوع" الأساسية أن يكون" كبشان" أو " عجل"، يتم تخضيب قوائمه بالحناء، و كذلك يزين بها ظهرها، و احتياجات أخرى ضرورية للإعداد لوليمة" الحناء" تتجلى في" البصل و الطماطم و الحمص أو الزيتون و الزيت ووووو". و لعل ما يميز" الدفوع" تلك الأهازيج الاحتفالية التي كان يتزعمها النساء من رقص و غناء جماعي، يشاركهن الرجال أيضا، إلى جانب فرقة" العرفة" التي كانت تخلق أجواء أخرى من التنشيط، يتفاعل معها جميع المدعوين بانخراطهم في رقصات متنوعة" لحساب"، و النساء بصوتهن الصادح لم تكن تنقطعن عن إطلاق " الزغاريد" بين الفينة و الأخرى، لبعث الحماسة و إذكاء الفرحة، و بعد ذلك ترافق النساء الشاحنة الصغيرة المحملة بمستلزمات" الدفوع" مشيا في جو غنائي يستمر إلى غاية دار العروس، ليستقبلهن أهلها بالزغاريد و الرقص و " الغيوان" تعبيرا عن الرضا و القبول بهدية" الدفوع"، ليرحب بهن أيضا و بمن رافقهن من الرجال، ببشاشة نابعة من قلوب عامرة بالحب و الطيبة تسعان الجميع، فيقدم لهم دون تقصير الطعام و الشراب، كما تحجب العروس عن النسوة حتى لا تكشف عن زينتها و بهائها، اللذان تحتفظ بهما لعريسها إكراما له ليكون أول الناظرين إليها، بعد أن يزيل الحجاب عنها ليلة" الدخلة"، و في ذلك دلالة على المكانة التي يحتلها عندها و أنه المميز دون الآخرين، و هو تقدير من نوع آخر تلفه محبة صادقة، تقوي العشرة الزوجية و تصونها من كل مكروه، و لما كان تفكيرهم بسيطا فإن معتقدات مختلفة وجدت لها أثرا في ثقافتهم، ليصبح لديهم إيمان راسخ" بالفال" و " التطير" اللذان جعلا الحرص و الحذر سمتان تطبعان سلوكهم إلى نهاية العرس، فهو اعتقاد ارتبط بالصدفة بوقائع ماضية تكررت في الوسط الاجتماعي، حتى استبدت بعقولهم و جعلتهم يصدقون بأشياء تناقلتها الأجيال، رغم أنها بدأت تخبو، إلا أن حضورها لا زال لافتا عند بعض العائلات المحافظة، و كانت نتيجة لذلك ظهور طقوس العرس بتفاصيلها المميزة، التي ارتبط بها جميع من عايشوا المرحلة، لما تضفيه من قدسية خاصة على هذه المناسبة، فبات لكل طقس دلالته الرمزية التي تدفع إلى التشبث به أكثر، و ممارسته كفيل بنجاح العرس و حماية العروسين من أي أذية. بعد " الدفوع" تأتي ليلة" الحناء" التي تسبق ليلة الزواج، حيث تتوسط العروس البيت في مكان مرتفع قليلا، و وجهها مغطى بحجاب من حرير، تتحلق حولها النساء في جو احتفالي، تصدح فيه حناجر الفتيات بالزغاريد و أغاني تراثية" إشربن"، و في غمرة هذه الأجواء تحضر" الحناية" و معها صحن به " حناء" تتوسطه شمعة، لتبدأ عملية" حنْئ" العروس وفق طقوس متوارثة، تتناسب و الليلة التي ستبقى منقوشة في ذاكرتها، و بين حين و آخر تقوم إحدى فتيات العائلة برش المدعوات بماء معطر لتزكية الأجواء بنفحات منعشة، و بعد الانتهاء من ربط العروس بالحناء، يتم وضع القليل منها على أيدي العازبات ليكون فأل خير عليهن للزواج، و ما بقي بالإناء تتولى الأم إخفاءه حتى لا تطوله أيادي المشعوذات الحاقدات، حرصا منها على إبعاد الأذى عن العروسين، للحفاظ على قدسية ليلة" الحناء" و الإبقاء عليها كفرصة تتزين فيها لعريسها قبل ليلة الدخلة بعيدا عن كل ما يدنس هذا الطقس. في ارتباط بالحناء كتقليد لا تكتمل طقوس العرس إلا بها، فإن للعريس نصيب منها كلما زار أحد أقاربه أو معارفه، كما يتم وضع ترتيبات خاصة للاحتفال بليلة" الحناء" وسط أهازيج تراثية، تتبعها زغاريد صادحة تعبيرا عن فرحة المناسبة، يلبس العريس و " وزيره" جلبابا و عمامة، يوضع أمامهما صحن حناء تتوسطه بيضة، تتكلف بعملية" حنْئ" المدعوين من الشباب العزاب فتاتان في مقتبل العمر، بعد أن يتم البدئ بالعريس أولا و وزيره ثانيا، و هو من سيدفع الأتاوة عن" مولاي السلطان"، و يتبعه في ذلك باقي الشباب، ليكون المحصول المالي من نصيب الفتاتين، و ما بقي من الحناء يتوزع على العازبات لتتم لهن أمنية الزواج. عوائد اندثر الكثير منها و تم إفراغ الأعراس من كل ما هو تراثي، بسبب إدخال عوائد جديدة أفقدتها تلك المتعة الخاصة، التي كان يستشعرها جميع من كان له شرف حضورها.
تستمر طقوس العرس متراتبة حسب المتعارف عليه، فبعد ليلة الحناء و ما رافقها من أهازيج احتفالية، تأتي مرحلة الزواج بعد أن أعد له العدة في إطار التعاون، الذي يأتي في شكل مساعدات يدوية أو مادية، أو ما اصطلح عليه ب" لهدية"، يهادي بها الأصحاب و الجيران و الأقارب أهل العريس، يقصد بها تقديم العون لتدبير متطلبات العرس الذي كان يدوم سبعة أيام أو أكثر، تكون في غالبيتها عبارة عن كبش و لوازم أخرى لها ارتباط بالوليمة، تٌوصل" لهدية" لصاحبها في جو غنائي راقص، يتولاه مجموعة من النسوة أو" فرقة العرفة"، فهي ترمز إلى الكرم بكل تجلياته، تجعل صاحبها ينتشي إحساسا بالفخر و الاعتزاز في إقدامه على مبادرة تشير في عمقها إلى مدى التماسك الاجتماعي الذي يغذيه سلوك تكافلي تعاوني، يُخفف العبء و يُشعر بالاطمئنان عند التدبير الاستباقي لمتطلبات العرس، و من جانب آخر فإن خاصية التآزر في بيت العروس تأخذ شكلا آخر مختلفا و إن كان يؤدي نفس المغزى التعاوني، كانت" لغرامة" تتولى مهمتها" برّاحة"، في حرص شديد منها على إنجاح هذا الطقس، من خلال خلق جو تنافسي بين الحاضرات من النساء اللواتي يتحلقن حول العروس وهي متزينة مغطاة برداء حريري أو" الحايك"، للمزايدة على بعضهن في مهاداتها بأدوات تحتاجها لشخصها أو تأثث بها بيتها، و في الغالب تكون نقودا توظفها العروس حسب اختيارها، و رغبتها في اقتناء أشياء تعينها على تدبر متطلباتها اليومية، أو يستعين بها أهلها لاستخلاص بعض مشتريات الوليمة، و إن اختلفت المسميات بين" لهدية" التي يختص بها العريس و " لغرامة" التي تختص بها العروس إلا أنهما يؤديان نفس الهدف التعاوني، فالجميع كان يشارك بأقل ما يملك حتى لا يتلبسه العار إذا تخلف عن هذا الواجب، و كانت النسوة تطلقن زغاريد متواصلة عند أي إكرامية، و يرتجلن بعضا من الغناء المديحي، لتحريك الهمم و تشجيع الحاضرات على العطاء بسخاء، إضافة إلى أن المدعوات لا يأتين العرس إلا و في أيديهن " السكر أو الخبز"، كعربون أو فأل دال على الخير و حلاوة السعادة اللذان سيعمان بيت العروسين، و في ذات السياق التعاوني و في غمرة الغناء على أنغام راقصة، يتوسط " مولاي السلطان" و وزيره مجموعة من الشباب لينخرطا معهم في الرقص، على أن يبدأ الأصدقاء و الأقارب في مهاداته، بتعليق النقود الورقية من فئة 05 دراهم أو أكثر على جلباب العريس وهم مزهوون بإقدامهم على هذا الفعل، و بين حين و آخر تقوم الأم أو الأخت الكبرى بجمعها و الاحتفاظ بها، و تتكرر هذه العملية في ظروف مختلفة خلال ليلة واحدة و طيلة الأسبوع، و المثير خلال هذه الطقوس ذات البعد التعاوني، أن مجموعة من النسوة القريبات من أهل العروسين تتكلفن بمراقبة و تتبع مجرياتها، في محاولة منها تذكر أسماء المتبرعين، و الأشياء التي هادوهم بها على أن ترد لهم و زيادة في أفراحهم، مما يفسر شيوع هذا الموروث الثقافي الذي طال جميع الشرائح الاجتماعية، ليبقى استمراره رهين برد الدين، الأمر الذي سيدفع بالجميع إلى الانخرط في هذا العمل التعاوني عن طواعية، تعبيرا منهم عن الشهامة و النخوة اللتان طبعتا سلوكاتهم، و قومتا تفكيرهم، و جعلتا تصرفاتهم منقادة لما تمليه عليهما من ردود أفعال إيجابية، تترجم رغبتهم في الاحتفاظ بهذا الطقس مهما كانت الاعتبارات و الظروف الحياتية معاكسة. خلال فترة العرس يتجنب العريس ملاقاة والده إلا بعد مرور اليوم السابع، حشمة و وقارا من الجانبين، دأب عليهما اليزناسنيون و حافظوا عليهما لشعور ينتابهم، و يستبد بسلوكاتهم اتجاه بعضهما، بسبب الوضع الجديد و ما حمله من تغييرات تبعث على تبني هاتين السمتين المطلوبتان في مثل هذه المواقف إلى أن يتعودا عليه مع مرور الوقت. كما يحدث خلال اليوم الأول من العرس عند بعض القبائل، أن يتحلق النسوة في بيت العريس حول "حفنة من القمح، يتوسطها صحن مملوء بالماء، توضع فيه بيضتان و خلخال فضي يعود لأم العريس، التي تشرع في الرقص حافية القدمين فوق القمح على نغمات أغاني تراثية، تؤديها الحاضرات من النساء، و بعد انتهاء الحفل تحتفظ الأم بالبيضتين للزوجين بعد جمع القمح". طقوس متنوعة تختلف حسب العائلات و القبائل المتاخمة لبعضها، يصعب تعدادها و تفسير مغزاها أحيانا، إلا أنها تبقى موروثا له قيمته الثقافية و الحضارية التي لا يمكن مجافاتها، و اعتبارها نقطة عبور للتحولات التي طرأت على طقوس الزواج، في احترام تام لكل العوائد القديمة التي من سيمتها الأساسية أنها كانت تجمع جميع الأحباب، في تواصل مستمر، و تعاون مثمر خال من الأحقاد و الضغائن التي تخلق صراعات واهية.
