محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
ذ. محمد ستي
محمد ستي، أستاذ التعليم الابتدائي مدير مدرسة الإمام علي بأبركان منذ سنة 2014
قـائمـة محتـويـات الصفحـة - المسيد و " الفلقة" قبل المدرسة - الأضرحة والخرافة - قبائل بني يزناسن واحتضانها للأولياء - عين واواللوث بين الأسطورة والحقيقة - نظام التويزة بين الأمس واليوم - الوشم عند بني يزناسن - البَرَّاح بين الأمس واليوم - البيدر "أَرنَانْ": ذاكرة فلاحية تُعيد رسم الماضي
المسيد و " الْفَلَقَة" قبل المدرسة
في زمن كان للمسيد دوره الرائد في تعليم أجيال تعاقبوا عليه، و نهلوا منه كل متعلقات اللغة العربية من قواعد و أصول الكتابة، و تشربوا قيما هذبت سلوكاتهم، و أكسبتهم طباعا سجية، فيها من التسامح و الإيثار و خدمة الآخر ما جعلت منهم أناسا إيجابيين مع أنفسهم، و مع غيرهم من مكونات المجتمع، و قد كان له باع في تعضيد المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، من خلال نشر التوعية و تحسيس المواطنين بأهمية القضية الوطنية، و تحميسهم ضد عدوهم، و دعوتهم إلى الالتحاق بالمقاومين، فمنه تخرج معلمون متمرسون بعلوم الدين و اللغة، أخذوا بزمام التربية و التعليم بالمدارس العمومية بعد الاستقلال و كانوا يسمون "بالعارفين"، كان لهم شأن في تخريج أفواج متضلعة في علوم مختلفة، أخذت المشعل من بعدهم لكن بطرق تربوية متطورة، تطرح أكثر من تساؤل حول نتائجها و أبعادها و مكاسبها القيمية و الخلقية. المسيد مرتبط بالمسجد حيث يتولى الفقيه الإمامة و تعليم القرآن و علومه، و بالأضرحة المترامية في الجبال حيث كان يهجر إليها متصوفة متمرسين و عارفين بالعلوم الفقهية، حملوا على عاتقهم تعليم أسس الصوفية و ما رافقها من معارف دينية مختلفة، قبل أن تتحول إلى أماكن لممارسة الشطحات، و التعاطي للشعوذة و الخرافة من أجل المال. المسيد استمر في ممارسة مهامه من تحفيظ القرآن و تدريس علومه موازاة مع المدارس العمومية، و لم تنقطع تلك العلاقة الداعمة و المكملة لبعضهما في توفير تحصيل جيد و هادف، و بنتائج مرضية و مضمونة جعلت من المسيد مرحلة تمهيدية لابد منها، لانتهال المبادئ الأولية من أصول القراءة و الكتابة المعينة في التعليم الابتدائي، و فرصة لجعل الأطفال يتشربون قيما دينية تهذب طباعهم و سلوكاتهم، مما حدا بالآباء إلى جعل أبنائهم يلجونه في سن مبكر. للمسيد أدواته البسيطة التي يعتمدها في تعليم" المحضرا" و غير مكلفة و تفي بالغرض المطلوب، تتجلى في" الدواية" المملوءة بمداد مصنوع من" السمق" الذي يخلط بالماء و قطعة من الصوف، و أداة أخرى للكتابة يطلق عليها مرتادو المسيد ب:" لَقلَمْ" يتم صنعه من القصب بمواصفات دقيقة تجعله قابلا للاستعمال و مهيئا للكتابة، و كذلك " اللوح الخشبي" معد لخط السور عليه، و قطعة من الصلصال لمحوها بعد استعراض المحفوض على الفقيه الذي يحدد ما إذا كان الطالب يستحق الانتقال إلى باقي الآيات الموالية، ليمليها عليه مراعيا في ذلك الإلقاء الجيد على أن يقابله سماع و إمعان من المتلقي، تفاديا للأخطاء الإملائية و قواعد الكتابة القرآنية كما هو مثبت بالمصحف، و إذا حدث أن ارتكب الطالب خطأ ما فإن" الفلقة أو التحميلة" ستكون مصيره، و "الفلقة" من الأساسيات التي ينبني عليها التدريس في المسيد، و الخوف منها كان يدفع الجميع إلى بذل قصارى الجهد لحفظ المطلوب لتفاديها، و قد يحدث أحيانا أن يهرب الطالب من العقاب في اتجاه الشارع، و لن يعود إلى حلقة الدرس إلا إذا رافقه والده، فيكرم الفقيه ببعض الدريهمات لتحرير ابنه مما ينتظره نظير فعلته، و هي ما كان يطلق عليها" بالتحريرة" التي تشمل جميع مرتادي المسيد لتحريرهم و الانطلاق إلى اللعب، و ممارسة حريتهم بعيدين عن الحفظ و الفلقة و وصايا الفقيه. داخل بناية محاطة بجدران متهالكة يفترش الطلبة الحصير لوقت طويل، يفقدهم الاحساس بأطرافهم من شدة البرد و الحجر المنبعث من الأرض، بينما الفقيه يجلس في مكان مقابل للطلبة و في يده عمود طويل ينهر به كل من أغفاه النوم، و ينبهه للانكباب على اللوح، و إذا امتنع عن الإذعان له فإن " الفلقة" ستكون من نصيبه، فالجميع كان يبدو منهمكا في ترديد الآيات المراد حفظها حتى لا يصاب بالتلعثم عند استعراضها، و لا أحد كان يسلم منها من شدة الخوف الذي كان يعتريهم و هم في حضرة الفقيه يستظهرون المكتوب في اللوح، علهم يتحصلون على ترخيص مستحق يخول لهم محو المثبت عليها من الآيات، و قد يحدث ما لم يكن في الحسبان، فيصابون بالارتباك و الفأفأة اللذان يعرضان أجسادهم" للفلقة" و "التحميلة"، لتكون دافعا قويا لهم على الحفظ. الفقيه كان يمارس مهنة خياطة الجلاليب إلى جانب تحفيظ القرآن، يساعده الطلبة في ذلك دون تذمر أو تمنع، خوفا من ردة فعله التي لم تكن تخلو من قساوة، و بسبب الخياطة ظهرت "التحريرة"، حيث كان الزبناء يؤدون كمقابل عن ذلك تعويضا ماديا لأجل تحرير الفقيه من مشاغل" المحضرا"، حتى يتفرغ لاستكمال جلباب الزبون، و لم تكن الخياطة وحدها المعيل له و لأسرته، بل إضافة إلى مداخيل المُشارَطَة السنوية، كان الطلبة يؤدون مستحقات أسبوعية في يوم الاثنين تقدر بدريهمات قليلة لكنها كافية للتسوق، ليكون الأربعاء يوم عطلة يتفقد فيها الفقيه عائلته، فرغم الصرامة التي كان يعتمدها في تلقين القرآن و علومه و المتسمة بنوع من القساوة المفرطة، إلا أنها كانت تحقق نتائج مثمرة، بمحاصرة الطلبة حتى لا يترك لهم مجال للهو و اللعب و التفرغ للحفظ فقط، و كان الآباء له داعمين في كل ممارساته السادية من تعذيب و تعنيف، و قد لا يجرؤ أحد على الشكوى من الفقيه مهما تعرض لضرب مبرح ضارِّ فإنه يكتم غيضه و لا يفصح به لأحد، لعلمه مسبقا برد فعل الأب و هو يسمعه دائما يردد جملته المعتادة أمام الفقيه تعطيه صلاحيات تامة" قْتَل و نا ندفن"، و لم يكن يتوانى في تشديد الخناق على الطلبة، و استعمال أعتى الأساليب من العقاب و التعذيب اللذان كان يراهما الآباء جدية و اهتماما من الفقيه في تعليم أبنائهم، فكانوا يجازونه بالشكر و الثناء، و إغداقه بالهدايا على أن يستمر بنفس النهج المبني على طقوس العقاب، لتحقيق الهدف الذي يتمنون من خلاله أن يصبح أبناؤهم فقهاء متعلمين، لكن هذا التعنيف قد ترك لدى بعضهم أثارا سلبية جعلتهم يتعودون عليه، و يختلقون مواقف جنونية فيها ادعاء بالألم الشديد، و الصراخ بأعلى صوت، و التمرغ على الأرض في هستيريا مخيفة حتى يتوقف الفقيه عن تعذيبهم، في مقابل ذلك كان للطلبة تصرفات مستفزة كرد فعل لإغاضته، كأن يسرقون له الطعام أو يضيفون فيه ملحا كثيرا، أو يبعثرون أدواته، أو يتلفون مفتاح الباب حتى يتحرروا من حلقة الدرس، و يتسببون في إثارة عصبيته انتقاما من تجبره عليهم، و بذلك يكون المسيد و أنت تسترجع بعض أطيافه في مخيلتك أنك كنت في معتقل بسجان واحد، هدفه نبيل لكن الطرق المؤدية إليه كانت مفروشة بأشواك مؤلمة، كلها تعذيب و ترهيب تجعلك تندمج في عملية الحفظ، و التلقي من الفقيه بالغصب دون مراعاة لأي ظروف صحية أو نفسية، و المثير أن أغلب هؤلاء" المحضرا" غادروا المسيد مجبرين لإنقاذ أجسادهم الفتية من" الفلقة"، و منهم من امتهن حرفة على أن يلج المدارس فيما بعد لكرهه و امتعاضه من التعليم، الذي لم تكن تتراءى له في ذهنه المشبع بأساليب القمع و الترهيب غير عصا الفقيه و" التحميلة"، لأجل ذلك ظهرت الكتاتيب القرآنية بحلة أكثر تنظيما، و خاضعة لأسس تربوية يتدرب عليها الفقهاء تحت إشراف المديريات الإقليمية للتعليم، و تتعهدها بالمراقبة و التتبع المستديم، فشكل هذا النظام الجديد انقلابا على طقوس المسيد التي يؤثثها التعذيب السادي، كما ظهرت الرياض أيضا كبديل أكثر تطورا و بنظام تربوي حداثي، لكن المؤسف له أن النتائج المتحصلة لم ترقى إلى المستوى الذي كان يُرتجى منه، إذا ما قورن بالمردودية التي كان يحققها المسيد بكل سلبياته فأين الخلل؟
