محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
سلسلـة حكـايـات الـعم حمــودان
في عشــر حلقـات
قــــــــائمـــــــة محتــــــويــــــــات الصفحــــــــــة الحلقة الأولى : عنزة بني يزناسن الحلقة الثانية : العنزة الوفية الحلقة الثالثة : في الاتحاد قوة الحلقة الرابعة : العنزة الفدائية الحلقة الخامسة : عنزة العم حمودان والسيد سوغان الحلقة السادسة : عنزة العم حمودان المباركة الحلقة السابعة : جسر المحبة الحلقة الثامنة : العنزة نور الحلقة التاسعة : أجمل عنزة زناسنية الحلقة العاشرة : عنزة العم حمودان في حضرة ابن المقفع
الحلقة الأولى : عنزة بني يزناسن
كعادته كل صباح ،دلف السيد حمودان إلى الإسطبل ،ليتفقد خرافه ويلقي التحية الصباحية على عنزته المحبوبة. أهلا عزيزتي الغالية _أهلا سيدي _ كيف حالك؟ _كما تركتني البارحة ،حزينة… لماذا ؟ماذا أصابك؟ ألم يحن بعد إطلاق سراحي لأتمتع بالمروج المزهرة وأتجول بين أشجار البلوط والعرعار المترامية فوق جبال بني يزناسن؟ _لا زلت غضة ...اصبري حتى يشتد عودك ،إن الذئاب تترصدكم معشر الماعز في كل مكان . إذن سوف لن تحررني أبدا ،رغم أنك تعرف أني سأزورك بين الفينة والأخرى ،كن متيقنا أنك إن لم تحررني سيأتي يوم أحرر فيه نفسي ...وسيصيبك الندم الشديد... تأمل السيد حمودان عنزته مليا ،لأن كلامها كان منطقيا ومقبولا ...ولكن الخوف والفزع هو الذي جعله يتصرف معها هذا التصرف الغريب ...لا زالت قصة العم سوغان ترن في أذنيه ..ولا يتمنى عنزته مثل هذه النهاية الدرامية ،استرجع السيد حمودان شريطا طويلا ،حافلا بالمسرات مع عنزته الصغيرة ،تذكر حين ولدت فماتت أمها أثناء الولادة ،وكيف كان يرضعها بيده ،يحن عليها و غالبا ما كانت تنام في حضنه… رجع السيد حمودان إلى الحضيرة ،ربت على ظهر العنزة وقال لها والدموع تملأ عينيه. _هل أسأت معاملته يوما ما عنزتي الغالية ؟ _ أبدا سيدي… إذن ،لماذا تودين مغادرتي؟ _ لأني أحب أن أعيش حرة ...أستمتع بهذا الفضاء الفسيح ،دون قيود ،وأختار من العشب ما لذ وطاب،واحتك مع أصدقائي الحيوانات...ألم تقاوموا الفرنسيس بقوة السلاح من أجل الحرية أيرضى يزناسني واحد بالعبودية؟ هذا الكلام المفحم وقع كالصاعقة على هامة العم حمودان، بدأ يترنح يمنة ويسرة ، تائها ، تلعثم لسانه برهة ثم استجمع فرائصه وخاطب عنزته قائلا : _ هل هو قرارك الأخير؟ نعم سيدي ولا قرار آخر بعده … _إذن ،سأطلق سراحك وأنا غير واثق من اكتمال رجولتك ...لكن آخر وصية أوصيك بها...ألا تعتمدي القوة في حياتك،فأنت لا زلت طرية ،ولا يمكنك التغلب على الذئاب والثعالب،لأن منطق القوى في صالحهم…. سأكون عند حسن ظنك سيدي،فقد شاهدت مقالبكم للعدو الفرنسي وكيف كنتم تنسجون الفخاخ لهم من أجل اصطيادهم….سأكون زنا سنية حرة و شرسة...سأدافع عن شرف كل زنا سنية أبية… _اطمأن العم حمودان لهذا الكلام وطلب فك عقالها ثم ترك عنزته تهيم وسط المروج، فرحة نشيطة بعالمها الجديد...عالم الحرية والطلاقة… لم تمر إلا ليلة واحدة ، كان القمر فيها منيرا، حتى سمعت صوتا مرعبا بين الأشجار،اقترب منها بتؤدة وقال لها: _ مرحى...مرحى...أتعرفين من أكون؟ _ أعتقد أنك سيدي الذئب _صح...أنت ذكية ومهذبة ...ومع ذلك سوف أفترسك افتراسا،لأنني مريض بالسعال كما ترين وأنت عنزة معشبة ب فليو والعرعار….ستكونين دواء ناجعا لعلتي… _ ههههههه...ماذا تقول يا سيدي ،لقد منع علي الطبيب كل هذه الأعشاب ،فأنا في فترة حمية ،مع الأسف جئت متأخرا… _ماذا تقولين…مرض….حمية….ما العمل إذن؟ _أمهلني أياما حتى ألتهم هذه الأعشاب الطبية لأكون لك دواء ناجعا… _أنت تفكرين في شيء ما….أليس كذلك؟ _ لا تسيئ الظن بي فأنا لازلت صغيرة على ذلك،أنظر إلى الحقل أسفل الجبل...كله عرعار و فليو…هيا نطل عليه لترى إن كنت صادقة؟ _ حقيقة سأصدقك واعلمي أنك لو خدعتني سيكون عقابك قاسيا جدا….جدا…. _لا ...لا تخف..لقد فقدت الأمل في الحياة….وكم سأكون سعيدة إن أنقذت حياتك و ضحيت من أجلك،هيا تعالى معي سيدي الذئب لترى جمال فليو والعرعار….فمجرد شمه سيزول عنك بعض الألم… _ حقا أنت عنزة غريبة و طيبة في نفس الوقت…. رافقت العنزة الذئب إلى قمة الجبل واشرأبا من عل على حقول الدواء المزعوم….وفجأة لم يحس الذئب بنفسه إلا وهو يتهاوى من عل ليسقط كالهشيم في قعر الوادي... أحست العنزة بالفخر...وتذكرت كلمات سيدها...الحيلة قد تكون لك عونا في حربك مع الذئاب…. فعلا،سجل التاريخ هذه الحادثة وتكلم عن أذكى عنزة في تاريخ الماعز...ولا زال الناس يرددون بفخر وأنفة…..قصة العنزة الزناسنية،التي استطاعت بفطنتها و ذكائها أن تقضي على الذئب، ولقد غيرت هذه الحكاية كثيرا من المفاهيم ولم يعد الذئب هو أذكى حيوان على البسيطة...