يوم الزواج له قدسية خاصة من حيث الترتيبات التي تتخذ من الجانبين، لتمرير أجوائه في ظروف مواتية كما تقتضيه الطقوس و العوائد، فتعد الوليمة الكبرى التي تتولاها إحدى المتضلعات في مجال الطبخ يكنونها حسب التعبير المحلي" بالسخارة"، تساعدها متطوعات توزع عليهن مهام مختلفة لتحضير الأكل في وقته المناسب، و من الأكلات الشائعة التي كانت تتوسط موائد أعراس بني يزناسن" الشوربة" كطبق أول ليليه طبق ثاني" باللحم و الحمص أو الزيتون"، و هي في الغالب منتوجات محلية، و كذلك الزبدة و العسل اللذان لا يفارقان المائدة رفقة" صينية الشاي"، في صورة توحي بالقدرة على التنظيم و استيعاب العدد الهائل من المدعوين بصدر رحب يسع الجميع، يتعهدونهم بالترحيب بين الفينة و الأخرى، لما في ذلك من تقدير و علو من شأنهم، كما في تقديم الطعام و الشراب بانتظام و حرص شديدين قبل أن يستبد بهم الجوع، ما يُشعرهم بتميزهم و قيمتهم عند صاحب العرس، دون إغفال الابتسامة التي يجب أن ترتسم معالمها على محياه، و كل تصرف ينتقص من قدرهم و يستهدف أنفتهم، فإن الانسحاب من العرس سيكون ردا على سوء الترحيب، و في ذلك وصمة عار تتلبس جبين صاحب العرس و يصبح حديث القاصي و الداني، مما يفسر وجوب الالتزام بقواعد اللياقة في التعامل، و بأصول الضيافة في تكريم المدعوين، فهما صفتان ضروريتان لا يجب إغفالهما كأولوية لاستكمال شروط نجاح العرس، و من الأمثلة الشعبية المأثورة التي تعزز هذا المدلول" الضِّيفْ ما يْشرَّط أُمول الدار ما يْفَرَّط"، و التفريط هنا لا يقتصر على الأكل فقط بل يطال كذلك البشاشة في وجه المدعوين، باعتبارها عنصرا أساسيا يبعث على الرضى و الترحيب بالجميع، دون تفاضل لأحد على الآخر عندما يقال في كلام موزون" عْطيني جَبَّهْتَك أُما تَعطيني خُبزَك"، في إشارة إلى طقوس تتعلق بالسلوك الاجتماعي المبني على التعامل اللبق مع المدعوين خلال المناسبات، بهدف الحفاظ على التماسك الذي يشد الجميع إلى بعضهم، في ظل الاحترام و التقدير و سعة الخاطر، و تقبل الآخر و دمجه في أجواء العرس، ليصبح الكلام الطيب و الابتسامة التي توزع على الحاضرين، قد تم دسترتها في أمثلة شعبية مأثورة لا زالت متداولة و لكنها فارغة من محتواها، للإهمال الذي شاب الموروث الثقافي في شموليته نتيجة العولمة و الانفتاح على ثقافة الآخر. كما كان لأهازيج الفرح طقوسه الخاصة التي يشترك فيها الجميع، و للنساء دورهن في تنكيه الأجواء بغناء راقص، متبوع بزغاريد متواصلة تبعث على الحماسة لانخراط المدعوين ، فكان للصف الذي عُرف بالحشمة و الوقار في انتقاء الكلمات، و الألبسة المناسبة حسب ما تتطلبه العوائد، نصيبا أوفر في إحياء حفل الزفاف، حيث كانت النساء تصطففن في صف واحد، تتوسطهن" فتاية" بلباس متميز، و الوسيلة المستعملة هي" البندير"، و أحيانا تصطففن في صفين متقابلين، يرددن فيه ما اصطلح عليه ب" إشربن"، تتخلله رقصات خفيفة تتماشى و إيقاع" البندير"، مع خرجات "للفتاية" من الصف عند إصدارها" لغيوان" من التراث، في حركة حماسية تخشع لها أوصالها و هي ترفع" البندير" عاليا لتجعله يُصدر أنغاما قوية، تستهوي الحاضرين و تُطبق على مشاعرهم، ليبقوا مشدوهين أمام براعتها في التنسيق بين الغناء و" البندير"، في حركة مثيرة تُحمس الرجال و تدفع بهم إلى تشكيل صف مقابل للنساء، ليبدأ سجال غيواني يحمل الكثير من المعاني و الرسائل المشفرة من العشاق، لا يستسيغها إلا المكتوي بنيران العشق، فهي نابعة من قريحة عفوية، تنساب من لسان ينطق حكمة بليغة، فيها من اللمز و الغمز ما يثير حفيظة الآخر حين يعجز عن الرد وسط حشد من المتتبعين، فيحدث أحيانا بعض اللغط في كلمات الغناء عندما تخرج عن سياقها الفرجوي و الغيواني، لتتشنج الأعصاب حتى تكاد تُوتّر أجواء الفرح، لكن أطرافا متدخلة تسيطر على الوضع، بإصدارها رقصات سريعة متبوعة بأغاني مديحية تُنسي الجميع تلك الوصله التي أحدثت التوتر، و من جانب آخر يصطف الرجال بدورهم في صفين متقابلين، ليشرعوا في الرقص بحركة متناسقة و منسجمة مع إيقاعات " البندير"، يتراجع صف للوراء و يتبعه الصف المقابل دون أن يلامسه، و ما يزين هذه اللوحة الفلكلورية تلك الأغاني الجماعية التي يرافقها رقص بالأرجل، في مشهد بهيج يعبر عن قوة أصحابها في خلق هذا النوع من الفرجة الذي يختص بهم. كما لفرقة" العرفة" أسلوبها الخاص في تنكيه العرس بنغمات" الزامر" الذي يطرب المشاعر، إذا رافقتها إيقاعات" البندير" و مواويل" الشيخ"، الذي لا يتوقف إلا عند" التَّبراح"، ليثير تنافسية شريفة بين الحاضرين في تعداد مناقبهم مقابل دفع أتاوة، لتبدأ المزايدة على بعضهم، حتى تستشعر الواحد منهم بالزهو، فتتملكه سعادة و انتشائية مما يفعله اتجاه العريسين، و بين الفينة و الأخرى يصدر " العرفة" بطلب من المدعوين مقابل إكرامية، نغمات راقصة على إيقاع" البندير" تسمى" لحساب"، تُحرَّك فيه الذراعين و الأرجل في تناغم تام بينهما، ينخرط فيه الجميع بحماسة منقطعة النظير، و في هذه الأجواء الراقصة ترمي الأم وسطهم بالسكر المختلط" بالحناء"، لما فيهما من فأل خير على دوام الفرحة و تجنب التصادمات بين الحاضرين، فهو معتقد استمر لأمد طويل، و صار يتقلص إلى أن اندثر نهائيا و معه الكثير من العوائد. عند العائلات الميسورة إضافة إلى أهازيج الصف و العرفة، كانوا ينكِّهون الاحتفال بلون آخر مميز عرف" بلبارديا"، يقام في رحبة واسعة بجانب منها خيمة تلم المدعوين داخلها، لتتبع فصول فرجوية فيها امتزاج تام بين نغمات العرفة و صوت البارود، و لها من التعابير ما يشكل لوحة فنية، تحرك الأوصال و تبعث على الاستمتاع بالمشاهد البطولية التي يرسمها" لبارديا".