الأضرحة والخرافة
تعرف مناطق بني يزناسن زخما من أضرحة لأولياء مترامية بين جبالها و سهولها، مما يفسر ذلك الارتباط الوثيق لأهلها بالدين الإسلامي و نصرة دعاته على مر العصور، و لعل ذلك مرده إلى اعتبارات عدة تجلت في الكثير من المميزات التي تحلوا بها، من حيث الصفاء الداخلي و التفكير العفوي السليم، و الرغبة الملحة في الاعتقاد و المعرفة بما جاء به الإسلام، و التعايش مع الآخر و تقبله بينهم، و هي كلها دواع جعلت الظروف مواتية ليجد الدعاة ضالتهم بين أهل بني يزناسن لنشر دعوتهم التي حظيت بترحاب لائق، سرع من توسيع تعاليم الدين الإسلامي و انتشارها بينهم، و باعتبار الشهامة و النخوة اليزناسنية و ما ارتبط بهما من خصال تميزوا بها فقد جعلوا لهم بيتا في وسطهم، و صاهروهم و أكرموهم بأراض تعينهم على متطلبات الحياة، كما استماتوا من أجل حمايتهم من أي مكروه قد يصيبهم، و من شدة تعلقهم بشخصهم و تقديرهم لها فقد استمر هذا الاحترام و التقدير حتى بعد مماتهم بأن بنوا لهم أضرحة وفاء لهم لما قدموه من أجل تنويرهم و تفتيق أذهانهم على كنه ما جاؤوا به. و قد كان بعض هؤلاء الأولياء متضلعين في علوم الفقه و الحديث، فتركوا وراءهم مخطوطات و كتبا انضافت إلى خزينة العلوم الشرعية، في حين أن البعض الآخر لم يعرف عنهم غير الاسم و خوارق خرافية تداولتها الأجيال عبر العصور، بينما نجد أضرحة عبارة عن أبنية أجمعوا على تسميتها "روضة" فنسجوا لها قصصا و روايات من صنع خيالهم الذي استبدت به الخرافة، فاعتبروها أمكنة لها قدسيتها لأنها كانت ملاذا للولي الصالح يختلي فيها للعبادة و ممارسة طقوسه الصوفية، أو يستعملها لمجالسة مريديه للذكر و التداول في أمور الدين، و لكنها اتخذت منحى آخر لتعرف تحولات منطلقها الهوس الخرافي النابع من عاطفة منقادة ومستلبة، روج له عينة من المصلحيين الذين يستفيدون من مداخيل الصندوق المتموضع في مكان خصص له داخل الضريح، على أن تقتسم محتوياته في آخر النهار، إنه استرزاق سخروا من أجله أعتى الأساليب القذرة مستغلين فيها ضعف العامة و سذاجتهم لتحقيق مآربهم، حتى أن بعضهم و بحكم الاحتكاك الدائم بالوافدين على" السيد" و معرفته ببواطنهم و حاجتهم إلى مخرج لضيقهم، كان يستغل يأسهم ليدعي امتلاكه لخوارق تنجيهم من مأزقهم، فيسلبهم أموالهم و أشياء أخرى يرغب فيها دون مراعاة لقيم تؤطر تلك العلاقة التي تربطه بالزائر اليائس و المحبط نفسيا، كما يدعي وراثته للبركة التي يوزعها على الزوار المرضى عن الولي الراقد في سلام و هو بريئ من مزاعمه، و لم يقتصر على ذلك فقط بل تعداه لينسب "للسيد" اختصاصات في معالجة أمراض عجز الأطباء عن مداواتها، حتى صار لكل ولي اختصاص معين، حمل الناس على التبرك بهم و التمسح بتربتهم و الطواف حولهم طلبا للخلاص من حالة اليأس التي استبدت بهم، كما تذبح الذبائح قربانا و تقربا لنيل بركاتهم قصد الشفاء من علتهم، أو قضاء حوائجهم حسب ما يرغبون، و هذه الاعتقادات الواهية ترسخت و استوطنت في عقول العامة و استشرت وسطهم بكيفية يصعب التخلص منها أو مجافاتها، و لعل أسبابا كانت كامنة وراء إطباق هذا الفكر الخرافي على عقول الناس يمكن إدراجها حسب أهميتها كالآتي: 1 - الاستعمار الذي تلقى مجابهة شرسة و موجعة من الدعاة الذين لعبوا دورا محوريا في إذكاء الحس الوطني لدى عامة الناس من خلال توعيتهم و حملهم على الدفاع عن وطنهم، الأمر الذي أقلقهم فلجأوا إلى أساليب قذرة انطلاقا من نشر الفكر الخرافي و المعتقدات الهدامة بنسج روايات و أحاج عن بركات الأولياء، لتحويل تفكيرهم من الكفاح المسلح من أجل التحرر، إلى التقوقع في الهلوسات الخرافية المستبلدة، و في ذلك ضرب لدور الدعاة التنويري و المحفز حتى لا يجدوا لهم نصيرا أمام المخطط الاستعماري الذي استقوى باستهداف فكر و معتقدات الشعوب، و نفث سموم هدامة تبعدهم عن قضيتهم المحورية، فاستمر تأثيره عبر الصيرورة التاريخية ليظهر و بقوة في الزمن التكنولوجي الذي اكتسح العقول بلون آخر من الاستيلاب ليبقى الحال كما أرادونا أن نكون عليه، فتستمر الخرافة و يستمر الاستعمار و نحن على مخططهم ماضون سواء قسرا أو اختياريا. 2 - أصحاب المصالح الذين يسترزقون من ترويج الفكر الخرافي يعمدون إلى تكريسه من خلال تسخيرهم لمختلف الخطط التي تسعى إلى الابقاء على منافعهم، ليكونوا بذلك إحدى الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفشي الجهل و سيادة الخرافة. 3 - الاستعداد النفسي لدى العامة لتصديق كل ما ينقل إليهم من روايات خرافية، سهلت انتشارها بكيفية متفاوتة، لتكون من الدواعي الأساسية في الاعتقاد بالفكر الخرافي. 4 - غياب الأدوار الطلائعية التي يمكن أن تقوم بها الجمعيات المدنية في تأطير و تنوير المجتمع لمحاربة الخرافة و استئصالها ليسود بدلها تفكير حر و واع ببواطن الأمور التي يخضعها للتحليل و الدراسة بمنطق مقبول. 5 - غياب دور المدرسة في تصحيح المفاهيم و تنقية العقول من الاعتقاد بالخرافة، ليحدث انجذاب نحو سيادة فكر متنور و واع. و مما يكرس لهذا الوضع المؤسف عنه في التعامل مع الأضرحة، إقامة المواسم السنوية بطقوس غريبة تتجلى في الحضرة، و شرب مياه ساخنة، و القيام بشطحات مصحوبة بهذيان شبيه بطلاسم معقدة يصعب فك شفرتها، و هي أمور تفشت ليتشبع بها ضعاف النفوس، و يمارسونها دون تردد أو إعمال للعقل الذي تعرض للاستيلاب، الذي لم يترك لهم مجالا للاختيار سوى الانصياع لها إرضاء للمنتفعين منها، أما الأولياء فهم برآء منها و من كل الخرافات و الخوارق المنسوبة إليهم، فقد أدوا دورهم الذي هاجروا من أجله سواء للعبادة أو ممارسة طقوس التصوف و الخلوة مع الذات، أو القيام بالعمل الدعوي التنويري لنشر الإسلام، و ما الخرافة التي التصقت بهم إلا بدع ابتدعها غيرهم بغرض الاسترزاق و تحقيق المصالح. و حتى لا نسقط في التعميم فإن بعض المواسم السنوية التي تقام في إحدى بطون بني يزناسن لها إيجابياتها، باعتبارها موعدا للتلاقي بين مختلف المداشر التي يغلب عليها الطابع العائلي الممزوج بالنخوة و الشهامة في تدبير الشأن المحلي و احتياجاته، حيث تجمع التبرعات لتسخيرها لأغراض يستفيد منها أهل المنطقة، و على الأغلب تدبر من قبل جمعية توكل لها مسؤولية التسيير و التجهيز و تنظيم المواسم، كما تكون فرصة للتنفيس عن الكروب، و التواصل مع الأحباب بعيدا عن كل الهلوسات الخرافية، و لنا نماذج في هذه الحالة أخص بالذكر لا على سبيل الحصر( اولاد فسير، اولاد المهدي، بني بويعلى- م. ادريس- تينيسان ووو..........) و هي مواسم كان لي الشرف أن زرتها صحبة بعض الرحالة و المبيت بأحدها.