الحلقة الثانية : العنزة الوفية
في مدشر من مداشر بني ميمون،المتواجد بجبال بني يزناسن الشامخة،كان يعيش العم حمودان مع عنزته نويرة ،كانت عنزة صغيرة وجميلة،تسر الناظرين،وتأسر ذوي القلوب الحنونة،ماتت أمها وهي لا زالت غضة،ولحق بها أبوها ،فأصبحت يتيمة ،وسط جبال صلدة ومناخ صعب،وتضاريس قاسية... تكفل بها العم حمودان ،فخصها بعطفه وحنانه،اعتبرها كحفيدة من أحفاده،يُرضعها ويداويها إن أصابها سقم،فألفته وألفها،حيث لا يحلو لها النوم إلا في حضنه،لقد تعلقت به كثيرا،تتبعه في حله وترحاله،تئن لمرضه وتفرح لفرحه.. -ما أعظم وأجمل هذه العنزة الغريبة الأطوار ! في يوم غائم،بينما كان العم حمودان يرعى قطيعه بعيدا عن قريته،حمل نايه بين أنامله ،وشرع في العزف ألحانا شجية،جعلت الخرفان يتوقفون عن المضغ،أما الماعزة فقد استهوتها هذه المعزوفة وأثرت فيها كثيرا،فانسابت الدموع من مقلتيها انسيابا.. فجأة،توقفت عقارب الساعة عند سماع خشرجة قوية لأرجل آدمية،توقف العم حمودان عن العزف،وقبل النهوض،باغته ثلاثة رجال أقوياء ورموه في عمق بئر قديم.رغم مقاومته وتوسله لهم لم يرحموه..في سرعة البرق غادروا المكان لا يلوون على شيء،أخذت العنزة تدور وتدور حول البئر،لعلها تجد وسيلة ناجعة تنقذ به سيدها،لكن كل محاولاتها باءت بالفشل،وحين أحست بأن الليل داهمها،سارعت إلى منزل العم حمودان،دلفت من الباب الخلفي،وبدأت تثغو وتصرخ دون توقف،اقتربت من زوج العم حمودان وبدأت تقفز وترتعد ..فأدركت الزوجة أن أمرا جللا قد وقع،دنت العنزة من الزوجة وشدتها من دبر ثيابها،وجرتها للخارج..نادت الزوجة أولادها بأعلى صوتها ،فلبوا النداء مسرعين،وتبعوا العنزة نويرة خطوة خطوة حتى أدركوا البئر المهجورة،فسمعوا أنينا صادرا من قاع البئر،أحضر الأبناء حبلا طويلا وأنقذوا والدهم من موت محقق،بدا التعب والارهاق على والدهم،ضمدوا جراحه ،ووضعوا قصبا حول رجله المكسورة،ثم حملوه بينهم،ليوصلوه إلى المنزل،والعنزة تنط وتقفز فرحة بسيدها وولي نعمتها.. لما استفاق من غيبوبة دامت ساعات،وجد العم حمودان عنزته في حجره،تتمسح به،وكأنها تحاول إيقاظه،اقترب منها وقبَّل رأسها،وحين علم ببطولتها،ازدادت محبته لها،احتضنها بين ذراعيه وقال كلمة بليغة ومعبرة: -عنزتي الغالية،لقد كنتِ أحنَّ علي من إخوتي... حين سمعت زوجته مقاله هذا،بادرته بالكلام: -وما دخل إخوتك بالموضوع؟ أجابها والدمع ينهمر كالشلال من عينيه: -إنهم كإخوة يوسف،حاولوا قتلي ليخلو لهم الإرث،لقد عمى الطمع بصيرتهم،ووسوس لهم الشيطان قتل أخيهم من أجل دنيا فانية... توقفت زوجة العم حمودان لحظات وقالت: -إن الله يمهل ولا يهمل،سيقتص الله حتما من جريرتهم هذه،سيندمون ولن ينفعهم الندم حينئذ. تمعن العم حمودان طويلا في كلام زوجته وختمه بقوله: -لأول مرة أحس أن الحيوانات أحن من الآدميين،فقد أثبتت عنزة ضعيفة وفاءها لسيدها،وخان العهد إخوة،كنا نحسبهم سندا لنا وقت الشدائد.. ختم العم كلامه بحكمة بليغة قائلا: أحيانا قد تكون بعض الحيوانات أحن من الانسان،وقد يكون بعض الآدميين أقسى من بعض الحيوانات...
الحلقة الثالثة : في الاتحاد قوة
تافوغالت عاصمة بني يزناسن الادارية،وعروس المداشر والدواوير،تمتاز بطبيعتها الأخاذة،ومائها الزلال. جنة للمقيمين،ومحطة استراحة للمتجولين،تجمع بين روائح الشواء الزكية ونسمات الجبال المنعشة... في هذا المكان الجميل ،كان يعيش العم حمودان مع خرافه،يستلهم حكمه من الطبيعة،ويستمد قوته من إيمانه بخالق الكون،ويستنبط حيويته من حركية الحيوانات وخرير المياه العذبة..لوحات فنية عذرية وطاهرة ،تبعث في المرء الهدوء والسكينة... اسطبل العم حمودان،يتواجد بين هذه المروج المزهرة،تقطنه تشكيلات مختلفة من الحيوانات الأليفة:خرفان،نعاج،بغال، ،دجاج وإوز...معظم هذه الحيوانات تعيش بصورة جد عادية،لكن الغريب في الأمر،هذا التكتل الذي يجمع بين رباعي جميل، الكلب والكبش والحمار والماعزة ،حلف لا يستطيع أحد فكه...كان العم يقول دائما لزوجته وأبنائه متفكها: - هذا الحلف أقوى من حلف وارسو... لقد أصبحت هذه الكتلة محط إعجاب العم حمودان،ومضرب الأمثال في التوحد والانسجام والتآزر في القرية بأكملها. في يوم ربيعي جميل،بينما كان القطيع يسرح في مرعى خصب،والشمس ضاربة جذورها على الأرض،سمعت الحيوانات صوتا غريبا،يقترب منها،فقطع هدوءها،فتوقفت عن التهام العشب ،رفع القطيع رأسه للأعلى،فإذا بذئب قوي البنية،يشرئب من وراء الأكمة،أصاب القطيع ذعر كبير، فتراجع للوراء مذعورا،اغتنم الذئب هذا الذعر وصدح بصوته الصاخب: لا تخافوا..