"زواج ليلة تدبير عام" مثال شعبي له مدلوله من حيث قدسية الزواج، و أهميته في الانتقال إلى مرحلة حياتية تستدعي أن يكون الشريك ذي سمعة طيبة و أخلاق دمثة، حلو المعشر، هادئ المراس، قادرا على تحمل المسؤوليات الجسام، لذلك يقتضي الزواج مرحلة من التفكير في الاختيار و تدبير التكاليف المادية، لأجل تحقيق الحلم الذي يراود الصغير و الكبير، أن تحصل في نهاية المطاف على عيش هنيء متوفر على شروط العشرة الزوجية و متطلباتها، و بعد قطع أشواط من مراسم الزواج الذي تقننه طقوس و ضوابط ملزم على الجميع التقيد بها لتمريره في أحسن الظروف، تأتي ليلة الزواج و ما يليها من استعدادات تليق بهذه اللحظة الفاصلة و الحاسمة في حياة شخصين لم يكن بينهما تلاقي، و تعظيما لهذا اليوم، فإن إعدادات الزينة تصبح سارية لاستقباله في أبدع صورة ترسمها إمرأة بتجربتها في تجميل العرائس، باستعمال الكحل و السواك، فضلا عن مشط الشعر على شكل ظفيرتين مسترسلتين، و تجميل جيد العروس بقلادة من" النقرة" مرقطة بالأحجار الكريمة، أو سلسلة بها حبات من" اللويز"، كما تزين الأذنان بأقراط مزركشة تزيد لوحة وجهها بهاء، إلى جانب التلوين الممزوج بأثر السواك و الكحل الطبيعي، حتى تكتمل الصورة و تظهر العروس في أبهى حلة، فإنها تتمنطق بحزام من" النقرة" مزين بأحجار ملونة، تضع على معصمها" مسياسا" و على رجلها خلخالا، بعد الانتهاء من تجميل العروس تُغطى" بالحايك" تحصينا من" العين" و خوفا من سوء الطالع، و أن يكون لزوجها شرف الكشف عن زينتها بإزالة الحجاب و النظر إلى وجهها لأول مرة، تتم عملية التزيين بمعزل عن النسوة المنهمكات في أهازيج غيوانية راقصة متبوعة بزغاريد تطلقنها بين الفينة و الأخرى، و في ذات السياق فإن الأسر الميسورة كانت تكلف" ماشطة" يهودية متخصصة في تزيين العرائس للقيام بالمتعين، فالعروس إضافة إلى جانب الكحل و السواك كانت تتجمل" بلكرفاش بولحية" في عنقها، و أساور ذهبية" لمسيبعة" في يديها، و أقراطا تزين بهما حلمة أذنيها، و حزاما من" النقرة"، على أنها من علية القوم بإمكانها توفير كل الحاجات التي تحفظ مقامها، و قدر عائلتها، و التفاخر بما تقدمه احتفالا بالزفاف من أدوات الزينة، و أطباق الأكلات التي يميزها الشواء، و أهازيج احتفالية يؤطرها" لبارديا و العرفة"، فرغم التباين الاجتماعي بين العائلات في تنظيم الزفاف، إلا أن الطقوس و العوائد توحدها دون تفاضل، تلزم جميع الطبقات على تنوعها بالتقيد بها و احترامها. بعد إتمام طقوس تجميل العروس، و قيام أهل العريس بما يلزم من إعدادات تناسب استقبال العروس في أجواء من الفرح، يتم اختيار موكب مؤلف من النساء و الرجال من قبل الزوج أو عائلته، وفق صفات تميزهم، خاصة القدرة على تحمل عناء السفر، و البراعة في التواصل مع أهل العروس عند إخراجها من بيت والدَيْها، يقود هذا الموكب أخ الزوج قاصدا بهم بيت العروس في جو احتفالي، تتعالى فيه أصوات النساء بمقاطع غنائية على نغمات" البندير"، يستمر هذا الكرنفال التقليدي إلى غاية دار العروس، ليجدوا أهلها في استقبالهم بالزغاريد، و تبادل المديح في تعداد مناقب بعضهم بإنشاد مقاطع من" إشريبن"، و في غفلة من الوفد الرسمي يدخل أخ العريس لاصطحاب العروس، بينما يعترض سبيله أخوها الأكبر أو أحد أعمامها، مشترطا مبلغا ماليا نظير فسحه الطريق لهما، فتبدأ المفاوضات و تشتد بين الجانبين إلى أن يحدث التراضي، و نظرا لما في هذا الطقس من ترفيه و مرح ففيه دلالة على اختبار مدى قدرته على إيصال زوجة أخيه مهما كلفه الامر من تضحية، في إشارة إلى أن الأخوة لا تقدر بثمن، فهو الحامي لزوجته و الأحق بصيانتها، عندها تخرج العروس مرافقة لأخ العريس و هي مغطاة" بالحايك"، حاملة تحت إبطها قطعة من الخبز، تجر أرجلها على الأرض بشكل متواصل، لما في ذلك من فأل خير على العازبات من أهلها قد تتزوجن من بعدها مباشرة، و عند وصولها إلى الدابة يحملها أخ الزوج بين ذراعيه ليجعلها تمتطيها، و كذالك الصندوق الذي يضم حاجياتها يضعه و بعض المرافقين على دابة أخرى، و في هذا تأكيد على الرابط الأخوي القوي الذي يجعل إمكانية إحلال الأخ مكان أخيه في مثل هذه المواقف أمر له أبعاده، باعتباره سندا يصون الأمانة و يحفظها لصاحبه، بعد ذلك يَهُمّ الوفد مغادرا في اتجاه بيت العريس، ليجدوهم في استقبالهم بالزغاريد و الأغاني الراقصة، فيتم رش العروس بالسكر الممزوج بالحناء الذي يرمز إلى الحياة الهنيئة البيضاء التي ستعيشها رفقة زوجها، و من العائلات من تنثر على رأسها بعضا من القمح، في إشارة إلى الخصوبة و الإنجاب اللذان ينتظرانها، مرة أخرى يتكلف أخ الزوج بإنزال العروس من على الدابة، ليحملها بين ذراعيه إلى غاية باب عش الزوجية، أثناءها تعطى لها بيضة تضرب بها حائط البيت، لتدخله بخفة فائقة حتى لا تصاب بشضاياها، لما في ذلك من فأل خير على العروسين من أن تمر ليلة الدخلة دون أن ينتابهما مكروه، في هذه الأثناء يكون العريس بمعية وزيره و بعض المرافقين من الشباب العزاب في الحوش، ينتظر إشارة الدخول على زوجته التي يجهل وجهها و لم يسبق أن تشرَّف برؤيته، امتثالا للتقاليد التي تُشدد في احترام هذه العادة التي دأبت عليها القبيلة، كما تُمنع العروس أيضا من الخروج من الدار منذ خِطبتها إلى أن تُحمل إلى زوجها. نظرا لقدسية ليلة الدخلة فإن طقوسا يتم ممارستها من أجل تمريرها في أحسن الظروف و دون أذية لأحد العروسين، ففيها ما يصون من" اتقاف" كنوع من الشعوذة التي قد تحول فرحة الليلة إلى كآبة، الأمر الذي يجعل العريس يتسحب خلسة إلى مخدع الزوجية دون أن يرمقه أحد من الحاضرين، أو يوضع له" غراف" مملوء بالماء وسط الحوش، فيقوم بركله حتى يتناثر الماء، ليستمر في المشي رفقة" لوزير" متجها إلى بيته ليجد أمه ممدة أمام الباب، فيعمل على تخطيها، لما في ذلك من رمزية على تجاوز صعوبات ليلة الدخلة، و في هذه الأثناء يتلبس الخوف و العبوسة محيا العائلتين إلى أن يعطي العريس إشارة أنه وجد عروسه عذراء، فتنتعش الأجواء من جديد على أصوات الزغاريد و طلقات البارود، فتقوم الأم باستظهار المنديل المخضب بدماء العذرية، في جو غنائي راقص، ترمي به في الهواء بين حين و آخر إلى أن تسلمه للمرأة المسنة المرافقة للعروس و التي يطلق عليها" تمظروفت"، لتسلمه بدورها للوفد الحاضر من جهتها، فيقفلون راجعين إلى الديار مصحوبين بما يرمز إلى الشرف و العفة، في شكل" علام" يسير به الموكب إلى غاية منزل العروس ليقدم إلى أمها كعربون تحتفظ به للشهادة على ذلك. أما إذا حدث العكس، فإن العريس لا يتسامح مع العروس الغير العذراء، فيتم فضحها و إرجاعها إلى دار عائلتها في موقف حرج و كئيب من أهلها، لتبقى وصمة عار منقوشة على جبينها لا يمحوها النسيان، و في هذه الحالة و بحضور وجهاء القبيلة يتم اختيار إحدى الفتيات الحاضرات لتزف إلى عريسها، بعد التشاور لاتخاذ هذا الإجراء المتداول في مثل هذه المواقف. طقوس متعددة تختلف حسب العائلات، و حسب كل قبيلة و منطقة، مما يصعب حصرها و النبش فيها، إلا ما سمعناه من الأجداد و عشنا بعضه مع الأعمام و الأخوال.
انتهت ليلة الدخلة بكل تفاصيلها وفق قواعد تم الانضباط لها، لما تشكله من حماية للعروسين من صعوبات مختلفة، قد تكدر صفوهما و تقلب أفراحهما إلى منغصات، و لن يتم لهما هناء مميزا إلا بتمرير هذه الليلة المقدسة بما يستدعي التفاخر و الاعتزاز، بعد إثبات عفة و شرف العروس و فحولة الرجل، خوفا من أن يتلبسهما العار حسب الذهنية الشعبية السائدة، و لما كان في الطقوس المتوارثة ما يحقق المبتغى، فإن في مجافاتها و عدم تنفيذ شروطها ما يُوقِع الزوجين في المحضور الذي يتوجس منه الجميع و يتجنب حدوثه، لذلك وجدوا في ممارسة العوائد الموروثة وقاية من كل مكروه، و حافظة للعزة و النخوة، فبعد ليلة الدخلة تكون العروس قد وفدت معها قبلا إلى بيت الزوجية بأنواع من المكسرات و الحلويات و البيض و العلكة و الحلوى، و بعض الهدايا على شكل" بلوزة" لأم العريس تهاديها بها صباح اليوم الثاني، و جلباب و بلغة للأب، تحرص الأم على انتقاء هذه الأشياء بعناية شديدة درءا لحساسية الموقف، إضافة إلى السواك و الكحل الذي تكون قد وزعته على شكل رزمات" كمُّوسات"، و بعض الهدايا الأخرى الخاصة بالأطفال، مباشرة بعد مغادرة" تمظفورت" لعش الزوجية في اتجاه بيت عائلة العروس، تدخل النساء عليها وهي مزينة بالعطور الطبيعية، لابسة إحدى الفساتين التي أتت بها، في جو من الفرح و المرج و هن يرددن" عطيولنا العلف، عطيونا العلف..."، لتهم العروس بتوزيع تلك الرزمات عليهن و بعض الهدايا للأطفال، و تهم في الآن ذاته بتقديم المكسرات و البيض من باب إشراك الطعام، و خلق الانسجام بينها و بين أفراد العائلة، و في كل ذلك فإن النساء لا ينقطعن عن إطلاق الزغاريد، لتستمر الأهازيج الغنائية بنفس الوتيرة، فيبدأ طقس ما عرف" بالحجبة" الذي يرمز إلى الاحتشام و الحياء، حيث يتم حجب العروسين عن أنظار الحاضرين في بيت واحد إلى أن يتم تكليف أحد الصبية لقطع الحجاب، و من العرائس من قد تغلب عليها الحشمة فتفر مغادرة البيت، لكنها تبقى مناسبة تُنتهز فيها الفرصة للتقرب من عائلة العريس، و إبعاد الكلفة و التصنع بينهما، و نسج علاقة فيها من الانسجام و الائتلاف اللذان يوحيان بدوام العشرة الهنيئة، و في غمرة هذه الطقوس و شعائرها يعلن" لَوزير" عن الانتقال لمرحلة أخرى يطلق عليها" أخضاف أهركوس"، و هي لعبة مرحة تحتاج إلى مال و صبر و براعة في الحوار، فالشباب العزاب يترأسهم" لوزير" يقومون بحراسة" مولاي السلطان" و كل حاجياته، في حرص شديد لئلا يتم اختطافه أو بعض لوازمه من طرف المتزوجين، فما ينتزع منهم بالخدعة يقدم للعروس التي تكون بدورها قد جهزت ما يسمى" بالعلف"، فهو طبق ممزوج بأنواع من المكسرات و البيض، تمد المختطفين بحفنة منه، و كذلك العزاب إذا قاموا بشراء الأشياء المتنازع عليها، أما إذا وصلت الحاجة المختطفة إلى أهل العروس، فاستردادها سيكلف الشباب مبلغا باهضا قد يعجزون عن أدائه، فيعرضهم للسخرية من قلة الحيلة، فهي لعبة تسيطر عليها الأنفة و التنافسية الشريفة، لأجل حماية من يحتاجون إليها، و الذود عنهم حتى لا يتعرضون للمقايضة، لما فيها من الاستخفاف من ضعفهم، و عدم قدرتهم على المواجهة في الميدان. خلال اليوم الثالث من الزواج تفِد الأم و مرافقاتها من العائلة باستثناء الأب، محملة بكل لوازم الاحتفاء بطقوس هذا اليوم، فتكون عبارة عن ذبيحة و طبق ممزوج بأنواع المكسرات و البيض و الحلوى، فهذا اليوم يعد مرحلة فاصلة للعروس من حيث انتقالها من فترة الراحة و الإعفاء من الواجبات المنزلية، إلى ممارسة مسؤولياتها الزوجية، لذلك فربط العروس" بالحزام" إشارة ضمنية لإبراز خفتها و قدرتها على القيام بأشغال البيت" لحداكة"، وشعائر هذا الطقس تصب في هذا المضمار، بحيث يتم جلب قصعة من الطين يتوسطها" مَسْياس" داخله بيضة طازجة، تضع فيها العروس رجلها اليمنى لتتولى إحدى النسوة غسلها، على أن يأتي أصغر إخوة العريس فيقوم بحزمها بحزام من" النقرة"، تكافؤه بمبلغ من المال نظير انخراطه في شعائر هذا الطقس، و في كل هذه الأجواء المميزة تنغمس النساء في صنع الفرحة، بتأدية وصلات غنائية راقصة، تتبادل فيها العائلتان إطراءات و مدائح في مناقب بعضهما، إلى أن يأتي المساء حيث يجتمع الشباب العزاب و المتزوجون من جديد، للمزايدة على طبق مملوء بأنواع المكسرات و البيض و.....