قبائل بني يزناسن و احتضانها للأولياء
تقام مواسم احتفالية سنوية متفرقة حسب كل قبيلة، ارتبطت في بدايتها بالولي الذي أقيم له ضريح، تكريما لما كان يتميز به من علم سعى إلى نشره بكل عزم و جلد، و تقديرا لذلك فقد تواعد مريدوه على إقامة حفل سنوي سمي" بالوعدة"، و هي عهد قطع لممارسة هذا الطقس بأشكال تختلف حسب كل قبيلة، مما يفسر جليا مدى ارتباط أهل بني يزناسن بدعاة الدين الاسلامي في فترة عرفت توافد العديد منهم لدواعي متعددة كان أبرزها: 1- الاضطهاد الذي عانوْه من حكام اختلفت سبلهم و رؤاهم للدين الإسلامي كمرجع لتدبير الشأن العام، لكن بتصور يعكس عن نوايا فيها من الخبث السياسي الذي يخدم أجندتهم، في تعارض تام مع فتاوى فقهاء متشبعين بأفكار ذات نهج صوفي صرف، و هو الأمر الذي خلق تصادما قويا نتج عنه محنة ذاق مرارتها علماء أجلاء، و لم يكن لهم من بد إلا اختيار المنفى الاضطراري إلى حيث يجدون ضالتهم، و مبتغاهم الذي يرجون من ورائه البحث عن مريدين و مناصرين لتوجهاتهم المعارضة للسلطة الحاكمة، و منهم من اختار ممارسة طقوس الخلوة الصوفية بأريحية بعيدا عن الاضطهاد، و قد كانت جبال بني يزناسن محجا مناسبا لهؤلاء الدعاة. 2- خصوصية المنطقة التي تمتاز بجبال صعبة المسالك، تشجع على الاعتكاف لممارسة طقوس التصوف بعيدا عن مغريات الحياة التي قد تفسد عليهم خلوتهم، و قد وجدوا مبتغاهم بين تلك الجبال التي كانت على مر التاريخ محجا للعلماء الفارين من اضطهاد الحكام، بسبب دعوتهم التي خلقت لهم متاعب جمة حملتهم على اختيار وجهتهم، فكانت قبائل بني يزناسن محط رحالهم لاستكمال دعوتهم و استقطاب مزيد من المريدين، و هو الأمر الذي جعل جبالها تعج بأضرحة لأولياء مترامية في كل الأطراف، و قد يفسر ذلك بشيوع ظاهرة التصوف التي اختار أصحابها الاعتكاف و التزهد في تلك الأمكنة، و هو ما مهد لظهور زوايا فيما بعد. 3- استعداد أهل بني يزناسن لتقبل الآخر و حمايته و الاستماتة من أجله، خاصة إذا كان صاحب رسالة منبعها الدين الإسلامي، و هو ما جعلهم محط اهتمام الدعاة الفارين من الاضطهاد، ليجدوا لهم مقاما آمنا وسط أناس لديهم من الطباع و الشمائل التي لا تختلف في عمقها بين ما جاؤوا من أجله، و هو ما أحدث نوعا من التلاقي و التوافق الذي سهل تمرير توجهاتهم الدينية أو السياسية، و هذا الانسجام كان منطلقه نابعا من ظروف هيأت لاستقبال دعاة أخلصوا لدعوتهم، و سعوا إلى توسيع رقعة انتشارها بين أناس لديهم من الاستعداد للاعتقاد و التدين و نصرة حماته من الدعاة، و قد كان أهل بني يزناسن الأقرب إلى استيعاب مضمون الدعوة، و الانخراط في الجهاد من أجلها، لما تميزوا به من حمية و نزعة قتالية في سبيل إعلاء رسالة آمنوا بها و استحقت لديهم الاستماتة. تلك عوامل كانت سببا وجيها لتوافد هؤلاء الدعاة على جبال بني يزناسن، بحيث وجدوا بين أناسهم سندا و نصرة لدعوتهم، فكانوا لهم مؤيدين و حماة، فآووهم و صاهروهم و اقتطعوهم جزءا من أراضيهم، ليوفروا لهم الأمن و الاستقرار الذي حرموا منه في بلدانهم، فتناسلوا لتكون لهم ذرية تكاثرت لتصبح عشيرة قوية بالعلم و العدد، و هم ما يسمونهم ب" الشرفة" للمكانة العلمية التي كانوا يحضون بها، فقد كانت كلمتهم نافذة يتدخلون في الصلح و الزواج وكل ما له علاقة بالخير و المنفعة، وذلك شكل لدى العامة نوعا من التقديس لهم استمر ردها من الزمن، فقد كانوا يحيطونهم بهالة من التقدير بلغت حد تحريم مناقشتهم، أو معارضة قراراتهم التي يجب تقبلها بكل طواعية وإلا أصابتك لعنة، نظير تصرفات قد لا تروق" الشرفاء" و لا تليق بمقامهم الاجتماعي و وضعهم العلمي، فتجد العامة من الناس بعقلية المنقاد و المتقبل لكل ما يصدر عنهم من كرامات يطلبون " التسليم"، و يرددون بين حين و آخر قولهم: " الله إقوي الحرم"، تفاديا لكل أذية قد تصيبهم كما لو أنهم قد ارتكبوا جرما موصوفا. إننا بملامستنا لتلك الحقائق لا نريد الانتقاص من قدر أحد، فالشرفاء بحكم انتسابهم إلى جذوة تعود إلى أهل البيت، أو إلى شجرة فروعها من العلماء الأجلاء، و بحكم الصفاء الروحي الذي تميز به أهل بني يزناسن، فقد كان من الطبيعي أن تنبني علاقتهم على جانب من التقدير و الاحترام، الذي تحول في فترة إلى تقديس فيه من المغالاة في الانصياع و الانقياد لكل ما يصدر عنهم من قرارات و توجيهات، دون حق في الاعتراض أو إبداء رأي، لأن ذلك في نظرهم يعد تقليلا من احترامهم، فقد كانوا إذا تدخلوا في زواج أو فك نزاع أو ما شابه ذلك فإن الأمر سينقضي و دون اعتراض من أحد، و إذا استعصى عليهم إقناع طرف بقبول تسوية ما فإنهم يلجأون إلى ما كانوا يسمونه ب:" جاه النبي"، في هذه الحالة لا يكون له من بد غير الإذعان لاقتراحاتهم، تلك ثقافة سادت بعيوبها و محاسنها و تقبَّلَها عامة الناس، و رفعوا من شأن أصحابها، و نسجوا في حقهم قصصا و روايات عن الكرامات و الخوارق التي تحولت إلى خرافات اعتقدوا بها و صدقوها، لدرجة أن باتوا يؤدون خدمات من أجل كسب الرضا، و يتبعون طقوسا و شعائر تقوي صلتهم بجماعة" الشرفة"، و تُقربهم منهم أكثر عسى أن تحل عليهم البركة و تُقضى لهم الحاجات، مما يفسر انقيادا تاما تجلت مظاهره في الانصياع للتعليمات، و الخضوع لها بطواعية خدمة لهم، و تعزيزا لوجودهم الذي كانت بدايته مبنية على الاحترام لأهل المنطقة، و السعي إلى نشر العلم من أجل إخراجهم من بوتقة الجهل، و خلق مريدين يلتفون حول دعوتهم، و العمل على توحيد القبائل تحت مظلتهم، و قد نجحوا في تقوية صفوفهم بأتباع مجندين لنصرة رسالتهم الدعوية، لكن تحولات شابت توجههم الوحدوي التنويري لمّا كثر الأتباع المريدون، و أصبحت لهم عِزوة، نشأت على إثرها الزوايا التي احتضنتهم و تكتلوا داخلها، لممارسة الطقوس الصوفية بكل مظاهرها الخارجة عن الاعتدال و الغلو فيها، من قبيل" الحضرة" التي تُحدث هستيريا و هذيانا لصاحبها، في اعتقاد منهم أن الذات الإنسانية تسمو لتحل بها الذات الإلهية، فيصدر على إثرها أصواتا غير مفهومة، أو سلوكات تتجاوز المنطق بشرب مياه ساخنة و إخراجها باردة، أو التداوي بأساليب فيها من الشعوذة و الخرافة لأمراض معينة، تمهيدا لإرساء معتقدات تكرس لعقليات تؤمن بالخوارق، تبعدهم عن المنهج الصحيح المُنطلق منه في بداية مشروعهم الدعوي، من أجل الانتفاع المادي، و تعزيز وجودهم بما يضمن لهم الاستمرار، و الإبقاء على نفوذهم و سلطتهم الدينية، و إعلاء صيتهم بين مريديهم، فكان لشيوع الخرافة التي أغْشت العقول سبيلا لتحقيق ذلك، و كل هذا طلبا للاسترزاق و الاستجداء لأجل مصالح نفعية، أبعدتهم أكثر عن المنهج الدعوي المعتدل الذي ينير العقول و يحررها من الفكر الخرافي المستبد، و من تقديس الأشخاص، في وقت كان فيه الدعاة يمثلون مدرسة لنشر العلم و محاربة الجهل و مصدرا للتربية على القيم، فكانوا يستحقون أن يطلق عليهم" الشرفاء"، لكن مع توالي الحقب التاريخية طال الانحراف مشروعهم الدعوي، و استبد بهم الخوف من فقدان نفوذهم فتحولوا إلى مرتزقة ساهموا في تدمير العقول بالخرافة و الشعوذة.