أنا قدمت إليكم لتقدموا لي الماعزة الصغيرة هدية لي وسأترككم في رعاية الله وحفظه... أجابه الكلب الشجاع: -اذهب لحال سبيلك أيها الغدار اللعين وإلا سنهين كرامتك. قهقه الذئب حتى بانت أنيابه وقواطعه وقال: - بفعلتكم هاته سترغمونني على افتراس الجميع.. في هذه اللحظة الحاسمة دنا الكلب والكبش والحمارمن الماعزة الصغيرة وطمأنوها،بأنهم لن يفرطوا في ظفر من أظافرها،مهما كلفهم الأمر،وبالتالي قرروا التصدي لهذا الهجوم الغادر،غلى الدم في رأس الكبش النطاح وبادر الذئب قائلا: - اذهب يا سارق الدجاج اللئيم فمكانك ليس هنا،لقد طرقت الباب الخطأ. أجابه الذئب متعجرفا: -أعتقد أنكم تودون إعلان حرب ضروس بيننا،من أجل ماعزة صغيرة،لا تسمن ولا تغني من جوع.. نهق الحمار طويلا متهكما على مقالة الذئب،و"زعرط" بكلتا رجليه،فكاد يصيب الذئب مما جعله يفقد توازنه،لحظتها اعترضه الكبش بنطحة قوية أسقطته أرضا،نفض الذئب جسمه و طأطأ رأسه خجلا،تعبيرا عن الهزيمة النكراء،وهرب لا يلوي على شيء،فرحت الماعزة الصغيرة كثيرا،وشكرت أصدقاءها على هذه الشجاعة الفريدة من نوعها،وثمنت هذا العمل الشجاع واعتبرت الواقعة بداية تشكيل حلف للحيوانات،ضد كل هجوم غادر... في المساء،حين عاد العم حمودان لاصطحاب خرافه،أسرعت الماعزة الصغيرة نحوه،وبكت بكاء مرا،احتضنها وكفكف دموعها.لما علم العم حمودان بالقصة كاملة خاطب معشر الحيوانات بقوله: أيها الحيوانات الغالية،اليوم استطعتم بحنكتكم وذكائكم وبسالتكم انتزاع نصر مسحق،فلولا توحدكم في وجه العدو مااستطعتم كسب المعركة،ففي الوحدة الغلبة وفي التشرذم الخسران المبين،قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
الحلقة الرابعة : العنزة الفدائية
في سوق الحد بسيدي بوهرية،وغير بعيد عن تافوغالت عاصمة بني يزناسن ،يُعقد سوق شعبي كل يوم أحد،يلتقي فيه القرويون وسكان الجبال،من أجل تبادل البضائع،أو اقتناء المواد الأساسية لعوائلهم ،دون أن ننسى التمتع بحلقات الحكي،رفقة براد أتاي معشب،جلسة تبعث الحنين في قلوبهم،وتزودهم بما جد من أخبار القرى والمداشر،علاوة على تبادل معلومات عن المقاومة اليزناسنية ... تحت الخيام،وأمام ثلة من الحميروالبغال،كانت تعقد جلسات الحكي الشعبي، حكايات شديدة الغرابة،يتحاكاها الصغار والكبار،بشيء من الفخر وكثير من الإعجاب،مثلها مثل حكايات الفهد الوردي أو مغامرات سيف ذي بن ذي يزن أومغامرات السندباد الخيالية.. ومما يحكى أن العم حمودان،كان يمتلك عنزة،فائقة الذكاء،شعر ناعم،عيناها بلوريتان،مشيتها كالطاوس،صوتها بلسم للمريض،لونها الأبيض والأسود،جعل منها لوحة فنية،تغري القلوب وتأسر العقول... تناقل الجنود الفرنسيون إخبارية تفيد أن العم حمودان يخزن أسلحة،تسلمها من ميناء قابوياوا،ويستعد ارسالها للمقاومة في أعالي جبال آلمو،لما أتاه لا ليجو اندس العم حمودان في الاسطبل،تحت كومة تبن، فتش الجنود منزله شبرا شبرا،ولم يعثروا على شيء،فقرروا تفتيش الاسطبل،تفاجأت الحيوانات بهذه الوجوه الغريبة،فبدأ الكلب ينبح،والحمار ينهق،والماعزة تثغو وتصيح،اختلطت هذه الأصوات فيما بينها،لتصدر سيمفونية ركيكة ومزعجة،لا انسجام بينها ولا جمال.. ربما تعبيرا عن استهجانهم لهذه الوجوه الغريبة،والعيون الزرقاء المقرفة.تسمرت الماعزة معزوزة في ركن من أركان الاسطبل،تترقب الأمور،بروية وتؤدة،فتبين لها جزء من جسد سيدها ظاهرا من وراء فتحة صغيرة،هرولت نحوها،وجلست فوقها،لتتستر على سيدها وولي نعمتها.رغم التفتيش الدقيق،لم يعثروا على شيء،فغادروا الموقع متوعدين متأسفين،وقبل امتطاء خيولهم،أطلقوا عدة طلقات نارية في الهواء ،اعتقد أهل القرية أنهم قتلوا العم حمودان،أسرع الجميع إلى منزله لتقديم التعزية لأهله،لكن الجميع اندهشوا لتواجده في الاسطبل،يعانق عزته الشجاعة،يقبلها،ويداعب رأسها.لما علموا بقصة العنزة،زاد اعتزازهم بها،فأقاموا لها حفلا شعبيا رائعا احتفاء بأول عنزة،دخلت تاريخ المقاومة من بابه الواسع. ،حينما انتشر خبر العنزة بين الدواوير،وتلقفه المستعمر الغاشم،أصبحت العنزة معزوزة هي الأخرى في فوهة بُركان، علق المستعمر صورها في الأسواق والمداشر والغابات ،واحتار في أمرها الأسود والنمور والثعالب والذئاب،أسرع الأسد عقْد اجتماع مغلق للحيوانات وسط الغابة،وخطب فيهم قائلا:لقد شرفتْ عنزة العم حمودان الحيوانات،وأصبحت أول عنزة فدائية من فصيلة الحيوانات،لذا حرمت التهام لحم الماعز على نفسي وحرمته على كل الكواسر بما في ذلك الثعالب والذئاب،.