، و طبق به لحم و لوازمه، فإذا عجز الشباب عن شرائه يتم تكبيلهم على سبيل اعتقال المنهزم في المعركة، إلى أن تتدخل محكمة النساء فتصدر العفو عنهم، و يُحكم عليهم بالطرد من العرس حتى يأتي العفو من" مولاي السلطان" في نفس الأمسية، لينخرط الجميع في عملية لغرامة من جديد التي تأخذ طابع ديْن يُسجل فيما يعرف" بالزمام"، على أن تجمع تلك الإعانات المالية في منديل لتهدى للعروسين، عندها تقفل أم العروس راجعة إلى بيتها، فتترك مع العروس" تمضفورط" لتتولى شؤونها، و تشاورها فيما شَكُل عليها من أمور حياتية مختلفة، و في اليوم الموالي للحزام تستفيق العروس باكرا للقيام بشؤون البيت، لتتعرض لعملية اختبار قدرتها على الكنس و الطبخ و عجن الخبز، و إلا سينطبق عليها المثال الشعبي" لمرا لي ما تغربلش دقيقها غير ترجع على طريقها "، في إشارة إلى شرط المهارة و" لحداكة" في إنجاح الحياة الزوجية و استمرارها. تنتهي طقوس الزواج خلال اليوم السابع بمرحلة أساسية يطلق عليها" حب الراس"، حيث يقوم العريس و عائلته بزيارة أهل العروس، محملين بالذبيحة و لوازمها تقديرا لعظمة هذا اليوم، حيث يتم فيه التقاء العريس بنسيبه لأول مرة، لتُرفع بينهم الكلفة و الاحتشام الزائد، تمهيدا للتزاور فيما بينهم على أساس أنه أصبح واحدا من أهل البيت. كما تتضمن المنظومة الطقوسية الاعتقادية أيضا مجموعة من السلوكات التي لا يجوز الاعتراض عنها لأهميتها و تنوعها، و ما ترمز إليه من دلالات عميقة، جعلها من المسلمات الأساسية المتوارثة التي استبدت بالعقول و النفوس، و جعلها تعمر طويلا في مقاومتها لأسباب الإندثار، من خلال الحرص الشديد على استمرارها، لكونها مسترسلة و متلازمة لبعضها و لا يمكن تجاوز إحداها، فهي فسيفساء من العادات المترابطة و المتراكمة خلال حقب متعددة من التاريخ، فرغم تعرضها لمؤثرات الحداثة و العصرنة إلا أن حضورها لا زال لافتا و لو بالنزر القليل منها، مما يفتح نقاشا مستفيضا حول التخلي عن مجموعة من الطقوس في مقابل تعويضها بعوائد تحررية، تحمل في جعبتها الكثير من التغييرات التي أتت بها رياح العولمة و الاحتكاك بثقافة الآخر، لكنها تبقى موروثا ثقافيا نابعا من تراث شعبي يؤثث الذاكرة و يغني مخزونها، فالحديث عن الثورة على المنظومة الطقوسية بسلبياتها و إيجابياتها لا تتم بمعزل عنها، بل هي امتداد متواصل ضمنيا لهذا الموروث الثقافي، لكن بحلة أخرى تتضمن ترسانة من المتغيرات، فيها إيحاءات من هذه الطقوس التي يبدو أنها لن تخبو لارتباطات تاريخية تجمع بينهما، لذلك يبقى استحضار هذا الموروث و استجماعه للإغناء و التعريف به حتى لا يطاله النسيان، أمر يحتاج إلى الإهتمام و الدقة في صحة المعلومة، لربط السابق باللاحق من أجل الإنتقال إلى مرحلة أسمى و بأسس سليمة بعيدة عن اجترار الماضي التليد، أو السقوط في تقليد الآخر و التشرب بعوائده الغريبة عن مجتمعاتنا، فالتغيير من المفروض أن ينطلق من جذور لها امتدادها عبر التاريخ، للوصول من خلالها و عبر مراحل فيها من التدرج ما يوصل إلى نتائج تحررية، يرتضيها الجميع و ينسجم مع عوائدها المتجددة، و كل انسلاخ عن الماضي يعني انسلاخ عن الهوية و مكوناتها الثقافية.
أغاني الصف عند قبائل بني يزناسن
أغاني الصف عبارة عن أهازيج شعبية، لها دلالتها الرمزية في التعبير عن التلاحم و الانسجام الذي يربط المجموعة مع بعضها، في إشارة إلى التماسك الذي يشد أفراد المجتمع لمواجهة مشاق الحياة و صعوبتها في ميادين مختلفة، انتقلت تأثيراتها إلى عمق الإنسان البدوي ليحولها إلى كلام ذي شجون، يُترجم مشاعر لها معاني دالة على الحب و الكراهية و الخيانة و الوفاء، و فيه ما يعبر عن الحرب و السلم، فهو كلام منغم و عفوي يصدر انطلاقا من أحاسيس جياشة و صادقة، له مميزاته في التشكل حسب المناسبات، يطبعه التفاخر بالأنساب و تعداد مناقبهم، و تمجيد تاريخ الأجداد الوجهاء بما قدموه من خدمات من أجل أبناء القبيلة، كلام موزون له مضامين اجتماعية و سياسية و دينية هادفة، تغنى بالحب و الغزل و أسهب فيه بأساليب غير خادشة، تعبر في كنهها عن النضج القيمي و الخلقي اللذان ميزا سلوكات الإنسان البدوي، و أعطى لأغاني الصف قيمتها التعبيرية التي تعكس الجوانب التثقيفية و الترفيهية للقبيلة، من حيث تجسيدها لحياتهم بكل أحزانها و أفراحها، كما تخلد لأحداث كانوا أطرافا فيها مثل الهجرة و الأعراس و الأعياد بأنواعها، بل تجاوزت ذلك لتتناول جوانب سياسية تدعوا فيها إلى الثورة ضد المستعمر، و تعضيد المقاومة لتحقيق الحرية كما جاء في أقوالهم" انت كافح و انا نغني حتى نتلاقو فالحرية"(غيوان متداول عند الجزائريين أيضا .( أغاني الصف في مجموعات متناسقة انعكاس لتلك الحياة المجتمعية التي تعتمد على سواعد الجماعة في ممارسة الأشغال اليومية في إطار" التويزة"، و لتلك الحياة العائلية التي تضمنتها دار واحدة، تجمعهم المحبة الصادقة، و التعاون المثمر من أجل خدمة الجماعة الأسرية، هذه الروح الجماعية السائدة في المجتمع القبلي كان لها أن تجد موطئا ثابتا في في الأفراح، من خلال ابتداعهم لأغاني الصف التي تكتسي بدورها طابعا جماعيا، بمميزات فيها من الترابط الوحدوي الذي يُعبر عنه بحركات متناسقة و منسجمة مع بعضها لتشكل لوحة فنية تستهوي الناظر إليها، و تجعله مشدوها أمام تلك الرقصات على إيقاع البندير، و صوت" الفتاية" الصادح بكلمات مسجوعة تهتز لها المشاعر، لتُترجمها إلى حركات راقصة، تكون عند الرجال باستعمال الأرجل و الضرب بقوة على الأرض، للدلالة على الرجولة في مفهومها المتضمن لكل المعاني و الصفات التي توحي بذلك، بينما النساء تكتفين بهز الأكتاف، و" الفتاية" تخرج من الصف رافعة" البندير" إلى أعلى و هي تضرب فيه بقوة، ليُحدث أنغاما تتناسب و معاني الكلمات الغيوانية التي تصدح بها عاليا، لتوحي بقيمة دلالتها عندما ترافقها حركات راقصة فيها إقبال و إدبار للصفين، حيث يتراجع صف إلى الوراء و يتبعه الآخر، حتى يخال إليك أن أحدهم يدفع الآخر دون أن يحدث تلامس، رقصة غوانية بنظام متقن تكتنفه عفوية في الأداء، و انسجام متكامل في الحركة و نغمات" البندير"، رقصة الصف متأصلة ضاربة في التاريخ، ارتبط وجودها بالأمازيغ، مارسوها وفق ما تمليه تقاليدهم، فأبدعوا في اختيار كلمات تعبيرية ذات نسق احتفالي تطور أداؤه مع دخول الإسلام، لتصبح الدارجة العربية لغة التعبير، بينما تم الاحتفاظ بباقي الطقوس الغيوانية، و بعض الأزياء التقليدية المتمثلة في اللباس الأبيض" لبلوزة" الذي يرمز إلى صفاء النية، و منديل مزركش بالألوان يغطي الرأس في دلالة على الحشمة و الوقار، و الحناء لتزيين الأيدي و الأرجل، و الحلي التقليدية من خلخال فضي، و عقد مرصع بالأحجار الملونة يضفي بريقا و إشعاعا على لابسيها، و الأجمل من هذا أن النسوة كن يظهرن بمظهر واحد، في تناسق شمولي يصعب معه التفريق بينهن، ليمتد ذلك إلى طريقة ترديدهن لتلك الأهازيج الشعبية في صفين متقابلين، يميزها لحن يطرب المشاعر و يحرك الأوصال، لينتقل هذا اللون الغنائي إلى صفوف الرجال الذي يُؤدَّى بحماسة زائدة، فيها من القوة المعبر عنها بحركة الأرجل، و كلمات تتضمن تعابير توحي بالرجولة الحقة، و ما ينكه الفرجة و يطبعها بلون فني فريد، حين يصطف فريق من النساء، فيقابله صف من الرجال في لوحة غنائية يميزها سجال يحمل الكثير من المعاني المبطَّنة التي تحتمل التأويل، ليتلقفها الآخر فيرد بما يناسبها في قالب فني مثير، يُمتع السمع، و يحرك الفكر لفك الألغاز التي تتضمنها الكلمات، فينتشي المتفرج معها سعادة و فرحا و هو ينغمس فيما يقدم من عرض فني، يجمع بين الحركة و الآلة و ما تصدح به الحناجر من أغاني، في تناغم يحكمه إيقاع واحد. قديما ارتبط هذا اللون الغنائي الراقص قبل أن يتخذ نسقا مغايرا بنزول المطر، تعبيرا منهم عما ينتابهم من فرح لتوقعم موسما فلاحيا منتعشا، و عند جني المحصول و وفرته لما فيه من ضمان لقوتهم اليومي، و عند فصل الربيع و ما يأتي به من كلإ للمعيشة الحيوانية، عوامل أساسية كانت تحرك لدى الإنسان البدوي مشاعر فياضة، يُترجمها إلى حركات راقصة على وقع نغمات غنائية، قبل أن يرتبط بالأفراح و المناسبات، و تنظيم الولائم الشعبية، و تكريم الضيوف من الوجهاء، لكن دون أن ينحرف عن الإطار العام للطقوس التي تأثث الرقص الغنائي، أما النسوة اللواتي تمارسن هذا النوع من الغناء، فإنهن تحضين بمكانة خاصة وسط القبيلة، فيها من الاحترام و التقدير ما يرفع من شأنهن، يتم دعوتهن عند كل مناسبة احتفالية ليقدمن ما لديهن من أغاني راقصة، تتنوع مواضيعها بين السياسية و الاجتماعية و الدينية، و لكل نوع من هذه الأنواع وظيفة يؤديها، فالأولى تثير الهمم و تنشر الوعي بقضايا مختلفة، و الثانية تجسد الواقع المعيشي للأفراد و الجماعات، و الثالثة توقظ القيم الخلوقة، و هذا التنوع الذي اختص به الغناء الراقص يعطيه قيمة فنية متميزة ذات تأثير ممغنط، يستلب المشاعر ليخفف عنها العبئ اليومي، و يبعث لديها الأمل في غد مشرق.