عين واولّوت بين الأسطورة و الحقيقة
تبعد عين واواللوث عن إقليم بركان في اتجاه الجنوب بثلاثة كيلومترات، متاخمة لجبال بني يزناسن، عرفت توافد المستعمر الذي جعل منها قلعة عسكرية استرايجية، لبسط نفوذه و تأمين سيطرته على باقي المنطقة، و مراقبة الجوار لحماية مصالحه الاقتصادية، اعتبرها مصدرا أساسيا للري لما تزخر به من مياه باطنية تتفجر بين حين و آخر، لتتجمع على شكل بحيرة دائمة الجريان، تنساب بين أودية تُستغل في سقي المغروسات الفلاحية و الشرب الآدمي و الحيواني، مما جعلها محط اهتمام المستعمر الذي لم يكن اختياره للمنطقة جزافا، بل خطط و دبر باستراتيجية محكمة لاستنزاف خيراتها، فكانت عين واولوت ضمن هذاالمخطط الاستغلالي لتنمية مجاله الفلاحي، و إنعاش منتوجه بتطوير آليات الري، و مد الأراضي المجاورة للعين بقنوات سقي المزروعات خاصة الكروم و خضروات تسويقية. لتوسيع أطماعه الاستنزافية فقد سخر خبثه الاستعماري في استغلال سذاجة أهل المنطقة، و محدودية فكرهم الذي لا يتعدى توفير قوتهم اليومي، بأن قام بترويج أساطير و روايات عما يظهر في العين الذي يأخذ شكل حوت ضخم أطلقوا عليه إسم" مسعود"، يلتهم كل من تجرأ على الاقتراب من البحيرة أو الاعتداء على مياهها، فنسجوا في حقه الكثير من القصص و الروايات عن غرق العديد ممن تجرأوا على الاقتراب من مملكته الغارقة تحت الماء، فتمكنوا من إرساء معتقدات استبدت بالعقول، و لفَّفَتها بخرافات صدقت بها و سعت من خلالها إلى إرضاء رغباته بطلبات تُخمد ثوراته الانتقامية، فجعلوها ذبائح لها مواصفات خاصة، هي وحدها ما قد تهدأ من روعه، لذلك فالدجاج الذي يذبخ فجرا عند رأس العين حيث مملكة" مسعود" يكون سبيلا لتهدئته بعد إلقائه في غمرته، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن سوى تهدئة لبطون المستعمر الجائعة، الذي كان جنوده يتسحبون إلى العين مباشرة بعد مغادرة أهلها، لجمع الذبائح المتناثرة فوق المياه و جعلها لقمة سائغة تسد الرمق في انتظار ما ستجود به باقي الأيام المقبلة. معتقدات استعمارية ذو حدين، القصد منها تخويف أهل المنطقة من استغلال مياه العين التي يحرسها" مسعود"، لتكون تحت تدبيره فقط دون أن يشاركه في ذلك أحد حتى لا تنضب فتتعرض مصالحه الفلاحية للإتلاف، و لم تقف أطماعه الاستنزافية عند هذا الحد، بل طالت المنتوجات المعيشية لأهل المنطقة من الدواجن و المواشي لنهبها بطرق ملتوية ماكرة، بترويج الخرافة و ممارسة طقوس مبتدعة تَقيهم بطش" مسعود"، فتُقدَّم له القرابين لاتقاء شره الذي يقابله في حقيقة الأمر شر و تنكيل المستعمر، و كل متمرد ثار على الخرافة التي صنعها بحرفية و إتقان، يساق إلى ضيعاتهم للعمل بالمجان على أن يودع السجن إذا لزم الأمر ذلك حسب سلطتهم التقديرية، يساعدهم في ترويج هذه المعتقدات و نفث سمومها مصلحيون خونة يسترزقون من سذاجة أهل المنطقة، ليمتصوا خيراتهم فيقدمونها لمن لا يستحقها، و لما عشَّشت الخرافة في العقول، هامت بالفكر إلى ابتداع سلوكات اعتقادية بكرامات " مسعود"، و خوارقه في شفاء الأمراض المستعصية، فصار كل مستضعف يقصد العين يتبرك ببركته فجرا كما اعتادوا عليها أيام الاستعمار، ليستمر هذا الطقس لأجيال متعاقبة، و استزادوه بدعا أخرى مقترنة بتقديم القرابين طلبا للشفاء و قضاء الحوائج و ليس لاتقاء شر" مسعود" كما كان في السابق، و لما كانت الخرافة لصيقة بالمستعمر و أصحاب المصالح و النفوذ فقد كرسوها و أنبتوها لتتجدر أكثر من أجل الحفاظ على مكانتهم داخل العشيرة، فالمعتقدات الخرافية لم تكن وليدة لحظة و ينقضي أثرها التدميري، بل لها امتداد تاريخي ضارب في القدم، مما جعل النفوس مهيئة للإعتقاد و التصديق بها كما حدث مع عين واولوت، التي نُسجت في حقها الكثير من الأساطير القديمة التي أثثت الموروث الثقافي للمنطقة، و تداولها العديد من المهتمين بالدراسة، و النبش في الذاكرة الشعبية لاستنباط الخفي منها و استقرائه وفق ضوابط يتقبلها العقل و الدين، و لما كانت جبال بني يزناسن محجا لمتصوفة فارين من بطش حكامهم لممارسة خلوتهم بين أدغالها الوعرة، و استقطاب مريدين لهم يستقوون بهم، فقد كان لأسطورة عين واولوت ارتباطا بكراماتهم، حسبما تواترته الروايات الشفوية عن عجوز عمياء سكنت مكانا و عشيرتها قبل أن يتحول إلى بحيرة مائية، و قد اختلفت مسمياتها بين" تاميمونت" و" لالة واولوت"، كانت تعيش بما تجود به معزتها من حليب و مشتقاته، تٌقاسمها الخيمة كلبة بجرائها، تَصادف يوم أن طرق بابها ضيف أو ثلاث حسب اختلاف الروايات، و طلبوا استضافتها لهم فلبت النداء، و أكرمت وفادتهم بمعزتها التي هي مصدر قوتها، و لما انبلج الصبح طلب منها أحدهم استحضار جلد المعزة فتمسح به لتعود إليها الحياة من جديد، كما حوَّل حشيشها و هي تطحنه إلى دقيق تكاثر حتى ملأ الخيمة، و دعاها إلى إخبار عشيرتها بترقب الكلبة أينما حلت بجرائها فثم مستقرهم الجديد، فلبى الكثيرون نداءها و تبعوا الجراء و أمهم إلى سدرة كثيفة، و في لحظة هبت عاصفة هوجاء مصحوبة بأمطار قوية حولت المكان إلى طوفان أغرقت كل من تعجرف و أبى اللحاق بعشيرته، فكان أن تحول ذلك المكان إلى عين تتدفق منها المياه دون انقطاع و سموها" عين واولوت"، و يقال أن الشخص صاحب الكرامات الذي أرجع للعجوز بصرها و أنقذها و عشيرتها من الغرق هو" عبد القادر الجيلالي"، الذي أقيم له ضريح في الجهة العليا المقابلة للعين، كما بنوا بجانب السدرة التي لمت العشيرة قبلا" مقاما" تجتمع فيه النسوة لممارسة الحضرة الصوفية و توزيع البركات على الزوار" الحرِّيف"، أسطورة كباقي الأساطير عند الإغريق و غيرهم ممن أبدعوا في نسج قصص بخيالهم الواسع، و براعتهم في التنقيب عما يسلب العقول و يستهويها، فكان للخوارق نصيب أوفر منها، مما يُترجم الخواء النفسي عند الإنسان و حاجته إلى ما يملأ به ذلك الفراغ الذي يستشعره، فكان لا بد أن يسعى إلى تصديق تلك الأساطير و البحث عن تجسيد لها على مستوى الواقع، لذلك كان للأضرحة و الروضات وجود احتاج إليه و ساهم في إنباته، ليمارس من أجله طقوسا ليست من الصوفية في شيء، فساد الاعتقاد بالخرافة و تقديس القبور و الأضرحة و المزارات، و ممارسة الشعوذة بتعليق التمائم و الأقمشة على فروع الأشجار المجاورة للضريح، و الطواف حوله تبركا به و استجداء لبركته، و بركة" مسعود" عند العين، في اعتقاد منهم أن هذه المزارات تتضمن سحرا خفيا بإمكانه قضاء الحاجات، لذلك باتت تحتل مكانة مهمة في الثقافة الشعبية التي أثثها أهل المنطقة بمعتقداتهم. من هاته الأساطير استسقى المستعمر بدهائه قصة المملكة تحت الماء و ملكها" مسعود"، ليبسط نفوذه بتدمير العقول بالخرافة و الدجل و تقديس الأضرحة، لتكون عونا له على استنزاف ما تجود به الأرض من خيرات، لكن محدودية الفكر، و غياب المنطق في تحليل الظواهر الطبيعية من غيرها، جعلهم يرتمون بين براثن معتقدات خرافية كان لها أثر سلبي على الأجيال المتعاقبة التي لم يكن حظها أوفر من سابقاتها، بل كرست تلك الطقوس و أبدعت فيها إلى درجة جعلوا العروس إذا مرت بجوار ضريح" عبد المومن بوقبراين" و لو عن بعد تترجل عن حصانها، فيضعون فوق رأسها قبة من الحَلْفاء لتتابع طريقها مشيا حافية القدمين إلى غاية بيت الزوجية، توجسا من أن تصيبها لعنته إذا فعلت غير ذلك. معتقدات