ستبقى معزوزة رمزا للمقاومة والوفاء،وسنكلل هامتها بأعلى وسام،وهووسام أميرة الغابة.. بعد مرور حوالي يومين،بعث العم حمودان بالعنزة إلى أعالي آلمو لإخبار أهل تنيسان ،عبر رسالة بوصول الأسلحة ،وأن عملية كبيرة وحاسمة ضد العدو الفرنسي ستتم بتنسيق مع جميع فصائل بني يزناسن،للانقضاض على العدو ضربة رجل واحد،حين أنهت العنزة معزوزة مهمتها،قفلت راجعة ،وهي في غاية السرور،لكن أثناء إيابها اقتنصتها أيادي لاليجو برصاصات قاتلة،بكى لأجلها الكبار والصغار،النساء والرجال،و نكست الأعلام في سائر ربوع الغابة،وتم إعلان الحداد لثلاثة أيام كاملة... لما علم العم حمودان بالخبر،بكى بكاء مُرًّا،أصابه حزن كبير،ولم يعد يقترب من الاسطبل لأنه يذكره بأغلى وأعظم عنزة ازناسنية،وفي حفل التأبين ،الذي أُقيم على شرفها ،قال العم حمودان، بصوت أجش: معشر اليزناسنيين الأبطال،هاهي عنزة صغيرة وضعيفة قد استرخصت نفسها وضحت بحياتها من أجلكم،لقد أعطتكم درسا رائعا في الاصرار على التحرر والاستقلال،إنها شهيدة الواجب،لقد كانت رحمها الله مثالا للوفاء والاخلاص ،ونادرا ما ما نجد مثيله حتى بين بني البشر.. كفكف العم حمودان دموعه وواصل خطابه التاريخي لأهالي بني يزناسن قائلا: يا أهالي آلمو و فوغال.. خذوا القدوة من ضعافكم،فالأسود والنمور والذئاب والثعالب،كلها هنأتنا بهذا الفتح الجميل،وهاهي الخيول نفسها حاضرة معنا،قدمت نفسها طواعية من أجل الوطن،اعلموا أن الخيل فيها الخير الكثير: "الخيل معقود في نواصيها الخيرإلى يوم القيامة"..هلموا جميعا يا أهالي بني يزناسن،وحِّدوا صفوفكم ،فالعدو أمامكم والدنيا الفانية وراءكم، ليس لكم والله إلا الجهاد في سبيل الله واعلموا أنكم في هذه المنطقة كالأيتام في مأدبة اللئام،شمروا على سواعدكم وسيأتيكم النصر زاحفا على رجليه...وليس لنا والله حل إلا الجهاد في سبيل الله..
الحلقة الخامسة : عنزة العم حمودان والسيد سوغان
التقى العم حمودان بالسيد سوغان نواحي زكزل،رفقة عنزتيهما نويرة وبلانكيت،تعانق السيدان عناقا حارا،وقررا الاستمتاع بجلسة محلية،تحت خيمة تقليدية... بسرعة البرق،تفاهمت العنزة الأمازيغية مع العنزة العجمية، لأن لغة الماعز مشتركة في جميع بقاع العالم.استدعت العنزة نويرة صاحبتها،في جولة جبلية،للتمتع بالروائح العطرة،التي تصدرها أشجار العرعار وفليو والزعتر،لقد قضتا وقتا ممتعا ورائعا وسط المروج الخضراء والأعالي الباسقة،فالماعز لا يحلو لهم الجو إلا وهم يتسلقون الأشجار ويطؤون قمم الجبال... العنزة الأمازيغية كانت جد متمرسة على هذه التضاريس الوعرة،أما بلانكيت فقد كانت تركض بصعوبة وتتسلق الجبال بجهد شديد،وكانت العنزة الأمازيغية تقدم لها العون بين الفينة والأخرى... خاطبت العنزة بلانكيت غريمتها نويرة قائلة: -هيا نتسلق هذا الجبل لنصل إلى أعلى قمة فيه. أجابتها نويرة قائلة: -هيا بنا...فالهواء منعش هناك...كوني متيقنة أن الجو سيروقك كثيرا،لأنك ستطلين على العالم من الأعلى...سيبدو لك العالم قرية صغيرة... - لقد شوقتني للوصول للقمة والتمتع بهذا المنظر العجيب. انطلقت العنزتان نحو الأعالي،تلتهمان السدر تارة وتغنيان أخرى،فاختلطت الأمازيغية مع الافرنجية،فشكلت سيمفونية رائعة تجمع بين نغمات الصف الجميلة ورقصات البالي الخالدة،رددتها الجبال فانتشر صداها بين فجاج آلمو وفوغال وبوزعبل ...فأحست العنزتان أنهما توحدتا رغم اختلاف الجنس واللون والتقاليد... لكن فجأة وقع ما لم يكن في الحسبان،انزلقت عنزة السيد سوغان،من أعلى الجبل وسقطت على رأسها فوق صخرة صلدة ،وفارقت الحياة على التو.أسرع العم حمودان والسيد سوغان إلى موقع الحادثة ولم يستسيغا هذا المنظر المرعب،بكيا بكاء مرا وكاد السيد سوغان،يسقط أرضا من هول الصدمة،جلس على كرسي خشبي ودخل في نوبة بكاء هستيرية... أما العنزة نويرة فلم تصدق الأمر،اغرورقت عيناها بالدموع،وبدأت تنتحب،فأحست أنها كانت سببا في هلاكها.اقتربت من السيد سوغان وجلست بجانبه،تتحسس جسمه،وتتلمس يديه،محاولة التخفيف عنه .... بعد هدوء طويل،تقدم العم حمودان نحوالسيد ىسوغان،ربت على كتفه وقال له: -لم أكن أتوقع أن الحيوانات هي أيضا تبكي،أعتقد أن الانسانية لا يختص بها الآدميون فقط ،وإنما قد تتعدى العباد إلى الدواب أيضا، و خير دليل المشهد الذي أمامنا...عنزة تبكي بحرقة لفقد غريمتها ... مضت عدة أيام والسيد سوغان لم يستطع مغادرة البلاد،حيث أصبح كل يوم يزور قبر عنزته،ويسقيها بالماء،ويعطرتربتها بنبتة العرعار وفليو والزعتر... قبل مغادرته البلاد،اتصل السيد سوغان بالسيد حمودان،وقال له: -سيدي حمودان...أريد أن أقدم لكم عرضا وأتمنى أن تقبله؟ -ما هو ...تفضل؟ -أريد أن أبتاع منك عنزتك اليزناسنية،وبأي ثمن تحدده،أحس أنني لا أستطيع العيش دون ذكرى... بادره السيد حمودان بلغة الواثق من نفسه قائلا: -سيد سوغان ،عندنا مثل يقول:تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها،هذه العنزة ليست مجرد حيوان عادي..إنها رمز البقاء وعنوان الكرامة والشرف اليزناسني،فلا يمكن ليزناسني حر ابتياع متاعه وأرضه وشرفه أو التفريط في أهله... -صدقت سيد حمودان..صدقت صديقي..وهذا ما سيزيدني اعتزازا بكم وبتقاليدكم،فإن كنتم لا تجرُؤون التفريط في عنزة ،فكيف لكم التفريط في كرامتكم وشرفكم ورجولتكم!!!