أغاني الصف كلماتها لم تأت اعتباطا رغم العفوية التي جعلتها تنساب بدافع ذاتي، إلا أن ذلك أعطاها قيمة فنية لها أبعادها مست جميع المناحي الاجتماعية منها و السياسية و الدينية، و لم تبخس من دورها في إيصال رسائل بمعاني عميقة، استزادت من وقعها التأثيري على مشاعر المتلقين، و أسهبت في العطاء دون تقتير، فكان للتنوع حضور وازن فيه من الدقة التعبيرية في تناول الأحداث، و هو ما جعل أغاني الصف تقوم بدورها في إيقاظ الهمم، و مشاركة المقاومة قضيتها الوطنية، من خلال تعضيدها بتوجيه رسائل مشفرة يلتقطها أصحاب الشأن المعنيون بها، للاطمئنان على الدعم و المؤازرة اللذان يوليهما أهل القبيلة للفدائيين الذين جعلوا قلاعهم بالغابة، لتأتي الكلمات الغيوانية بمثابة دعوة إلى الله ليحميهم بظله من بطش الاستعمار" أرَبي دِير الظلالة على صحاب الليل فالغابة" في إشارة إلى الفدائيين الذين يحتمون في الغابة، و في جانب آخر نستشف من كلام الصف معاني الشجاعة، و بسالة المقاومين في مواجهة المستعمر و أسلحته الثقيلة" علاش تخَوْفونا بالطنوكا، السي علال هاز القنبولة"، فيه تجسيد للشجاعة و الدفاع المستميت من أجل التحرر، كما يوحي غيوانهم بنوع من الاطمئنان للمقاومين إذا وفد عليهم أهل القبيلة بالغابة، بغية الالتحاق بصفوفهم و مشاركتهم قضيتهم الوطنية" الفدا يا اصحاب اللِّيلْ راني ما ناوْيا غِير الْخير"، يبقى للغيوان دور في تأريخ الأحداث و صياغتها في قالب فني يستسيغه كل من تعاطى مع هذا اللون الغنائي، و لما كانت فرنسا بكل قوتها تستنزف خيرات المناطق التي احتلتها، فمن الطبيعي أن تمتد يدها لسرقة منتوجاتهم المعيشية من الدواجن و ما شابه ذلك، كما كان يحدث ببحيرة واولوث حينما كانت تلقى فيها الذبائح فجرا طلبا لقضاء الجاجات، كان جنود المستعمر يتسحب لجمع تلك الدواجن المتناثرة فوق المياه، و سرقتها بالحيلة لتكون لقمة سائغة تسد رمقهم" فرانسا خكّانَت الفلوس ازّاك ما تهولي في لڭَنوس"، كلام ينم عن تحذير مبطن للمستعمر و إقدامه على إزعاج أهل مناطق الاحتلال، بما يتعرضون له من سطو و اعتداء على ممتلكاتهم بالقسر، كما جسد الكلام الغيواني لفترة تاريخية حاسمة، حينما تطورت الديبلوماسية الوطنية و فاقت الحدود لما أصبح لها سفير عربي مغربي، ينطق بلسان حالهم عند باقي الأجناس" منين ولى قونصو عربي أسعدي يانا بسيدي ربي" كلام يُستسقى منه فرحة و ترحيب بهذه المبادرة، لتأخذ قضيتهم الوطنية منحى آخر تشق طريقها نحو المنظمات العالمية، لتوسيع دائرتها الدبلوماسية بإقناعهم ليكونوا عونا و سندا لهم على ربح رهان الاستقلال. لم يقتصر الكلام الغيواني على مؤازرة المقاومين، و ذَمّ سلوكات المستعمر، و إثارة حفيظة أهل القبيلة لمواجهته، بل تعدى ذلك إلى فضح الخونة و الإشارة إليهم بأسمائهم، للحذر من وشايتهم، و تعريفهم للفدائيين لينتقموا منهم نظير خيانتهم لوطنهم" جلاب اشراركا عجباتوا "آفلان" بياع خوتو"، في حين أبرز الغيوان في كلامه المسترسل و المنغم ذلك التلاحم و الترابط الذي كان يشد الشعب بملكه و الاستماتة من أجله، بل بلغ به الأمر إلى دعوة المواطنين إلى تعليق صورته على صدورهم في تحد صارخ للمستعمر" تصويرت الملك أولدو نديرها في صدري قبالة لعدو" و في غيوان آخر فيه دعوة كذلك إلى ذوي القلوب التي لا تستشعر وطنيتها، إلى إمعان السمع في خطابات الملك و فهم مغزاها العميق" آلي معندكوم قلوب تنصطو لملككم واش إقول" و في المقابل فإن غيوان الصف لم يفته أن يثني على مقاومي منطقة واولوث، و بطولاتهم الفدائية، و استشهداهم من أجل قضيتهم" آواولوث آلوطنية لي إجاورك إجاور الجنة" لما لها من خصوصيات تميزها عن مثيلاتها، جعلت من مجاورتها جنة بمواصفات بديعة. بثقة المتمكن بالشيء يجزم غناء الصف بأن الاستقلال آت و سترفع الأعلام عاليا كموقف من المقاومين، ليكون إشارة واضحة للإعلان عن الاستقلال" لعلام لي خرج عشيا لاستقلال إكون في يَدِّيّا"، هذا على مستوى الدور الذي لعبه الكلام الغيواني في مؤازرة المقاومة بطريقة فنية ملغمة بمعاني لا يستسيغها إلا المعنيون بها، و لهم في ميادين أخرى كلام يطرب المشاعر كما في قولهم" لَحباب و لْخَيَّات كاع هْنا آسْيادي مَزِّينْها مَعشِيَّة"، في إشارة إلى الفرحة بلمة الأحباب و الإخوة الذين يزينون الأمسية بحضورهم، و تعاويدهم حول الزمن الماضي و ما التصق به من ذكريات يحن إليها كل من عايشها، كما يتمنى الجميع أن تدوم ساعة التلاقي التي جمعت كل الفئات العمرية من شباب ممتلئ حيوية و نشاط و غيرهم" آلواغش آصغار اليوم مَزِّين هاذ الساعة لوكان ادُّوم" كما يتفقدون في تلك الجلسات العائلية الأحباب الغائبون الذين كانوا يزينون بدورهم تلك اللمة" حتى واحد ما راه هنا فين غابو لمزينين الدارة" كلام يكشف عن العلاقات التي كانت تربط الجميع، و تشدهم إلى بعضهم، و السؤال عن الغائبين منهم، و تلمس العذر لهم، و الدعوة إلى سن مبدأ التسامح في حال الخلاف، و تجاوزه قبل أن تخطف أحدهم الموت" رواحو نتسامحو يا لبنات الموت غدَّارة شحال دَّات" بل و امتد انشغالهم بغياب الأحباب ليشمل المهاجرين عن الديار" شوشوني لحباب لي برا راني هنايا كي لي مرهون "، و في كلام آخر يتعلق بالهجرة و اسطابتها عند بعضهم للتغلغل أكثر في بلاد العجم، و تهديد الحبيبة بعدم الرجوع" من فرانسا زايد لبلجيك قولو لغزالي محال نجيك". الشعور بالضيق و ما يفعله بالإنسان كان له أيضا حضور في الكلام الغيواني، ليميط اللثام عن المعاناة النفسية و ما تستشعره من غم يستدعي صبرا و تحملا لتجاوزه بإيعاز من الآخرين للتخفيف من حدته" صبرو قلبي لا دجيه الغما هاذي هي حالة الدنيا" و في منحى آخر" أمال قلبي متهول و الموجا تدي فيه أمال لبحر متهول و الموجا تلعب فيه"، و في سياق مختلف فقد كان الأبناء يومها عزوة والدَيْهم يحسسونهم بالأمان، حتى أن أحدا لا يجرؤ على مسهما بسوء تحسبا لردة فعل الأبناء" متعنيا بخوت يمينة نمشي وحدي ما نخاف الدنيا" و في دلالة على كثرة الإنجاب و استحباب الذكور لما قد يشكلونه من قوة لها بأس شديد، يهابها كل معتد أثيم، فهم يحرصون على بقائهم جماعة في الغدو و الروح" فرحي يا الصينية خوت يمينة جاو كبانيا"، كما يبرز غيوان الصف دور المرأة في تدبير شؤون القبيلة، بما في ذلك ممارسة مهنة القضاء و الحكم بين المتنازعين بقوانين عرفية" من الركادة لبني موسي تحكم يامنة مكانش القاضي"، و في كلامه إيضا" نطلبو ربي إولي قاضي محمد آلي قاري"، يربط تولي منصب القضاء بشرط التعليم، وهو المطمح الذي كانت تهفو إليه كل أسرة أو قبيلة، أن يكون أحد أبنائها ممن يحكمون الناس بالعدل، لما فيه من تشريف يتباهون بانتسابه إليهم، و يعزز مكانتهم داخل العشيرة.