لها صيرورتها التاريخية و طالها الانحراف عن المسار الصحيح الذي جاء به المتصوفة لتنوير العقول، و تفتيقها على أشياء فيها من المنطق المتشبع بالدين، لكن لكل زمن رجالاته الذين تميزوا بالشجاعة في مواجهة المعتقدات الخرافية باستنادهم على ما اكتسبوه من علوم في الفقه و الحديث و التزموا بنشره، و منطقة" واولوت" لم تخلو من مثل هؤلاء الرجال، نخص بالذكر لا الحصر السيد" احمد الوشكرادي" الذي كرس حياته في محاربة الطقوس و التعاويذ، و السلوكات الخرافية التي تمارس حول العين و بجانب الضريح، و لم يتوانى لحظة في التخلي عن مشروعه الدعوي، لتصحيح المفاهيم و تنوير العقول رغم ما جوبه به من جفاء و إقصاء لمخالفته العامة في معتقداتهم، و قد تمكن من تخفيف حدتها، دون أن يثني ذلك من عزمه، بل استمر على دربه إلى أن وافته المنية، أراد للجميع أن يدركوا أن عين" واولوت" التي يتبركون ببركاتها طلبا لقضاء حاجاتهم ليست كما يعتقدون، بل هي مجرد منبع مائي انفجر من باطن أرض متشبعة بمياه جوفية كباقي العيون المتناثرة بجبال بني يزناسن، و لا تستحق منهم كل ذلك التقديس، و نفس الشيء بالنسبة لما يمارس من شعوذة و دجل بضريح الولي، و كذلك التبرك بالأحجار و التمسح بالتراب و العويل عند الأولياء، سلوكات تعيد إنتاج الجاهلية لكن بصورة مختلفة عن سابقتها. انحراف الصوفية عن مسارها أغرق المجتمعات في الخرافة من أجل الحفاظ على نفوذها و مصالحها، و الإبقاء على الرباط الذي يجمعها بمريديها، و تجاوزها يحتاج إلى زمن للمأسسة لفكر تنويري يجمع بين المنطق و الدين، وفق رؤية تحليلية مبنية على البحث و تقصي الحقائق و الاستفسار في شأنها.
دردشة فيسبوكية حول ذات الموضوع أعلاه
نظام التويزة بين الأمس واليوم
عاش الناس في الماضي القريب على البساطة و القناعة و الإيثار و تقبل الآخر و خدمته عند الحاجة، حيث كان الإنسان يحتكم إلى إنسانيته ليقدم ما عنده من خدمات من أجل المنفعة العامة، على أن تتخذ نسقا آخر لتتطور من مبادرات فردية، إلى عمل جماعي من خلال تشكيل فريق تعاوني يقوم بمساعدة من يحتاج إلى دعم باعتماد مبدأ التناوب، و تشترك في هذا الفعل التضامني جميع الفئات العمرية من الأطفال و النساء و الرجال بكل تلقائية و دون تعويض، و ذلك بهدف إنهاء الأشغال في وقت قياسي وجيز، بغية التفرغ لمهام أخرى تكون لها صبغة اجتماعية أو غيرها، تدخل في إطار المنفعة العامة و الخاصة للأفراد أو الجماعة، و يبقى لهذا العمل التطوعي دلالات عميقة ذات بعد اجتماعي و اقتصادي، من حيث توفير الاكتفاء الذاتي من المنتوج المحلي، و نشر الحس التعاوني بين مكونات المجتمع العائلي و القبلي، و تعزيز الروابط بينها، بتفتيت الخلافات التي قد تنشب بينها في محاولة لرأب الصدع الذي قد ينتابها، ليحتكم الجميع إلى الجماعة التي يتصدرها (مقدم) محنك يتسم بالرصانة في تقديره للأشياء، و الرجاحة في تمييزه لمشورة الجماعة قبل إبداء الحكم، كما كانت فرصة للتقارب بين الشباب و تزويجهم حسب المتعارف بينهم، و هذا النظام التكافلي و التعاوني هو ما سمي في الاصطلاح الشعبي ب: "التويزة" و هي موروث ثقافي أمازيغي، ارتبط أساسا بالعمل الفلاحي ليتعداه أحيانا إلى أشغال البناء و جني الزيتون، و غيرها من الأعمال التي تحتاج إلى تكتل جماعي، يستوجب التخطيط و التدبير المحكم، من قبيل توزيع الأدوار و استحضار وسائل العمل و الاتفاق على كيفية أداءه، و نحن أطفال صغار كنا نتوق إلى تلك المواسم و المناسبات التي يلتم فيها الجميع لممارسة طقوس التويزة، و قد كان لنا فيها دور يقتصر على جمع بقايا الحبوب، التي كانت تجد لدينا ترحابا بهذه المهمة، لأنها تجعلنا قريبين من جماعة الكبار، الذين كان يلفهم جو من التسامر و الحكي عن مغامراتهم و سفرياتهم، الممتزج بأسلوب فكاهي مرح يضفي الحيوية على الجميع و يدب فيهم حركة تعينهم على استكمال الأشغال دون شعور بالملل، و في غمرة احتكاكنا بالكبار و نحن نسترق السمع إلى حكاياتهم الفكاهية، كنا نقوم بحركات استفزازية للنساء و هن منهمكات في وظيفتهن، و ذلك بسرقة حاجياتهن من باب الدعابة و الإثارة أو إتلاف ما أنجزن، فكن يقابلن تصرفاتنا الصبيانية بابتسامة ورضى خاليان من أي أسلوب تعنيفي، فيستمررن في أشغالهن بكل مرح وهن يرددن أغاني تحفيزية و معبرة، ليرد عليهن الرجال بالمثل، فتشعر و أنت تراقب هذه الطقوس بعين طفل صغير أنك في عرس، لما كان يسود من أجواء المرح و الفكاهة اللتان تحسانك بالزهو و النخوة اللتين تستبدان بالنفوس لتهيم بالعقول إلى نسج أغاني و ترانيم نابعة من خيال واسع، و يستمر الحال بهذه الوتيرة ليأخذ منعطفا آخر حين يستدير الجميع على مائدة الطعام مفترشين الأرض دون تذمر أو انزعاج، مستقبلين ما يقدم لهم برضى و قناعة، و هم منشغلين بسد رمقهم إذ يتجاذبون أطراف الحديث حول من سيشمله الدور، فيخططون و يوزعون المهام من جديد، دون إغفال لمشاركة النساء في المشورة، و بعد أخذهم قسطا من الراحة يعاودون الأشغال، إلى أن يأتي المساء فيفترق الجميع و هم في نشوة أغنتهم عما عانوه من الكد و التعب، و لكن ماذا عن اليوم؟ لقد بدأت الطقوس الجميلة التي أحبها و حن إليها من عاش فصولها، تندثر و تتقلص لتقتصر على أفراد العائلة في تنظيم الولائم و المآتم، ليتم فيما بعد إسناد هذه المهمة لمنظم الحفلات الذي يقوم بكل المستلزمات و التدابير اللازمة لإحياء المناسبة المطلوبة، في غياب تدخل أطراف من العائلة أو الجيران الذي اقتصر حضورهم على التصرف كمدعوين فقط و ليس إلا، و هو الأمر الذي أفقد الكثير من تلك اللسمات و الطقوس المتعلقة بنظام التويزة، و على نفس النهج و بطرق مختلفة يتم فيها تدبير المجال الفلاحي، حيث بات يعتمد تكنولوجيا متطورة، تيسر الأشغال و تنجزها في زمن وجيز و بأريحية، استحسنها الناس لأفضالها عليهم، و لكنهم في مقابل ذلك فقد فقدوا التلاحم الذي كان يشدهم إلى بعض، و الشعور بالانتشاء و هم يرددون أغاني محلية تحمسهم و تستزيد من رغبتهم في التواجد وسط الجماعة بكل همة و نشاط، كما فقدوا تلك الجلسة التي تأتي بعد عمل مضن يتجاذبون خلالها أطراف الحديث حول مغامراتهم و سفرياتهم، و تلك اللمة حول الغذاء عندما يستبد بهم الجوع، فيخططون خلالها لمشاريع يستفيد منها أهل القبيلة، فيقدمون تصوراتهم عن كيفية إنجازها و هكذا، ولما صارت الأشغال تنجز بمقابل، ضاعت طقوس التويزة و تلاشت معها الصفة التضامنية التي تجسد روح التكافل، و ما تحمله من معاني و دلالات كانت تسمو بدرجة الإنسان ليدرك قمة ما بداخله من مشاعر و طاقات يوظفها لخدمة من حوله من أصحاب الحاجة دون طلب ذلك، وفق قوانين ضابطة لهذا العمل التضامني، الذي يعتبر انتهاكها سببا لحرمان صاحبه من خدمات الجماعة، بادرة تكتسي مظهرا من مظاهر التكافل الاجتماعي، و تم التفريط فيه تحت طائل التغييرات التي جلبتها العولمة، ألم يكن حري بنا أن نحافظ على ما تعلمناه من طقوس" التويزة" رغم تأثيرات التكنولوجيا و متطلباتها، التي استدعت منا التخلي عنها بطواعية و نحن عاجزون عن الإبقاء عليها? ألم يكن فينا من يدعو إلى استحضارها بين الفينة و الأخرى قصد إنباتها و التشبث بمظهرها التعاوني، و نحن في حاجة إلى من يعيدنا إلى زمن التكتل و التكافل? إنها دواعي تستدعي الوقوف عندها لأجل شيء نحن نستحبه و نريده أن ينتشر بيننا.