الحلقة السادسة : عنزة العم حمودان المباركة
تحكي عنزة العم حمودان،أنها كانت تعيش مع أخواتها العنز رفقة كلبة ،لا زالت ترضع جراءها الصغار،جنوب مدينة بركان،كانوا برمتهم تحت كنف عجوز،ضعيفة البصر،ومع ذلك ترعاهم جميعا،رغم قلة الحاجة وشدة العوز. في ليلة دامسة،مر عليها عابر سبيل،يمتشق عصا، لحيته كثة ومسترسلة،يضع على كتفيه لحافا تقليديا طويلا.اقترب الغريب من العجوز وقال لها بعاميتنا المتداولة:"ضِيف الله ألَالَّة .راني مقطوع"،لم تتردد العجوز في تلبية طلبه،رغم الخصاص المدقع،أجارته في بيتها ،أسرعت في ذبح إحدى عنزاتها وأطعمته لحما طريا،وسقته ماءا زلالا،ثم قدمت له "بورابح وبوشراوط"،دثرته وغادرت المكان دون أن تنتظر جزاء أوثناء.فرح الغريب فرحاعظيما بهذا الكرم اليزناسني الجميل، ودعا للعجوز بالخير العميم والرزق الوفير. صلى الغريب صلاة الفجر،رفع يده للسماء والدموع تهطل من مآقيه،داعيا الله أن يرفع البلاء عن عباده وأن يغدق على العجوز بخيره وبركته. قبل مغادرته للقرية،دنا من العجوز ووضع يده على عينيها،فرجع لها بصرها،ومرَّر بباطن كفيه على ظهر الماعز،فكثر لحمها وتضاعف شحمها ،امتلأ الضرع وتضاعف الزرع ،وسطع نور في السماء،يوحي بشيء غريب ما سيحدث.خطا الغريب خطوتين إلى الأمام،دلف نحوه ونادى العجوز باسمها وقال لها: -احملي أغراضك سيدتي وغادري المكان لأن فيضانا قويا سيحدث وسيدمر الأخضر واليابس، لا تنسي إخبار جيرانك. لم تفهم العجوزلغز الغريب واستفسرته: -متى سيحدث هذا الفيضان سيدي؟ أجابها وهو ينظر إلى الكلبة وجرائها: -حين تنقل هذه الكلبة جراءها اتبعيها واستقري في المكان الذي تختاره ،سيكون مكانا آمنا بإذن الله. أذعنت العجوز لكلام الغريب،وحين غادرت الجروة المكان تبعتها،واستقرت في المكان الذي حددته،بنت خيمتها،وقام بعض من وثق في كلامها بمرافقتها ،أما الآخرون فقد وصفوا العجوز بالمجنونة وأمطروها بوابل من من كلمات الاحتقار والسخرية. غمر المنطقة فيضان عظيم،دمر الأخضر واليابس،وانفجرت عين متدفقة كونت بركة مائية دائرية،أصبحت رمزا للعطاء والخير العميم،إلا أن الناس حولوا هذه البركة المباركة إلى لعنة ،إذ تربع مسعود على عرشها،ينشر شراره وتعاويذه الشيطانية ،قدموا له القرابين والأموال وأنواعا مختلفة من البخور والعطور،ومما زاد الطين بلة أن مسعود تمادى في طلباته،حيث طلب من شخص يعاني الصرع بتقديم عنزة العم حمودان قربانا له،ليظفر بالشفاء الكامل،وفعلا اختطف الرجل عنزة العم حمودان وذبحها وقدم دمها عطية لمسعود،فتناثرت الدماء على سطح البركة،وأضحت البركة دما قانيا. ومنذ تلك اللحظة نزلت اللعنة على أهالي الدوار،نشفت البركة المائية ،جف الضرع ويبس الزرع. ولا زال الناس ينتظرون كل ليلة زيارة الغريب كي يرجع للقرية بسمتها،ويعم الخيرأهاليها ويعود العم حمودان حاملا عنزته بين ذراعيه ،منشيا بثغائها الذي يُـنَـفِّسُ عنه هموم الحياة ويفك عنه عزلة الوحدة القاتلة.
الحلقة السابعة : جسر المحبة
بعد وفاة والدهم،نشب خلاف كبير بين السيد حمودان وأخيه حميدان،حيث دامت القطيعة سنوات طوال،وشكل الجسر الفاصل بينهما حاجزا مدمرا لعلاقتهما،لم يعد بإمكانية العم حمودان ولا عنزته قطع الوادي السحيق،مما زاد في توسيع هوة الخلاف بينهما،وأصبح الصلح من رابع المستحيلات... كل واحد في ضفة،الأجسام تتناطح كل يوم،لكن الأرواح متباعدة،حتى أضحى الوادي،عنوانا بارزا للكره والحقد،انتشر خبرهما بين جميع القبائل،فقاموا بعدة مبادرات للصلح إلا أنهم لم يتوفقوا...حتى الأغنام والدواب والماعز عانوا من نير هذا البعاد،وأصبح كل خروف يشتاق لأمه في الجهة الأخرى.العلاقات آدمية والحيوانية،انقطعت أواصرها منذ أمد بعيد،والنحيب لم يعد يجدي... أطلقت العنزة عزة صرخة مدوية،ردد صداها الوادي السحيق فأصبحت حكمة لكل القبائل(آدميون وحيوانات): !! آ ه حين يتدخل الانسان في حياة الحيوانات دأبت العنزة عَزَّة التي يمتلكها العم حمودان وأختها معزوزة التي تنتمي للضفة الأخرى الالتقاء خلسة على الضفتين في جوف الليل،وحاولتا البحث عن حلول ناجعة،تعيد المياه لمجاريها..