الكلام الغيواني في تعداده لمناقب القبيلة جعل من شرف نسائها و عفتهن مجالا للاعتزاز بهن و بجمالهن، كما تحدث عن صعوبة تخطي الحواجز المحاطة بهن" الزين في واولوت ما لقيتلو حيلة منين نفوت"، كلام فيه اعتراف صريح بالحرص الشديد الذي توليه القبيلة لصيانة عِِرض و شرف نسائها من الاغراءات التي قد تستميلهن، مما شَكُل على الغرباء الوصول إليهن مهما بلغت درجة الدهاء و الحيلة لديهم، حتى أنهم إذا لَاقوْهنّ بالصدفة النادرة، فإن عينيهن بنبرتهما الساحرتين ستنوبان عن لسانهن للتعبير عن ولعهن، لما في لفتة العينين و بريقهما الذي يخفي عشقا طاهرا من رسالة غير مخطوطة سطورها بمداد، لكن نيران العشق الملتهبة ترسل شظاياها لتنفذ إلى قلب المحب، فيستسيغ معانيها الرمزية التي تبعث عنده أملا في الجمع بين قلبين منفطرين، بسبب الحرص العائلي الشديد على صيانة الشرف الذي اختزلوه أكثر في شرف المرأة" انت براني و اهلي شنين، سلامي عليك غير بالعنين"، و نفس الشيء بالنسبة للفتاة الدخيلة على الدوار كضيفة، فإنه محرم أن يقترب منها أحد، فما يسري على بناتهن من توقير و احترام يسري عليها، فتكون لغة العينين هي لسان حالهم" العين الكحلا البرانية، سلامي عليك غي بعينيا"، مما يجعل لقاء الأحبة أمرا مستحيلا، من شدة المراقبة التي شبه فاعليها برجال الدرك الحريصين على مدار حراستهم" آيمنة كندير لملقاك، جدارميا ساكنين حداك"، لكن في تحد المحب الولهان فإنه لا يبالي بالبحار و الجبال التي تفصله عن حبيبته، و يستحال أن تكون بُعد المسافة بحواجزها سببا في نسيانها" بيني وْبينك لبحر و الجبال، محال ننساك آختي محال"، لكن في كلام آخر يبرز فيه الغيوان انشغال بال المحب حتى طيَّر النوم من جفونه، و صار يقضي الليل بطوله ساهرا في الروح و الغدو في الطرقات " آلبنية بيني وبينك دايرين السور، انتِ هانيا وَ نَا نْبات نْدور"، و لما يجد حالته تزيد سوءا من شدة الولع، و الاشتياق المهووس الذي أفقده توازنه النفسي، فإنه يستنجد بأقاربه لزيارة الأولياء لعل ذلك قد ينجيه مما هو فيه" داويني يا خويا وزورني، حب النسا راه شيبني"، لأجل التخفيف أكثر من وطأة معاناته، و تجاوز حيرته في إيجاد مخرج لمعضلته، فإنه يستنجد بالفقهاء طلبا لمساندته بدعوات علها تجد له بصيصا من أمل مفقود" سياد الطلبة رفدو معروف، إلى هي راكدة و نَا نْبات نْشوف"، في اعتقاد منه أنه قد سحرت له ليهيم بها و ليس بغيرها، كما قد يتعرض لمحاولة تفريق عن حبيبته باعمال الشعوذة" وردوني لكتوب أسحروني ، آلالة ما كنتش في بالي" لكن للحبيبة ردة فعل تنجي بها علاقة تتعرض للإتلاف، باللجوء إلى نفس العمل الذي أعطى مفعوله" الطالب لي كتبتو عندو، عاوديلو راه خطو زين"، أما الحب تحت التهديد فلن يثمر منه شيئ، حتى و لو اجتمع الفقهاء على استمالة المحب إلى أخرى لا يودها و لا يطيقها لانشغال باله بمن يعشقها" آيا لوكان دجيبو الطالب من الريف، لمحبة ما دجي بَسِّيف"، فإذا تهور أحدهم و طمس العشق عقله، و صار يتصرف باندفاع المحب الولهان، و تصادف أن اكتشف أمره فإن أهلها سيقطعون أطرافه دون هوادة" أَخلدار بّاك وِلَى شدوك، إقَسموك طراف و يْحطوك"، لذلك و حرصا منه على حياته إذا جازف بها من أجل رؤية الحبيب عند الساقية، فإنه يذهب متسلحا ببندقيته" نعمر الفردي أنمشي للعين، باش نشوفك آكحل العين"، في حين أن أبناء المنطقة العُزّاب كانوا يحضون بحرية التجوال، علهم يرمقون في طريقهم من تقاسمهم الحياة، دون أن يتجرأوا على التقرب منها أو محادثتها" آكمال ما زال صغير سرجلو عودو يختار الزين"، لكن الحصول على فتاة فيها من مواصفات الجمال ما تستهوي كل عاشق ولهان، تستدعي أن يشقى من أجلها إلى الجبال التي تضم بين فجاجها أجمل و أعف النساء، و الظفر بإحداهن يتطلب مهرا غاليا" الزين طلع لجبل أورصا آلي بدراهمو يشقا"، و في حال عجز عن دفع الصداق المطلوب فإنه سيبقى بدون زواج" كاع الناس دارت لعراس كمال مقد علاش"، بسبب عدم نيل مراده فإنه يستنجد بالأولياء ليكتب له الزواج" سيدي ميمون زوجني، كل عام نجيبلك حولي"، و نظرا لوجود جبال تحول دون التمكن ممن استلبت مشاعره و تربعت بقلبه، فإن كفكفة الدموع و انسيابها تكون المخفف له من معاناة الشوق" آفاطمة دركوها لجبال، ابكيو آعينيا"، و في رغبة جامحة لرؤية من استبدت بعقله و فكره، صار و بنبرة المتسول يطلبها لأن تطل عليه من وراء الجبال حيث مستقرها، حتى تبرد نيران العشق و تنطفأ شرارته" اركب اركب آلمهولني، شك الجبال تاوك أُوَلّي"، و في ذات السياق و بأسلوب شاعري فياض، يكشف الغيوان عن صعوبة لقاء من استهوت قلبه بلمحة خاطفة من شعرها المنسدل على كتفيها، و الذي يدل على جمال صاحبته، و ود رؤيتها بكامل صفاتها" علاش توَرّيوني سَلَفْها، وَرّيوْني هي بصيفتها"، و من شدة هيامه بها تغيرت أحواله إلى الأسوء من صعوبة الوصول إليها، و طلب من معشوقته أن تطَّلِع على ما صيره إليه غرامه بها" تاوكي آلغزال بالجناني، شوفي غرامك فين خلاني"، و في كلام آخر فيه من الوصف الدقيق لمآل المغرم بحبيبةِِ لم يلتقي بها" تعالا يا الزين تعالا، راه عشقك ردني حالة"، الأمر الذي حمله على التفكير بالهجوم على بيتها و اختطافها، ليهنأ باله بمجاورتها عن قرب، لكن الأصول الأخلاقية التي نشأ عليها و تشرب منها، تمنعه من الإقدام على ذلك حتى لا يتأذى أحد من عائلتها" آراني خايف لا نهجم نديك، ندير حشومة لوالديك"، لكنه لم يتحمل بعده عنها، فصار يصف مواطن جمالها بإسهاب، فجعل تأثيرها عليه من تأثير الرصاص القاتل" فمها خاتم واش يصبرني، عيونها قرطاس قتلوني". لما كان الزواج يتم في أغلب الأحيان دون رؤية العروس حتى ليلة الدخلة ليكشف عن وجهها لأول مرة، فقد يتفاجأ بوجود علامة أو عيب يعتريها، لكن كلام الغيوان يأتي بلسما على قلبه حين يقوم بالتخفيف عنه في قوله" آخويا لا دّير فبالك شاي حتى لهلال فيه الشامة"، بأسلوب فني بديع فيه من الدلالة على تقبل أمر واقع محتوم قد تجد في أجمل المخلوقات ما يعيب، فيحمله ذلك على الرضا بقسمته، مما يبرز ضمنيا الدور الفعال للغيوان في تقديم النصح، لإزالة الغشاوة عن حقائق قد لا يدركها العقل المشوش، فيأتي كلامه مخففا من المعاناة التي قد تستبد بنفسية الانسان، لكن عندما تكون العروس من اختياره بعد أن صال و جال في القبيلة ليقبلها بعيوبها رغم إصرار عائلته على العدول عن قراره، فإن الغيوان لم يغفل في كلامه أن يُعيب عنه" آسيادي عامين أُهُوَ يختار، جاب موكا دارها فالدار"، و في كلام آخر" لي عندو لمرا شينة كيدير يروح للخيمة"، أما إذا كان في المرأة مسحة من الجمال و تهافت الجميع للظفر بها، فقد يسعى بعضهم إلى الاحتكام للقوة" ندابزو بلمطارك عليك، لي وانطا آلالة يديك" و في تقوية الروابط الحميمية بين الأزواج، و باعتبار المرأة الركيزة الأساسية التي تشد البنيان العائلي، فإن الغيوان يدعوها في كلامه إلى الاهتمام بزوجها أكثر، و أن تضعه نصب عينيها" آيامنة طهلاي فولد الناس ديريه بين الطابلة و الكاس"، و في كلام آخر يحث فيه الزوجة على نسج علاقات متينة مع إخوان زوجها، و اتخاذهم عزوة أمام الأعداء لحمايتها من أذيتهم" آربي تشدلي فلحميان باش النّاكر العديان". كلام غيواني يصور في قالب شاعري، العشق العفيف الذي كانت تحكمه فيما مضى ضوابط خاضعة لمنظومة أخلاقية، تراعي تقاليد القبيلة التي تجعل من شرف المرأة تاجا يُعلي مقامها، و يذلها إذا فرطت فيه و لم تعرف كيف تصونه، لذلك تشددوا في إقامة الحواجز التي تحول دون الوصول إليها، فعرف الغيوان بفنية محكمة و دقيقة كيف يجسد تلك المواقف الغرامية، و معاناة أصحابها بإسهاب و دون تقصير، ليعطي للأحداث قيمتها العاطفية و الابداعية التي تستحقها، فجاءت مفسرة لكل غموض اكتنفها، و استحقت من الجميع إعمال الجهد لجمع المتناثر منها، و شرح مدلولها لاستخلاص العبر، و تبني القيم التي اندثرت و حن إليها كل من اطلع عليها و استشفها من لغة الأجداد.