الوشم عند بني يزناسن
ظاهرة الوشم من الطقوس التي تجدرت في المجتمع الأمازيغي، و اتخذت حيزا مهما في ثقافتهم التي أبت إلا أن تثبت كينونتها، حتى أصبحت لها ضوابط تقننها، و شعائر تمارس أثناء وشم الفتاة في احتفالية تليق بالحدث، لما له من أهمية في حياة المحتفى بها، لأنه يشكل مرحلة فاصلة في حياتها، ينقلها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، لما فيه من اعتراف صريح بقدرتها على تدبير حياة أسرة، و قد تتعداها أحيانا إلى تحمل مسؤولية قبيلة، بعد أن تكون قد راكمت تجارب عريقة مع تعاقب الأيام و السنين، فالوشم يبقى علامة بارزة توحي بجاهزية الموشومة للزواج، ولما كان التواصل محظورا بين الجنسين فلم يجدوا للعينين بديلا لهما لإحداث اتصال عاطفي، مما حدا بالوشم أن يكون السبيل الأوحد لإظهار مواطن الجمال التي تحرك لوعة الناظر إليها حتى لا يتردد في طلبها للزواج، فكان ذلك يشعرها بالزهو و انتشاء سعادة و فخر بما تحمله من رموز نقشت بإبداع على أطراف جسدها، لتكون لسان حالها بما لا تقدر على البوح به، فتأتي الرموز عبارة عن حروف تافيناغ، أو أشكال هندسية متنوعة، أو رسومات مستوحاة من الطبيعة، تتولى إحدى العجائز في المجتمع اليزناسني رسمها بإتقان على الجلد، تقصدها نساء الدوار محملة بلوازم الزيارة من سكر و حناء، و بعض ما يَجُدن به من أشياء أخرى تخص المناسبة، تحضرها بعض القريبات و الجارات للمشاركة في طقوس الوشم و مراقبة العملية، بتقديم النصح في اختيار الرسم الذي يتناسب و بشرتها لتزيده سحرا و بهاء، و الدعاء للموشومة بإحلال البركة و التمتع بالسعادة في حياتها، فرغم الألم الذي يحدثه الوشم فإنه لم يخلُ من بعض الأهازيج الخاصة للتعبير عن الفرحة بالموشومة التي صارت مؤهلة للزواج، و من أجل إبراز مواطن جمالها و جعلها أكثر انجذابا ليفتتن بها الرجال، فإنها تفضل وضع الرسم في أطراف معينة من جسدها، غالبا ما يكون على الوجه و اليدين، باعتبارهما أماكن مثيرة تسترعي انتباه الرجال، فاستحبته النساء و جعلت منه وسيلة للزينة، كما هو رسم يستدل به أيضا على الانتماء للقبيلة التي تختص بوشم يميزها عن باقي القبائل الأخرى، لذلك أسندت مهمة نقش الخطوط على الجلد لواشمة متفقهة في الرسم و التخطيط بإتقان، ليكون بطاقة هوية تثبت الانتماء بشكل جلي، و علامة إستعراضية للموشومات المؤهلات للزواج، و استعدادهن للارتباط بأبناء القبيلة دون غيرهم درءا لكل اختلاط، لم يقتصر الوشم على التجميل فقط، بل تعداه ليقوم بوظيفة علاجية مستنبطة من عمق التاريخ، في التعاطي مع الأمراض النفسية، و معاناتها المستقاة من خشونة الطبيعة و وعورتها، فكان لإخراج الدم من الجلد طرد للأرواح الشريرة التي تتلبس الإنسان، خاصة عندما يرافقها ذبح قرابين مهداة لها لترتوي دما تعشقه، فتكون سببا يُطهر الجسد منها، كما تُؤدّى طقوس خاصة تكون عبارة عن ترانيم و أدعية، تحرك النفس المريضة في تجاوبها مع تلك الأجواء التي يقصد بها العلاج، على أن تنتهي بسكون مطبق يعتري على إثرها وجوم من المؤثثين لهذه الوضعية العلاجية، في انتظار ما تؤول إليه من نتائج، تُنقش الوشوم الطاردة للأرواح في أماكن خفية من الجسد، على الحنجرة و الصدر و البطن، تكون عبارة عن طلاسم صعبة الإدراك، في محاولة لتنقية الذات عندما يخترق الوشم جلد الممسوس بتلك الأرواح، كما كان له أغراض طبية بحتة يُعتقد أنها تُداوي الأمراض العضوية، فجعلت منه شفاء لكل الأسقام، فكان الخط فوق العين لتقوية البصر، و على جانبي الجبهة لتسكين آلام الرأس، ممارسات يتطلب إنجازها خبرة مشبعة بتجارب عريقة في هذا المضمار حتى لا تكون نتائجها عكسية، في حين كان الوشم يستعمل كذلك درءا للحسد و وقاية من العين، و استعمالات أخرى ذات أبعاد روحية نفسية، لكن مع التحولات التي جلبتها تعاقب الحضارات، و الاحتكاك الثقافي مع مختلف الأجناس، جعلت طقوس الوشم و ما يلفها من معتقدات التصقت بها منذ عهدها الأول تختفي تدريجيا، إلى أن أصبح الوشم يقتصر على الزينة فقط، لكن إنجازه بمهارة و إبداع يتطلب أدوات تساعد على ضبط الخط و الرسم، و إبراز فنيات النقش، و إن كانت بدائية لكنها تفي بالمطلوب رغم ما تخلفه من جروح متورمة و ملتهبة، إلا أنها سرعان ما تندمل تاركة وشما جميلا تغنى به الشعراء و استلهم منه الفنانون لواحتهم، و كان مادة دسمة للدارسين الأنتروبولوجيين، و لا زال في جعبته الكثير من الألغاز التي تحتاج إلى فك شفرتها، خاصة ما يتعلق بتلك الرموز التي لم توضع عبثا من أجل الزينة أو العلاج فقط، بل تحمل رسائل متنوعة لها معانيها و دلالتها العميقة، اجتهد الدارسون في تقديم تفسيرات و استنتاجات لبواطنها، إلا أنهم لم يستطيعوا إجلاء الغموض الذي تلبسها، لارتباطها بالذات و ما تترجمه من معتقدات و أفكار يتم إسقاطها على أماكن مختلفة من الجسد على شكل رموز ناطقة، فعلامة( +) التي تعني التاء في الأمازيغية، و هو الحرف الأول الذي تتركب منه كلمة" تامطوث"، أي المرأة المكتملة النضج، و القادرة على تحمل المسؤلية داخل الأسرة أو القبيلة، و كذلك الوشم على الثديين يرمز إلى الخصوبة و استعداد الموشومة للزواج، بينما يدل رسم المربع في العنق على الاستقرار في بيت الزوجية، أما وضع النقطة بجانب الأنف ففيه حماية من أمراض الأسنان، و رسمها بجانب العين وقاية لها مما قد تصيبها من ضعف الرؤيا أو العمى، لكن الوشوم التي توضع على الصدر و البطن و الأرداف يقصد بها كبح الرغبة الجنسية عند الفتاة إلى أن يتم لها الزواج. الوشم عند قبائل بني يزناسن لم يبتعد كثيرا عن الطابع العام للطقوس التي تشترك فيها مع باقي الأمازيغ، باستثناء بعض الاختلافات المرتبطة بالمحيط الاجتماعي و التأثير الديني اللذان يشكلان الموجه الأساسي للفكر و المعتقد، فتظهر بصماته جليا على الرسومات التي تحتل الجسد، و لما كان فنّ الوشم لم يصل بعد إلى النساء اليزناسنيات، فقد كانت تفد عليهن بين حين و آخر جزائرية متضلعة في رسم خطوط الوشم، يجتمع عليها فتيات في مقتبل العمر لتهم بوشمهن بأدوات بدائية، تتنوع بين الكحل للوجيهات المحظوظات، و بين رماد الفرن الترابي و الفحم الأسود للطبقات الدونية، يستعمل في ثقب الجلد حسب الدارجة المحلية" شوك الهندية أو بوشوك"، لتضع الصبغ داخل الجروح حسب الاختيار حتى تبقى خالدة لا تزول، تمر هذه العملية في جو احتفالي ممزوج بالفرحة و الألم من غرز" الشوك"، الوشم لم يكن مجانا بل كانت الواشمة تستخلص مستحقاتها مُدَّي قمح أو زرع و بعضا من المال حسب المتوفر، على أن تتمرس نساء بني يزناسن على ممارسته فيما بعد، لتصبح لكل قبيلة واشمة خاصة بها، و رموز متفردة بها تضفي جاذبية على صاحبته. و لما أصبح البعد الزيني طاغيا افتقد الوشم برموزه التي شقت الجلد وجوده الذي كان يكتسي معنى الهوية و الانتماء، و التعبير عن الذات بما يخالجها من أفكار و معتقدات، لتشق مسلكا نحو الاندثار، فكان من نتائجه أن حل محله وشم بمفاهيم مختلفة، أكثر تحررا و نقمة على الأوضاع الاجتماعية و السياسية، و التعبير عنها برموز تجسد الرفض و التمرد على الذات و الأوضاع التي تحيطها.