حقيقة الكلاب لم تعد نفس الكلاب والأبقار لم تعد تلتهم الحشيش كسابق عهدها،والديكة تغيرت أصواتها بين الصياح والنحيب...والواد مبتسما،يزهو في عنفوانه،فرح بعزلته،ونقاء مائه... اغتنمت العنزتان سواد الليل،وقررتا بمعية الحيوانات الأخرى بناء جسر عظيم وجميل، ،علقوا فوقه لافتة عظيمة وكتبوا عليها "جسر المحبة"،لونوا الجسر بالتبن والفصة والورود،ووضعوا على جانبيه روائح عطرة من فليو والعرعار والحبق...فأصبح الجسر يفوح عطرا ،مسكا ومحبة... في الصباح الباكراستيقظ العم حمودان ،دخل اِسطبله فوجده فارغا،بحث عن عنزته الغالية فلم يعثر لها على أثر،دلف مسرعا للخارج فوجد أغنامه وأبقاره ومعزه يتعانقون في الجهة الأخرى،والعم حميدان بينهم يبكي من الفرحة التي انتابته،خاصة حينما رأى أخاه في الجهة الأخرى يرمقه مشدوها... ،ناداه بأعلى صوته كطفل صغير...أخي...أخي...لقد اشتقت إليك...وأسرع إليه ليحتضنه كما تحتضن الأم ابنها.. وسط جسر المحبة..تعانقا طويلا فامتزجت دموعهما المالحة بحلاوة اللقاء،وأحسا بدفء الأخوة،بادر العم حمودان أخاه حميدان قائلا: -لم أكن أعلم أنك بهذه الطيبوبة أخي،لقد بنيت جسرا في ليلة واحدة،وهدمت جميع الحواجز التي كانت عائقا بيننا...كم أنت عظيم يا أخي... أجابه أخوه حميدان قائلا: الفضل كله يعود لهاتين العنزتين العظيمتين عزة ومعزوزة،لولاهما لما أينعت شتائل المحبة بيننا... أقام الأخوان حمودان وحميدان حفلا عظيما،حضره شيوخ القرى المجاورة،وتم تكليل العنزين بأعلى وسام...وسام المحبة،ووضعا تاجا ذهبيا على رأسيهما،وفاء لهما على خدمة الانسانية وجمع شمل البشر والحيوان على السواء... ومن الكلمات المؤثرة التي ألقتها العنزتان أمام الجمع الغفير قولهما: أيها الآدميون... أيتها الحيوانات... ابنوا جسور المحبة بينكم،انسوا الأحقاد،فهي نيران تحرق القلوب...كثير من الجسور حواليكم مدمرة،تحتاج إلى التفاتة بسيطة منكم،كونوا رحمكم الله دعاة بناء وتشييد ،لا معاول هدم وتدمير!!!!
الحلقة الثامنة : العنزة نور
فرح العم حمودان بولادة عنزته الصغيرة،ولكثرة اعتزازه بها سماها "نور"،رباها أحسن تربية،وفضلها على خرافه ونعاجه،فأصبحت كظله،لا تفارقه أينما حل وارتحل.ومن غرائب الأمور أنه كان يقضي معها جل أوقاته،حتى بدأت نيران الغيرة تتسرب إلى قلب زوجته وأبنائه. كبرت العنزة وترعرعت في أحضانه،فعُرفت بين سائر القبائل بجمالها ودقة نظامها وكثرة حليبها رغم فترات الجدب والقحط التي أثقلت كاهل البلاد والعباد،فاحتار الناس في أمرها،ووصفت بالعنزة المباركة.حيث بدأ أهل الدوار يتمسحون بشعرها ويتبركون بحليبها،بل ويتنافسون على ضيافتها، معتقدين أن البركة ستعم المنزل،وستفك كثيرا من العقد كالحسد والنحس والعين الشريرة وسوء الطالع،كثر الطلب عليها،ودخل العم حمودان في حيص بيص،خاصة حين أصبح منزله ملجأ لكثير من المريدين ،علاوة على زيارات النساء المتكررة لدرء الجن وعلاج المس وبحث العقيم عن الخصوبة... شكا العم حمودان قصته لفقيه الدوار،فنصحه بذبحها ،لكن العم حمودان استنكر الأمر،لأن علاقته بعنزته لم تعد مجرد علاقة عابرة،كيف يضحي بأعز مخلوق على الأرض،عاشره سنين عديدة،جمعت الألفة بينهما وأصبحت العنزة كظله،لا يحلو لها النوم إلا في حضن سيدها،فكر كثيرا في حل مناسب يبعد عنزته عن الشبهات... أخيرا اهتدى العم حمودان إلى حيلة مناسبة تبعد صفة القدسية عن عنزته،حيث أحضر حمارا وسخا وهرما،وربطه مكان العنزة،احتار أهل الدوار في الأمر،وحاولوا البحث عن العنزة المباركة للتبرك بكراماتها...لكن العم حمودان أخبرهم أن البركة انتقلت من العنزة للحمار،كل من يريد التمسح به أو شرب بوله أو تقبيل أذنيه،فَلْيَأْتِ مبكرا ،ليظفر ببركته...استهجن أهل القرى الأمر،وعافوا درن الحمار ورائحته الكريهة،ولم يعودوا يلتجئون إليه للتداوي. نسوا أمر العنزة بسرعة،ولم يعودوا يتمسحون بشعرها أو يطلبون بركتها،وعاش العم حمودان عيشة هنية مع عنزته الجميلة،كما أدرك أهل الدوار، بعد فوات الأوان، أنهم كانوا واهمين،ندموا ندما شديدا على كل حركاتهم البليدة،استغفروا الله ووكلوا أمور دينهم دنياهم لخالقهم،فعاشوا سالمين مطمئنين،فعم أرضهم الخير والبركة ،كثر نسلهم وتضاعف زرعهم وامتلأ ضرعهم...