الغيوان بكل ألوانه جسَّد لواقع تنوعت قضاياه، فكان للمعاناة النفسية نصيب منها، و كذلك الصراعات الدائرة بين أبناء المنطقة، و جمال الطبيعة و أمور أخرى كثيرة لم يغفل عنها، و لما كان للحب و الكراهية وجود لا يستهان به، فقد تغنى بهما بإسهاب مستمدا فصولهما من تجارب عريقة اكتوى بهما أكثرهم، و كان لغدر الأصحاب حضور في الكلام الغيواني" ما نويتها ما جات في بالي عَمَّر ما صحابلي لمربي يغدرني"، بل قد ينصدم الإنسان أحيانا في أصدقاء كان يخالهم إخوة و سندا له عند الشدة، لكن السوء الذي تلبس قلوبهم، و الغدر الذي أغشى بصيرتهم، جعلهم يدمرون تلك العلاقة الأخوية، فجاء الغيوان واضحا في كلامه عندما تطرق إلى غدر إخوة لم تلدهم أم واحدة" حسبتك آخويا كيولد مّا، سَعَّى انْتا غدّار آخويا"، مما أربك العلاقات الاجتماعية و اتسمت بنوع من الحذر و عدم الوثوق بأحد مهما كانت درجة قرابته، و السعي إلى تحذير من يريد أن ينتصح حتى لا ينخدع مثل الآخرين" لا تَّامَنْ فَلِّي يَبِغيكْ، رواح نْوَصّيك أُدير الرّايْ"، غيوان يصور التركيبة العلائقية بين مكونات المجتمع، المبنية على الكراهية و الحذر من المقربين قبل أحد آخر، مما ينجم عنهما عداوة سواء بين العائلات أو غيرهم، يكون سببها النميمة بنقل أسوء الكلام بين أفراد القبيلة، حتى تصل جمرة حارقة إلى المعني بها ليستغرب ذلك في قوله" آشْمَنْ عار خْرج مَنْ فَمّي هْدَرتو فِيّا يا بْنِي عَمّي"، قد تُحدث مثل هذه الظواهر المقيتة تمزيقا و تشتيتا لمكونات المجتمع، فيتولد على إثرها تعصب عرقي مدمر يؤجج الصراع و يذكيه أكثر، فقد يوصل أحيانا إلى القتل، أو عزل المقصود بالنميمة الباطلة و إقصائه اجتماعيا، ليواجه مصيره لوحده دون سند يعينه على تخطي وضعه المتأزم" الْكَرَّاضا وَصلوني لَلْموت، ما صَبْط رفيك آخويا"، و في ذلك يوصي بمن اكتوى بنيران العزلة التي عرّضته إلى محاولة تصفية جسدية من أقاربه أو غيرهم، ليأتي كلامه منتصحا" آرواح نْوَصِّيك أُدير الرَّايْ، آفَمِّي لا دكُولْ الْعار"، قد يمتد الصراع بأشكاله المفكِّكة للأوصال، ليشمل الجيران الذين وحدهم فيما مضى رابط المحبة و التقدير اتجاه بعضهم، تزاوروا فيما بينهم، اقتسموا حلو الحياة و مرها، لكن و لظروف قاهرة قد اضطرتهم إلى الرحيل الذي لم يستسغه باقي الجيران، للعشرة الطويلة التي خلفت أثرها على قلوب أبت النسيان" ربيت الكبدا على جيراني، حسابلي لمجاورة ديما"، و قد يعتبرون مغادرتهم للقبيلة غدرا في حقهم، عندما تناسوا رابط الأخوة الذي جمعتهم و تفرق المعشر برحيلهم" هاد الناس غدارا، بَعدُو بالرَّحلَة و انْساوْ الْخاوَة"، بينما تحدُث أحيانا تجاوزات و اعتداءات تمس بعضهم لأسباب متعددة، قد تدفع أحدهم إلى إعمال الحذر خاصة من جانب المعتدي، لتوجسه من رد فعل يجهل مدى حجم إصابته، مما يحمله على تشديد الحراسة حتى لا يتعرض و عائلته للأذى، فيأتي رد الآخر قائلا" تعَدّاو أدارو الْعَسّا فَاللِّيل، جيرانك آختي شينين"، أما عن التلاسن و الشماتة بالآخر، و الاستخفاف بمشاعره و أحزانه، فقد كان له حيز في الكلام الغيواني الذي لم يتغافل عنه و أدرجه في قوله" لخليفة جاب ربي عايروني، بالموت ما هموني"، لكن عندما يتلاحق الغدر مدرارا، فينزل وبالا عليه ممن كان يخالهم أصحابا و جيرانا، و من هول الإنصدام فيهم مما لاقاه بسببهم من أذى، اضطره إلى تحريم مجرد الرؤية إلى وجوههم" كاملين عدياني ما كان صديق، ما نشوفش فيكم آلويل حرام"، قرار ناتج عن ظروف نفسية عانت القهر في مجتمع يحمل بين ظلوعه الكثير من الظواهر، التي لا تحتكم إلى ضوابط مقننة نتج عنها تفشي الكراهية، كما للحب وجود فيه، جعل التركيبة المجتمعية تحمل النقيضين، كما جاء في الكلام الغيواني الذي كشف الغطاء عنه بطرق فنية مستساغة، يجسد أحيانا واقعا بحيثياته، و ينتصح من يريد أن يقبل ذلك أحيانا أخرى، في مسعى منه لإصلاح ذات البين، و الابتعاد عن الكراهية و نشر المحبة بين الناس، لذلك كان للغيوان دور اجتماعي فعال حين كان يدعو في كلامه إلى عدم الاكتراث لسلوكات نابعة عن عدوانية، يمكن تجاوزها بالجفاء و عدم الاهتمام، و إرجاء أمرهم إذا تأججت الصراعات و استفحلت إلى الله و نبيه، و طلب الهداية لغريمه بالرجوع عن غيه و جبروته" شباك النبي يغدر فيك، روح آخويا الله يهديك". الغيوان يحاول أن ينتفي سمة الغدر عن اليزناسنيين حتى و لو داس لهم أحد على طرف" آمايَلْمي ثَكِّيذ الشّر، و زْناسني وَرذِيسْ بُولَغْدَر " و يشبههم في الآن ذاته بعود يستطيب به أهل الدوار و ينتفعون بخيره" بني زناسن آعود النَّوَّار، الخير و الهمة على الدَّوَّار"، و في كلام آخر يشبههم بضوء القمر الذي يوازي الهمة و الرفعة اللتان كانتا من السمات التي تطبعوا عليها" بني زناسن آضَوْ الْكَمْرَة، آصحاب الشَّان و الْهَمَّة"، و في السياق ذاته فقد أشاد بشجاعتهم، و بقدرتهم على تزعم الفدائيين الذين أكسبوهم ثقة و تعدادا ببسالتهم، جعلتهم يتحدون القاضي في دائرة المحكمة بحكمة الزعيم الذي لايبالي العواقب إذا وجد نفسه على حق، خاصة إذا تعلق الأمر بقضيته الوطنية" بني زناسن آزُّعَمَا، مْطَوْعين الْقاضي فالْمَحكمة"، و عن ذلك يدعو الكلام الغيواني إلى سؤال التاريخ عن تلك البطولات التحررية ضد الاستعمار" سَوْلو التَّاريخ يَعطي لَخْبار، بني زناسن يا بّا لَحرَار"، و في الآن ذاته يبرز مدى الاحترام و التقدير الذي كان يكنه أهل القبيلة لمقاوميهم اليزناسنيين" رباعَتْ الوطن كالُو جات، حايدو بالطريق آلَبنات"، و عن اعتزازهم بهم و شعورهم بالزهو و هم عائدون من عمليات فدائية ناجحة" الزُّعما زهّاوْلي قلبي، كيمَّا خَلْطو حَربو قَدَّامي"، كما يدعو الغيوان و هو يخاطب أهل القبائل اليزناسية إلى مبايعة المقاومين الذين اتخذوا الجبال حصنا لهم، على ما قاموا به من أجل التحرر من غطرسة المستعمر" بايْعو بَصحاب الجْبَل آخويا، هما لِّي جابو الْحرية"، و اعترافا بدور قبائل بني يزناسن في دحضهم للاستعمار، و إبلائهم في المقاومة الوطنية، فإن الغيوان اعترف بتضحياتهم و مساهمتهم في تحقيق الحرية" بني زناسن آمَّالِيَّة، راهم جَابُو الحرية"، و عن الحذر من العدو الغاشم، و الحيطة من غدره، يستدعي حمل السلاح ليكون اللغة الأجدر معه" لا تَّامَنَ شِي فْلَعدُو وَ رفِيكو، دير زْويجَة بينك أُبينو"، كما كان الجميع يمنون النفس بامتلاكهم لبندقية، لكان لهم شأن في محاربة العدو الاستعماري، مما يدل على رغبة جامحة من اليزناسنيين للانخراط في المقاومة دون تردد" لُو كان زْويجة عندي نْدير فْلَعدو ما نَبْغي"، أما الذين فاتهم الالتحاق بالمقاومة التي اتخذت من الجبال قلاعا لها، فقد اعتراهم الندم من عدم مناصرة من شبهوهم بالسباع الفتاكة" وَ سْبوعة في كْطِيع الْواد، كُنْت غْشيمْ ما عندي بال"، لإظهار قيمة بني يزناسن و مكانتهم، و علو كعبهم في المقاومة و غيرها فقد شبههم الغيوان بالمال الذي ترتفع قيمته عند الصرف و استبداله بعملة أغلى سعرا" بني زناسن يا مّا لَحرار، رَاهُمْ يَتصَرفوا كِلَدوار". الغيوان بوظائفه المختلفة يؤديها بأمانة، لينقل لنا أحداثا أصبحت من التاريخ، و يجسد ظواهر اجتماعية كشفت عن الصراعات و التناحر بين أفراد القبيلة، و إعانتهم على تجاوزها، و تذويب الخلافات الواهية بالاحتكام إلى العقل و التريث بدل الاندفاع، فهو بذلك يخفف من المعاناة النفسية التي يستشعرها أبناء القبيلة من جراء تغشُّم الأصحاب و الجيران لهم، ليبقى الغيوان و ما يحتويه من معاني مختلفة حاملا رسالة السلم و الحب و الدعوة إلى الانتفاء عن الكراهية و الحقد.