الـبراح بين الأمس واليوم
"البراح" مهنة لها جذورها التاريخية، ارتبطت أساسا بالسلطة لتدبر شأنها المحلي، انطلاقا من توظيف أشخاص لهم القدرة على صناعة الكلام الذي يُبلغ به أخبار أو قرارات صادرة عن المخزن أو مجالس القبيلة، أو الدعوة إلى المشاركة في الحرب، و تحميسهم بالانضمام إلى الجيش المحارب، و نقل أخبار المعارك و تتبع مسارها، أو الإعلان عن استخلاص الضرائب، أو الاستزادة من قيمتها، أو الإعلان عن التجمعات السياسية أو الدينية لشرح قضايا داخلية ذات منفعة عامة، كما اتخذت أبعادا إنسانية للإعلان عن اختفاء أطفال، أو ضياع أشياء ثمينة، أو الاعلان عن تشييع جنازة، أو طلب مساعدات مادية و غيرها قد تتوقف عليها القبيلة لتجاوز محنتها، مهنة شعبية ذاع صيتها و انتشرت بشكل ملفت في العهد الجاهلي لأداء مهام إعلامية، استحسنها الإسلام لما وجد فيها سبيلا للإعلان عما نزل من الوحي، و إسماعه للناس في الأسواق و أماكن تجمعهم. من صفات البراح أن يمتلك صوتا صادحا يكون له وقع على سامعيه، ليتم تداوله في الأوساط الاجتماعية على اختلافها، أن يكون أهل ثقة ينجذب إليه العامة لسماع ما استجد من أحداث أو قرارات، ينتظرون حلوله عليهم في الأسواق و المساجد و في الساحات و الدروب، ليطلعهم عما في جعبته من أخبار، تلك الثقة التي يوليها الناس للبراح هي ما تعطي مصداقية لكلامه المنقول من المخزن أو غيره، أن يتميز بالجرأة في نقل قرارات قد تثير حفيظة الناس، لكن امتلاكه لخاصية الاقناع من شأنه إخماد ثورة غضبهم، و قد يراوغ أحيانا بهدف إبلاغ المقصود عندما يحتد الحوار أو يحدث صدام، فهو مصدر ثقة يتناقلون عنه مختلف الأخبار ليتداولوها بينهم دون تحفظ، حتى تكون سريعة السريان لا تقف عند أحد فتنتشر كما أٌريد لها، خاصة عندما يٌنهي البراح كلامه بعبارة" الحاضر يبلغ الغائب"، فتكون بمثابة أمر يستوجب الطاعة و التنفيذ من سامعيها، لا يشترط فيه أن يكون ذا حمولة ثقافية أو فكرية لمقارعة الناس بالحجة عن صدق أخباره، بل يكفيه أن يحتل مكانة مميزة في قلوبهم تجعلهم يصدقون قوله دون جدال، لكن اللباقة في الكلام تبقى سمة أساسية لنجاح هذه المهمة إلى جانب حسن الهندام، لذلك كان يتم اختياره من الأوساط الشعبية على أن يكون له تأثير فعال على قومه، حتى يسهل عليه أداء وظيفته بإذاعة ما يُقال له بنجاح، و تصريف الأوامر بحِرفية تامة، و أن يتمتع بقوة بدنية تعينه على جَوْبِ الأزقة و الشوارع، مهنة لم يكن من الهين تحمل أعبائها لارتباطها الوثيق بالسلطة، عندما يتعلق الأمر بالوفاء لأوامر و قرارات ينبغي أن تذاع بين العامة، دون اجتهاد قد يحور من مضمونها حتى لا تتعرض للتأويل فتلقى معارضة شرسة، مما يجعل من البراح صوت السلطة و لسان حالها، لكن مع توالي الحقب التاريخية و تطور وسائل الإعلام، بدأت مهنة البراح تخبو و تبدو عليها مؤشرات الانقراض إلى أن فقدت كل خصوصياتها، فصارت أدوارها محدودة بعد أن تخلت عنها السلطة تدريجيا، لتقتصر في تدخلاتها على مناسبات معينة، كالاعلان عن الأعياد الدينية، أو صلاة الاستسقاء، أو حج، أو حلول رمضان، أو إشهار حفل زواج أو عقيقة، ليتصرف الناس وفق الحدث المعلن عنه و اتخاذ التدابير التي تناسبه، كما اعتمد الاحتلال الفرنسي بدوره على البراح في تمرير قوانين ضريبية مجحفة في حق المغاربة لابتزازهم بالغصب، و نشر إشاعات ترهيبية لردع المقاومة و فرض سياسة الاستقواء على الضعفاء، البراح أيامها كان عميلا يخدم المعمر من أجل كسب الرضا على حساب الآخرين، لكنه كان يلقى مقاومة شرسة و عنادا قويا لا ينسجم و القرارات المعلن عنها. مهنة تغاضى عنها كل مُسخريها، لكنها لم تختفي كلية رغم محدودية تدخلها، فقد أصبحت تتجلى أكثر في الحفلات ذات الطابع الفلكلوري، أي ما اصطلح عليه في اللهجة المحلية" بالعرفة"، حيث للبراح دور في خلق التنافسية الشريفة بين الحاضرين في تعداد مناقبهم، و الثناء على أنسابهم بمقابل مادي، و إذ يعتبر" الميلود لعريف" من قدماء" البراحة" بمنطقة بني يزناسن، و لمميزاته التي اشتهر بها في ممارسة هذه الحرفة و ما أكتسبه من تجربة عريقة، جعلت السلطة المحلية لبركان تُقدم عل اختياره برّاحا، يتولى تمرير متعلقاتها على تلاوينها من قرارات و تعليمات ذات صبغة استعجالية لكن بآليات متطورة، و من أقواله الشهيرة" آعباد الله ما تسمعو غي سماع الخير و الحاضر يعلم الغايب....... "، حضوره في الأفراح له نكهة خاصة يضفي عليها مرحا ممزوجا بفكاهاته المعهودة، و مواويله التي تتضمن كلاما فيه رفعة من قدر الحاضرين، و فيه تحميس على الاندماج في أجواء الفرح، يلزمهم ببراعته على المشاركة في عملية" التبراح"، و خلق التنافسية الشريفة عندما يجعلهم ينتشون فخرا و اعتزازا بأنفسهم، و هو يقوم بتعداد مناقبهم، و يجعلهم بكلامه المعهود يشعرون بتميزهم عن الآخرين فيغدقون عليه بالأموال، عمل يحتاج إلى براعة تعين صاحبه على استهواء الناس و جذبهم للإقبال على هذا الفن بطواعية، و لا يقوم به إلا براح متمرس و عارف ببواطن النفوس و ما ترغب فيه من أسباب الترويح عليها، و قادر على فك شفرتها، فهو بهذه المهمة الصعبة يشكل عنصرا أساسيا في الفرقة و أمين مالها، حيث يودِع مداخيل" التبراح" في" الزعبولة" المتدلية على كتفه، بنك متحرك و محمول يشترك ودائعه أعضاء الفرقة جميعهم نظير سهرهم الليل بطوله، و أدائهم الرائع في بعث الفرحة في قلوب المدعوين، فهو في المخيال الشعبي شخص طيب المعشر، ودود مع الصغار و الكبار، يسعى إلى إعمال الخير، و هو كذلك كما عهده معاشروه منذ معرفتهم به. البراح لما فقد كل اختصاصاته صارت أدواره تتنوع ليتقمصها كل من هب و دب، سواء في المساجد لتشجيع المصلين على التبرع من أجل استكمال مشروع خيري، أو جمع المشارطة السنوية للإمام، أو عند" لغرامة" في الأعراس، يؤدي النسوة نفس الدور كذلك، و عند الانتخابات للتهليل بأولي النعم عليهم، مهنة البراح بصورتها القديمة التي اختلقتها السلطات لتبليغ مقتضياتها قد طواها النسيان، و صارت في دكة الاحتياط، لكن حلت محلها وسائل إعلامية متطورة تقوم بذات الدور، بما في ذلك التلفاز و الراديو و الجرائد الالكترونية و المكتوبة التي توصل المعلومة في الإبان، و أحيانا يتم توظيف بعضها للتطبيل و التزمير لشخصيات سياسية أوغيرها من أجل الاسترزاق، و لا تختلف في ذلك عن براح الأعراس، بدل تسخيرها فيما ينفع العامة و الدفاع عن قضاياهم، يتم تحويرها عن مسارها الصحيح لتصبح أبواقا لمن يدفع أكثر.