الحلقة التاسعة : أجمل عنزة زناسنية
تافوغالت العاصمة الجبلية لأهالي بني يزناسن،بمائها الزلال وهوائها المنعش،وحمولتها التراثية، كانت معقلا للثوار وملتقى للمقاومين من كل حدب وصوب،طبيعتها تأسر القلوب وخضرتها تبهر الناظرين.من بعيد تستقبلك روائح الشواء،ونفحات الطواجين،والنسائم الزكية لفليو والعرعار والزعتر ونونخة،كما تستقبلك على حافة الطريق باعة "الزميطة والكرموص والعسل الحر والببوش والسكوم"،علاوة على الدجاج البلدي والبيض الطبيعي،الذي لم تصل إليه أيادي الاستنساخ الآثمة...جمال الخالق يظهر جليا في مخلوقاته،وكل مُعدَّلٍ،يحمل في ذاته الكثير من الأخطار،فما هو مصنع بيولوجيا في المختبرات كيميائيا،لا يمكن أن يقهر الطبيعة أبدا،والسوي من ينقب عن الأصالة والأصل في جوف الطبيعة المعطاءة... في هذا المكان الفسيح والتاريخي،نُصبت خيام تقليدية،يحرسها خيول عربية وأمازيغية متآلفة، ،تحرس قلعة تافوغالت من غدر العصرنة،وصخب المركبات.غير بعيد هُيئت رحبة" المحرك "من أجل استقبال فرسان التبوريدة،بألبستهم التقليدية الجميلة،وصهلات خيولهم المجلجلة،حيث تمتزج صيحات الفرسان مع طلقات البنادق مُشكِّلة سيمفونية أمازيغية جميلة،تزيد المنظر جمالا على جمال. كما أن فرق أحيدوس،بمواويلها التقليدية الجميلة، تعبر عن نخوة وفحولة ياث يزناسن... هاهو الصباح قد أشرقت بسمته،وراقت نسائمه،لاستقبال المشاركين من كل حدب وصوب،لاختيار أجمل عنزة زناسنية.تقليد جميل،لو تعدَّاه لانتقاء أجمل فارس أو أجمل عروس ولِمَ أجمل حمار،لمنح المكان قيمة تراثية وتاريخية ...فالجمال كالصدَفة موجود في كل شيء،فقط يجب أن يصادف من يُظهره للعيان... حضر الشيخ المدني المختص في تربية الماعز من قريته النائية،لابسا جلبابا زناسنيا جميلا،صنعته أنامل قروية،أتقنت الصنعة،فزادت الشيخ المدني هيبة وجلالا. بدا وهو يمتطي فرسه كأمير وسط رعيته،نزل من فوق فرسه فتم استقباله أحسن استقبال.توسط المجلس،في كبد الخيمة البدوية،ورحب بكل المشاركين،الذين يأملون في تتويج ماعزهم بأجمل ماعزة زناسنية...قبل البدء في المنافسة،تم تقديم جميع العنز المشارك في المسابقة السنوية،تعددت الأسماء وتنوعت الفصائل ،لكن ما أثار حنق الشيخ المدني تلك الأسماء الغريبة للماعز:جوليانا – موخيكا – سلومي – نِرمانا – سوسن – شهْدة...أسماء لم يألفها وهو صاحب مزرعة كبيرة للماعز،تصَنَّع الجَلَد وحاول إخفاء حنقه وغُصَّته،حتى لا يحس به أحد،لكن ما خفف عليه بُركان الغضب هو ذلك الشيخ الهرم العم حمودان، الذي ساق إليه عنزته الصغيرة والجميلة رغم هزالها،فسأله عن اسمها فقال له ببراءة اليزناسنيين: - ليس لها اسم وإن كان لا بد من لقب فاكتب اسم "ثغاط".وتعني العنزة ... نظر إليه السيد المدني وحياه بأمازيغية متقنة،فأعجب بلبسته التقليدية ورزته البيضاء،الملفوفة على رأسة بإتقان،وبلْغته الصفراء الملونة بنقوش زناسنية معبرة...وردد الشيخ اليمني بين شفتيه: - هذا ازناسني قح وغير مزور... ابتسم في وجه العم حمودان ،الذي أسرع في المغادرة مع عنزته إلى الخارج حيث ستُجرى عملية انتقاء أجمل عنزة... بعد عروض جميلة لفرسان التبوريدة ،وطلقات نارية في الهواء الطلق،اصطفت نساء أحيدوس لتُقدم مواويلها الرائعة ،المعبرة عن شموخ الرجل اليزناسني وعن كفاحه المستميت ضد المقاومة الفرنسية... كان حفلا بهيجا وجميلا حقا،تذكر من خلاله الناس تاريخهم وتراثهم ،الذي بدأ يندثر... أخيرا حان وقت إعلان النتائج ،تقدم الشيخ المدني بشخصيته القوية وأعلن فوز "ثغاظ بالرتبة الأولى،تفاجأ الجميع بهذه النتيجة،ووقع لغط كبير داخل الخيمة،فكثر القيل والقال،تقدم شاب في مقتبل العمر،لابسا شورطا وقميصا نصفيا، نحو الشيخ المدني وقال له: - كيف تم اختيار عنزة هذا الشيخ الهرم ...إنها هزيلة تشبه القط . - ضحك كل من كان في الخيمة لهذا الكلام،الذي يحمل بين ظهرانيه الكثير من علامات السخرية،لكن الشيخ المدني وبشموخ الكبار،بادرهم بصوته الجهوري الرزين: - يا أهالي ياث يزناسن،يارجال المقاومة الأشاوس،مالَكم تخليتم عن جلابيبكم ولبستم سراويل ضيقة ...ما لكم غيرتُم أسماءكم وأسماء ماعِزكم...لقد فضلتم الفل والسوسن والأقحوان عن فليو والشيح والعرعار والزعتر ...راقتكم البيتزا والهمبورغر والطاكوس وتخليتم عن الزميطة والصاكوك والكرموص...سميتم ماعِزكم بجوليانا وموخيكا وسَلومي ...وتنكرتم لعزة ومعزوزة ...لم يعد يستهويكم اسم المختار والجيلالي ويايثماس وحدهُوم والصافية... اُغربوا عن وجهي..لقد أسأتم لتاريخكم الجميل وتنكرتم لماضيكم التليد،فضلتم الاستنساخ عن الأصول،وهِمتُم كالنعامة ،لا زلتم تبحثون عن مشيتكم الحقيقية فلم تجدوها... وقد تتيهون أكثر إن لم تراجعوا أنفسكم... نعم "ثغاط" هي أجمل عنزة لأنها أصيلة وغير مزورة،وصاحبها أكثر أصالة منكم جميعا،عكَس حقيقة ياث يزناسن كما هي فاستحق التتويج،لأني شممت فيه وفي عنزته رائحة التربة اليزناسنية ...رائحة اللوز والهندية...رائحة البارود المنبعث من أعالي آلمو..وأحسست أنكم تنكرتم لتاريخكم وجلبتم لنا سلعا ليست من إنتاجكم "إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ،ما أنزل الله بها من سلطان"...ردَّدتْ جبال بني يزناسن صدى هذه الرسالة المؤثرة،فاستقبلتها أشجار الصفصاف والبلوط واللوز بكثير من الرِّضا والاحترام... ساد الخيمة صمت مطبق وكأن فوق رؤوسهم الطير،حملوا ماعزهم وركبوا سياراتهم وغادروا المكان مطأطئين هاماتهم دون أن ينبسوا ببنت شفة...