الغيوان بكلامه الموزون استطاع أن يلعب أدوارا طلائعية، من حيث إحلال السلم بين مكونات المجتمع البدوي، و نقل الأحداث بوقائعها، و رسم طريق الأمل في غد مشرق، و الدعوة إلى المثابرة و العمل على إثبات الذات، و السعي طلبا للعيش الكريم، و تحقيق أسباب الحياة الهنية بالهجرة و الاغتراب عن الأحباب و البلاد، خاصة لما استفحلت البطالة و انعدمت فرص الشغل مع بداية الاستقلال، مما جعل الناس يعيشون حياة ضنكا، حملتهم على اختيار المنفى الإرادي إلى بلاد العجم، فجاء الغيوان دقيقا في تصويره للشعور الذي اعتراهم عند اقلاع السفينة و هي تشق عباب البحر، و كأنهم بدون أهل و أحباب" مَالْ البَابُور هايَمْ بِيَّا، حَسِّيتْ ما عَنْدِي مَّالِيَّا"، بينما يتساءل في كلام آخر عما انتابهم من احساس و هم وسط باخرة يركبونها لأول مرة و الأمواج تتلاطمها دون رحمة، و قد شبه تحملهم لذلك المصير المجهول في مواجهة مخاطر البحر بالزعماء الشجعان" مْنِينْ غْطَسْ الْبَابُور في وَسْط الْمَا، كِيفَاشْ دَرتُو يا الزُّعَمَا"، لكن الغربة و ما تصاحبها من تأثيرات نفسية تخطف الإحساس بالراحة و الرضى ممن تجرع علقمها، تجعله في لحظة من اليأس يتمنى العودة إلى بلده حيث الحضن الدافئ للأهل و الأحباب" لَغْروبِيَّة تْشَيَّبْنِي، آرَبِّي رَدنِي لَبْلادِي"، ما يؤرقه و يُبديه ساهدا لا يستطيع النوم، شبح الموت حين يستبد بفكره و هو خارج الديار، خاصة إذا أنهكه المرض فإنه يطلب من أهله إيفاده إلى بلده حتى لا يموت غريبا عنها" وَاشْ أَنا نْمُوت غْريبْ، آبَنِي عَمِّي وَصلُونِي لَهْلِي"، لن يتردد الأهل في القيام بالمتعين باعتبارهم عزوة يظللون على ذويهم عند الحاجة" خُوتَكْ آمَاليَّة تْحَزْمُو أُدَارو الظَّلْ علِيَّا"، من شدة التعلق بالبلد فإنه لا يقبل بمقايضته بأغلى ما يعشقه الإنسان و يتمنى امتلاكه" آلُوكَانْ إِلَبْسونِي لَحرير، بْلادي الْهَمَّيَّة دجِينِي خِير"، في رفض منه للغربة و ما يأتي منها من مال وفير، فإن ذلك لا يوازي عنده لمة الأحباب و ما يجري بينهم من تواصل مستمر لا ينقطع بالغياب الطويل" مَزِّينْها لمَّا فْذاكْ الدُّوَّار، آوَ بْني زناسن يامَّا لحرار"، لَمّا يطول مُكوث المغترب بالمهجر و ينشغل عن أهله بتدبير أمور حياته، تنقطع سبل الاتصال بينهم، فتتحرك لوعة اشتياق الأم و حنينها دون أن تطال من ذلك شيئا أمام جفاء الابن الذي يواجه مصيره في الغربة، لكن مع توالي السنين تتعود على هذه الوضعية التي لن تُريح بالها، فتدعي النسيان و عدم الاكتراث" مَا يْعَيَّط ما نَسْمَع لْغاهْ، رَاهَا الْكَبْدَة قَربَتْ تَنْساهْ"، لكن عندما تستبد الحيرة بعموم الأهل، و يبدأ القلق يساورهم عن سبب طول الغياب، فيضطرهم ذلك إلى الإقدام على فعل قد يجدون فيه ضالتهم، و يفُكّون من خلاله لغز الغياب الذي استطابه المغترب، فيفكرون في مراسلة الجهات الرسمية علهم يتوصلون بأخبار تخفف عنهم وطأة الحيرة و الاشتياق "نَكْتَبْ بْرَيَّا لْمَسْيُو دِيكُولْ، نْشُوفْ خُويا وِينْ إِكُونْ"، تتمنى الأمهات من شدة اشتياقهن لفلذات أكبادهن أن تتحولن إلى طائر يجوب بجناحيه البلدان و مدنها، علهن يعرفن مآله و الموضع الذي لمه و نسي بسببه أهله و ذويه" مَصَّابْنِي طِير نْحَوَّسْ علَى لَمْدُونْ، نْشُوفْ وْلِيدِي وِينْ رَاهْ إِكُونْ"، الكلام الغيواني خَبِر الغربة و ما تفعله بالإنسان الذي يمني النفس بمستقبل واعد، فترسم له أحلاما يخالها سهلة الإدراك إلى أن ينسى نفسه و ذويه" إِرُوح الْخَارِجْ يَتُّو يَمَّاسْ، يَكَّا أعَدِّيسْ أَمْ فُونَاسْ"، الهجرة من أجل ضمان لقمة عيش مستقرة ليست هينة، بل عواقبها وخيمة يتجرع علقمها كل مغترب، قد تنعكس سلبا على الحياة الأسرية التي تحتاج إلى الرعاية، و صونها من الانحراف في ظل غياب الأب المعيل، الذي قد تستغله بعض الزوجات في ممارسة حياتهن خارج نطاق الزوجية" رَاجْلَكْ فَالْغُربَة يَخْدَمْ علِيكْ، وَ انْتِ تْضَلِّي تْكَحلِي عِينِيك"، و منهن من لا تتحمل بُعدَ الزوج، فتلجأ إلى التهديد بمغادرة بيت الزوجية ما لم يرفق بحالها بتقريب الوصال و العودة إليها" آلَالَّة صِيفْطِي لْوَلْدَكْ إِيجِي وَ لاَّ نَرفَد حَايْكِي نَمْشِي"، في حين يحاول أصحاب الفتنة نفث سمومهم بجعل النسوة يهجرن عش الزوجية، من خلال تخويفهن بترك الأزواج لهن و عدم عودتهم" رَفْدِي لَوْسَادَا أُرُوحِي لَبَّاك، مْشَا لَفْرانْسا أُخَلَّاكْ"، يتحجج هؤلاء لإقناع ضعاف النسوة بتجارب مريرة كان ضحيتها زوجات هجرهن أزواجهن، فخرجن لسوق الشغل يمتهن أرذل المهن لإعالة أبنائهن" إِرُوح الْخارِج ذِي لَفْلُوكَا، يَدجَا فاطنة ثَزْنوزا مِيكَا"، فتمنين و هن في حالة من اليأس و التذمر من معيشتهن الضنكا أن يحرقن الباخرة التي نقلت أزواجهن إلى بلاد العجم" البَابور لي دَّالِي لَغْزالْ، نَحَّركُو أُنَشْعَلْ فيه النار"، كما تناجين الطائرة و تخصَّنَّها بالحديث لإظهار رغبتهن في اللحاق بأزواجهن، أو إخوانهن الذين احتواهم المهجر و أنساههم ذويهم، أو إرجاعهم سالمين إلى ديارهم" الطيارة لِّي دِّيتِي خويا، رَدِّيهْ وَ لَّا لَحكِينِي بِيهْ"، كما يحاول الغيوان أن يتطرق إلى أسباب الهجرة المتنوعة التي لخصها في المال الذي كان دافعا قويا للهجرة" فْرانسا رَيْشَتْ بَاللِّيطارا(المال)، صغارنا كَجَاوْا في خَطرا"، من أجل ذلك و بنوع من التضخيم في رغبة الجميع للحاق بديار المهجر، فقد جعل الغيوان الجدات يطمحن بدورهن للهجرة إلى فرنسا التي سلبت العقول، و أفقدتها التفكير السليم و الناضج في المآل المجهول" فْرنسا جَيْحَتْ الْغَاشي، حَتَّى حَنَّا قَالَتْلي نَمْشي"، و عن الاستيلاب و ما يسببه من تغييب حقيقة الغربة عن العقول الغشيمة التي تنساق وراء انجذاب المظاهر المزركشة التي تزخر بها مدن فرنسا، فإن الغيوان يقول في ذلك" تْشُوفْ بَارِي وَ لَّعقَلْ إِغِيبْ، آلْغادي لفرانسا يا لَغْشِيمْ"، قد تجد الفشل العاطفي أيضا سببا قويا للتفكير في الهجرة ليتسنى للمكتوي بناره، نسيان عزوف معشوقته عنه و صدها إياه" نَمْشِي لَفْرَانسا نَتْهَنَّا، وَ لَّا زْعَافَكْ آلِشّيرا"، و قد يدفعه هذا إلى الانصهار في المجتمع الفرنسي الذي كان اختيار المهاجرين و ملاذهم إلى الزواج من الفرنسيات، للخلاص من عذاب العشق الذي تفصله عنه جبال و بحار، و قد ينعم باستقراره العاطفي و الاجتماعي إلى أن ينسى الأهل و الأحباب، فيستعطفون زوجته لأن تعيده إليهم جودا و كرما منها" آرُّومَيَّا صِيفْطِيلِي خُويَا، الْجُود مَنَّكْ مَاشِي مَنِّي"، الأمر الذي يجعلهم يعيبون على مغتربي بني يزناسن أهل الهمة و الشأن الذين يتزوجون في غربتهم من غير قبيلتهم" بْنِي زْناسن يَا ديَالْ الْهَمٍة، دِّيتُو الْبَرَّانِي لِّي شَكْ الْمَا"، أما الوِجهة التي كان يقصدها مهاجرو بني يزناسن كانت فرنسا التي أدمجتهم اجتماعيا، و استغلت طاقاتهم لإعادة بنائها" الطَّيَّارَة رَكْبَتْ أُعَلَّات، في بْلاد فرانسا رِيتَات". الكلام الغيواني أسهب كثيرا في تناوله للغربة و مشاكلها، لأنها كانت الملاذ الوحيد للتخلص من قساوة العيش و ما يترتب عنها من مشاكل أخرى اجتماعية و نفسية، و قد عرف كيف يسبر أغوارها ليصوغها في قالب فني جميل و بأسلوب بسيط يفهمه كل من سمعه، لبراعته في التعبير عما يخالج النفوس من معاناة ممزوجة بالشوق و الحنين، فجاء الكلام ليزيل اللبس عن حقيقة الغربة، و ما تعتمله في نفسية المغترب من ظنون و وساوس تؤرقه و تسترق منه راحته من شدة خوفه من الموت و التشرد خارج الديار.