مهنة “البراح" "أبراااح"
عرف المغرب مجموعة من العادات والتقاليد، حيث كانت تشكل جزءا من الموروث الثقافي عبر التاريخ، إلا أنها قد اندثرت، أو أنها في طور الانقراض في ظل ما تعيشه الإنسانية جمعاء من ثورة معلوماتية، من بينها ما يتعلق بمهن شعبية كانت أساسية في المجتمع المغربي، شخص لطالما كان ينتظره الناس بشغف في الأسواق وأمام المساجد وساحات المدينة ودروبها، وفي مختلف القرى والمداشر، إنه “البًراح” أو المنادي، الذي كانت لديه مقدمته الشهيرة “لا إله إلا الله لا تسمعو إلا خبار الخير”. بدايات مهنة “البراح” مهنة “البراح” لها جذور وتاريخ قديم، وكانت ذات شأن كبير في المجتمع المغربي، فحسب كتاب “معلمة المغرب”، فقد كان “البراح” عبر الزمن من المظاهر الحضارية التي شاعت في مختلف العصور، وكانت معروفة في حضارة الشرق وفي البلدان الأوربية. وقد رسخت في البلاد العربية في العصر الجاهلي، فلما جاء الاسلام أقر هذه الظاهرة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ المنادين لإعلان قضايا الوحي، واعتبر “البريح” فيما مضى من وسائل الإعلام المعتمدة إلى أوائل القرن الرابع عشر حيث بدأت وسائل الإعلام الحديثة تنتشر وتحل تدريجيا محل “البراح”. مهام البراح كانت مهام البراح عديدة، ولعب دورا أساسيا في المغرب، فإلى جانب أنه كان وسيلة إعلام، ذكر في كتاب “معلمة المغرب” أنه كان يجوب الأزقة والأماكن العمومية ليعلن ما جد من الأحداث العامة منها والمحلية، وما يتخذه المخزن أو مجلس القبيلة أو الهيئة الحضرية من القرارات والمواقف، كما يعلن أحيانا عن حاجات الأسر والأفراد. كما ذكر في مجلة “الثقافة الشعبية” البحرينية في عددها 15، في إسهام للكاتب المغربي محمد القاضي أن من المهام التي كان “البراح ” هو الإعلان عن بيع للعقارات (بيت-أرض فلاحية-غرفة أو أكثر في منزل ما-متاع للورثة)، كما أتمم حديثه عن وصف المهنة “إضافة إلى الإعلان عن الاحتفال بالأعياد الدينية ودعوة الناس إلى إقامة صلاة العيد بالمصلى في الموعد المحدد لها، وهو يجوب أحياء وأزقة المدينة، والإعلان عن موعد صلاة الاستسقاء أيام الجفاف، وعن مناسبة وطنية كزيارة ملك البلاد، أو إذاعة خبر ذي أهمية”. مواصفات ومصادر “البراح” لم تكن هذه المهنة لمن هب ودب، وكان يتم اختيار “البراح” بعناية، ويكون لديه مواصفات خاصة، فحسب كتاب “معلمة المغرب" يختار من لديه صوته جهوري وحسن الهندام ولبق حسن التصرف. أما بالنسبة لمصادر “البراح”، فقد كان يتلقى الأوامر من أصحاب القرار بما فيهم ممثلو المخزن من عمال وقواد وقضاة وأمناء وشيوخ وأعوان، وكذلك تشمل بعض الأعيان مثل شيوخ الزوايا والفقهاء بشأن استفحال بعض القضايا، وشملت مصادره أيضا رؤساء الجماعة لدى القبائل وشؤونها الداخلية، أو شخصا عاديا ممن ضاعت منه أشياء ثمينة، غير أن هذه المصادر تم تقنينها منذ عهد الحماية وأصبح المخزن يتحكم في الإعلان بفرض الرخص. كما كان “البراح” نفسه مصدرا موثوقا به، حيث جاء في كتاب ” معلمة المغرب” أنه “كانت العادة أن يحضر العدول نداء البراح في الأمور المهمة مثل البيعة والقرارات المخزنية، ويسجلوا شهادة خاصة كوثيقة تثبت وقائع ذلك النداء وتاريخه، ونجد ضمن نماذج الوثائق التقليدية التي يستعملها الفقهاء عادة نموذج الإشهاد بالتبريح.”، ودليل هذا أن هناك شهادات عدلية تعود للقرن الثالث عشر تشهد بشيوع هذه الظاهرة، وتفيد أيضا بعد الروايات الشفوية أن “البراح” كان مصدرا لإنتاج كثير من النكت والأقصوصات المتداولة. موقع "مقال" يونيو 2018.
البيدر "أَرنَانْ": ذاكرة فلاحية تُعيد رسم الماضي
يُعيد هذا المشهد المُثبت في الصورة، إحياء ذكريات زمنٍ كانت فيه الطرق التقليدية في الزراعة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لسكان بني يزناسن. قبل أن تُحدِث آلات الحصاد الحديثة تحولًا جذريًا في أنماط الفلاحة، كان الدَّرْس بالدواب يشكّل محطة أساسية في موسم الحصاد. تُجمَع السنابل في ساحة مستوية، ثم تُطلق عليها الدواب لتدوسها بحركة دائرية، فتُفرَز الحبوب عن القش بطريقة طبيعية، تعتمد على الصبر والخبرة المتوارثة عبر الأجيال. أثناء جولتنا في المداشر المجاورة لأولاد سعادة وأولاد مريم بني خالد، صادفنا هذا الموقع، في دلالة على أن هذه التقنية استمرت لفترة طويلة، ربما بسبب وعورة التضاريس وصعوبة المسالك، مما حال دون إدخال الآلات إلى بعض المناطق. لكن الأمر لم يكن مجرد ضرورة، بل كان أيضًا طقسًا اجتماعيًا يجمع الفلاحين، حيث يتعاونون في العمل، يتبادلون الأخبار، ويحتفلون بنهاية موسم الحصاد بتقاليد تعكس روح التضامن والتآزر. في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا، تبقى هذه الأماكن شاهدًا صامتًا على عصرٍ مضى، حين كان الإنسان أكثر ارتباطًا بالأرض، وأكثر تقديرًا لقيمة الجهد اليدوي الذي يمنح الخبز والبركة. نتمنى أن تُمطر السماء، فتُنعش الأرض العطشى، ويدبّ النشاط من جديد في هذا البيدر الذي كان يومًا نابضًا بالحياة. لعل حركة الدواب تعود إليه، تدور في إيقاع متناغم تحت ضربات "الدراس"، ويعلو صدى أصوات الفلاحين المتعاونين في فرز الحبوب عن القش. كما نأمل أن تُبعث من جديد تلك الجلسات الحميمة تحت ظلال شجرة "الزبوز" الوارفة، حيث كان الرجال يتسامرون، يتبادلون الأخبار، ويتبارون في إطلاق النكات الضاحكة، بينما النساء يُعددن الشاي ويُجهزن ما لذّ وطاب من طعام بسيط لكنه مُفعم بالبركة. لم يكن البيدر فضاء للعمل فقط، بل كان ملتقى اجتماعياً، وموسماً للاحتفاء بالرزق الوفير، حيث تحلّق حوله الزوار وطالبو "لَعشور" من فرقة "العرفة" و"بوشىراوط" وغيرهم من الفقراء، الذين كانوا يحظون بحفاوة الاستقبال، إيمانًا بقيم التضامن والتكافل التي كانت راسخة في النفوس. لقد كانت تلك الأيام جزءًا من دورة الحياة الزراعية، التي حملت في تفاصيلها بساطة العيش، وقيمة العطاء، وسحر الاجتماع حول الأرض التي كانت مصدر الرزق والخير.