الحلقة العاشرة : عنزة العم حمودان في حضرة ابن المقفع
رَغْمَ اقْتِناصِها مِنْ طَرَفِ لاليجُو وَتَضارُبِ مَوْتِها مِنْ عَدَمِهِ، ما زَالَتْ عَنْزَةُ الْعَمِّ حَمُّودانْ تَظْهَرُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْأُخْرى في مُخَيِّلَةِ سُكَّانِ جِبالِ بَني يَزْناسَنْ، فَتارَةً تَظْهَرُ عَلى صَفْحَةِ الْقَمَرِ، وَتارَةً أُخْرى عَلى ظَهْرِ رَبْوَةٍ، وَأَحْياناً تُقَدِّمُ مُساعَدَاتِها الْإِنْسانِيَّةِ لـِمَـنْ يَحْتاجُها مِنَ الضُّعَفاءِ وَعابِري السَّبيلِ… أَسْئِلَةٌ كَثيرَةٌ تُرَاوِدُ النَّاسَ، وَتَحُثُّهُمْ عَلى تَتَبُّعِ خَطَوَاتِ هَذِهِ الْعَنْزَةِ الْـمِثالِيَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ رَآها تُصارِعُ الذِّئْبَ في الْغابَةِ الـْمُجاوِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَنَ هَرَبها نَحْوَ الْـجَزائِرِ وَأَنَّها مَا زالَتْ تُزاولُ دَوْرَ الْـمُقاوَمَةِ الْباسِلَةِ، وتُطْلِعُ الـْمُقاوِمينَ عَلى تـَمَوْقُعِ أَمْكِنَةِ الْجُنُودِ الْفَرَنْسِيِّينَ وَعَلى تَـمَرْكُزِ قَوَاعِدِهِمِ الْعَسْكَرِيَّةِ، كَما أَنَّها تُحاوِلُ لَمَّ شَمْلِ مُقاوَمَةِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ،وَتَقْريبُ الرُّؤَى بَيْنَ رٍجالاتِ عَبْدِ الْكَريمِ الْخَطَّابي وَفِدَائِيِّي الْأَمِيرِ عَبْدِ الْقادِرِ.. تَمَثُّلاتٌ كَثيرَةٌ تَناقَلَتْها الرِّواياتُ وَالْحَقيقَةُ تَبْقَى صَعْبَةَ الْـمَنالِ. كُتِبَ عَنْها الْكثيرُ مِنَ الْأَحاجي وَالْحِكاياتِ الشَّعْبِيَّةِ، وَأَصْبَحَتْ تُسْرَدُ في جَلَساتِ الـْحَكْيِ في كُلِّ مُناسَبَةٍ وَغَيْرِ مُناسَبَةٍ، وَلَعَلَّ آخِرَ حِكايَةٍ اِنْتَشَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ بِمُخَتَلَفِ أَعْمارِهِمْ وَما زالَتِ الْأَلْسُنُ تَتَدَاوَلُها، حِكايَةُ إنْقاذِها لِأَسَدٍ مِنْ مَوْتٍ مُحَقَّقٍ؛ إِذْ يُحْكَى أَنَّ صَيَّادينَ نَصَبُوا شَرَكًا لِلْحَيَواناتِ في الْغابَةِ فَاصْطادُوا أَسَداً وَقَعَ في الـْمِصْيَدَةِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ فَكَّ رِجَلَيْهِ مِنْها، سَالَتِ الدِّماءُ مِنْ سائِرِ جَسَدِهِ وَانْسابَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهِ انْسِياباً، وَأَحَسَّ بِأَنَّ كَرامَتَهُ قَدْ لُطِّخَتْ بِالدِّماءِ، عانى اللَّيْلَ بِأَكْمَلِهِ، كَما أن زَئيرَهُ لَمْ يُسْعِفْهُ عَلى جَلْبِ الْـمُساعَدَةِ... مَرَّتْ بِجانِبِهِ النُّمُورُ وَالثَّعالِبُ وَالذِّئابُ، وَلَمْ تَجْرُؤْ عَلى تَقْديمِ الْعَوْنِ لَهُ لِفَزَعِها الشَّديدِ مِنَ الْأَسْرِ.. فبينَما كانَتْ عَنْزَةُ الْعَمِّ حَمُّودانْ " مَعزوزَةُ " تَرْتَعُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ ، سَمِعَتْ أَنينَ الْأَسَدِ وَهُوَ عَلى شَفا الْـمَوْتِ، اِقْتَرَبَتْ مِنْهُ وَهَبَّتْ لِنَجْدَتِهِ ، فَتَمَكَّنَتْ بِفَضْلِ حِنْكَتِها وَبَسَالَتِها مِنْ فَكِّ عِقالِهِ وَأَنْقَذَتْ ماءَ وَجْهِهِ. فَرِحَ الْأَسَدُ كَثيراً بِهَذِهِ الـْمُساعَدَةِ الْقَيِّمَةِ، فَأَقامَ حَفْلاً كَبيراً عَلى شَرَفِها فَاسْتَضافَها وَأَهْدَاها صِفَةَ أَميرَةِ الْغَابَةِ، وَطَلَبَ مِنْها مُقَاسَمَتُهُ الرِّئَاسَةَ وَتَدْبيرَ شُؤُونِ مَمْلَكَتِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْعَنْزَةَ رَفَضَتِ الطَّلَبَ رَفْضاً قَاطعاً، وَفَضَّلَتْ أَنْ تَبْقَى وَفِيَّةً لـِمَبادِئِها، تَبْحَثُ عَنْ كُلِّ مَنْ يَحْتاجُ لِعَوْنِها،تُشَنِّفُ سَمْعَها بَيْنَ الْحينِ وَالْآخَرَ لِتَلْتَقِطَ صَوْتَ مَنْ يُناديها مُسْتَنْجِداً : وَا عَنْزَتاهُ !! وَا عَنْزَتاهُ !! فَتُسْرِعُ كَوَميضِ الْبَرْقِ في تَلْبِيَّةِ نِداءِ الـْمُسَتَنْجِدِ، وَتْقديمِ الْعَوْنِ وَالـْمُسانَدَةِ لَهُ… سَمِعَ ابْنُ الْـمُقَفَّعِ أَخْبَارَ هَذِهِ الْعَنْزَةِ الـْمِثالِيَّةِ، فَخَصَّ لَها مَكاناً آمِناً مَعَ كَلَيْلَةِ وَدِمْنَةَ وشَتْرَبَةَ، فَعاشَتْ وَسَطَ الْحَيَوَاناتِ تُعَلِّمُهُمْ ما خَبَرتْهُ مِنْ حِكَمٍ وَتَجارِبَ وَفَلْسَفَةٍ في تَدْبيرِ شُؤُونِ الْحَياةِ… وَنَجَحَتْ في بَسْطِ الْعَدْلِ وَالـْمُساواةِ وَالْاِنْسِجامِ بَيْنَ جَميعِ فِئَاتِ الـْمُجْتَمَعِ الْحَيَوَاِنِّي...