محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
قصص من الواقع
قــــــــائمـــــــة محتــــــويــــــــات الصفحــــــــــة يوميات مقبرة الفاجعة الرحلة الأخيرة أمّا خدوج....قصة واقعية ذيل الكبش فال خير علينا قصة اللقلق دبابة بني يزناسن B1 387 أنفاس من الماضي
يوميات مقبرة
بسم الله الرحمن الرحيم هي امرأة أربعينية أو تجاوزتها بقليل ، ملثمة كالنينجا ، تكتسي ثيابا رثة، يبدو أنها تعمل في الضيعات الفلاحية ، هادئة ومستكينة ، دخلت المقبرة باكرا، حملت معولا ، يبدو ثقيلا ،لكن إرادتها كانت أقوى من الفولاذ، وبدا المعول بين كفيها كريشة نعامة،لا تلتفت أبد إلى جيرانها،وكأنها تحاول استغلال كل ثانية من أجل كسب أكبر نسبة من الأجر .حتى الأكل والماء والتمر ،لم يعد يستهويها ، مترفعة عن ملذات الدنيا كلها. كلما اقترب منها مصور تدس وجهها في التراب...عجيب أمر هذه الحورية، حاولت فهم بعضا من خصوصيتها فلم أقدر...حرت في الأمر ، خاصة وأن عملها كان متقنا ومنظما ، عمل احترافي تتقنه ،مادامت ترتاد الموقف كل يوم ،من أجل إعالة أبنائها...فجأة رن هاتفها، إنها إحدى صديقاتها : السلام عليكم وعليكم السلام أين أنت؟ في مقبرة مولاي الطيب بحي السلام؟ ماذا تفعلين هناك ؟ أشارك في حملة للنظافة ماذا؟...ماذا ؟ ولكن لمعلم كيسول عليك لا يهم ، سخرت هذا اليوم لوجه الله ،لا أريد مالا.... سعداتك آ ختي ....والله إلى جاتني الغيرة انتهت المكالمة، حملت معولها ،وتابعت عملها في تؤدة ورزانة ،دون أن تلتفت لأحد ...وأنا أحاول متابعة عملي ،بدا المعول الذي بين يدي غريبا...سقطت دمعة حارة على حافة القبر ،وبدت لي إنسانيتي مجرد نقطة تائهة في يم شاسع.
الفاجعة
قبل بزوغ الفجر بقليل،تدثرت كنزة في عباءتها الرمادية،وتأبطت كيسا رثا ،به رقع كأنها بقع من البرص...ثم اندفعت بولدها نحو البركة المباركة...واو اللوت...وهي تتمتم...باركتك أللا واو اللوت ...كررتها عدة مرات،ثم تلتها بسورة الفاتحة...يا شافية ،يا كافية...ثم أغمست ولدها ،ذو الخمس ربيعا في جانب من البركة،بعد أن جردته من جميع ملابسه ...هكذا قيل لي...لكي يشفى ولدك من مرض التوحد...لا بد أن تحافظي على جميع هذه الطقوس وإلا فإن عيشة قنديشة وزوجها مسعود، سيغضبان غضبا شديدا...تذكرت كنزة هذه الطقوس دفعة واحدة كأنها شريط مسجل ..ثم أعادت غطس ابنها في جوف البركة مرة أخرى،لكن المفاجأة أن يد ولدها انفلتت من يدها،وهام في أعماق البركة ،والشمس ل ا زالت لم تفتح مقلتيها بعد...رمت بنفسها وراءه لعلها تدركه،لكن البركة ابتلعتها هي الأخرى... وتداول الناس قصتها يبكون ويتباكون إلى يومنا هذا،بل أضافوا لها أساطير أخرى ..إلا أن عيشة قنديشة وزوجها مسعود لا زالا يظهران بين الفينة والأخرى على صفحة البركة... يتبادلان الضحكات الصاخبة،مرددين...ماأغباك يا إنسان...تركت الشافية الكافية وعانقت البركة الدامية...
الرحلة الأخيرة
قصص من الواقع..............الرحلة الأخيرة... 9 أكتوبر 2016 في حي من أقدم أحياء مدينة بركان ،نشأ قويدر النگادي ، في حضن أسرة تقليدية، من أب معوز لا يكاد يوفر قوت يومه ، ومع ذلك لَفَّتْهُ أسرته بخيوط الحنان الحريرية، رغم شظف العيش وقلة الحيلة. لم يكن يرضى بإكراميات غيره ،إذ كان وهو الطالب الجامعي الجسور ،يعمل في عدة أعمال شاقة، ليوفر مصروفه اليومي ،بل تعداه إلى توفير حاجياته الجامعية ،من كتب ومطبوعات وكراء وتنقل .كانت أسرته تفتخر به ،وتقدره لرجولته و خفة دمه و يسر تواصله مع غيره ، مما جعل كل من في المنزل يتقرب إليه دوما للإستمتاع بنكته وألغازه ،فحتى أصدقاؤه كانوا يعزونه ويلتجئون إليه وقت الحاجة ،ليعد لهم رحلات ترفيهية أو رياضية، فصفته الجمعوية وتفتحه على جميع الناس، فتحت له آفاقا واسعة للاندماج في المجتمع بشكل إيجابي. كان اليوم يوم أحد ،اتفق الشاب قويدر مع ثلة من أصدقائه الذهاب إلى منطقة جبلية ،لاكتشاف مناظرها الخلابة والتمتع بسحر جمالها الأخاذ. أعد العدة لذلك، حمل معه الزاد والعتاد وطلب من أخيه محمد أن يوصله إلى المحطة في سيارته، ليستقل بعد ذلك سيارة أجرة مع أصدقائه للذهاب إلى زگزل، لكن أخاه محمد اعتذر ،فغادر قويدر المنزل متثاقلا يجر أذيال الخيبة ،لكن كله إصرار لقضاء وقت ممتع رفقة أصدقائه، والتخفيف من أعباء المقررات الجامعية السخيفة. لما وصل الشاب قويدر إلى منطقة زگزل الجبلية، رفقة أصدقائه ، أضرموا النار في الحطب ، وحضروا سفافيد الشواء ،وشرعوا في شوي اللحم الطازج ، والدخان يتطاير في السماء، مشكلا دوائر ضبابية ،كل من يراها من بعيد يحس بجمالية الصورة . لم يكن الشاب قويدر أكثر نشاطا وحيوية من ذي قبل ، صوته كانت تردده الجبال ، الكل كان يصغي إليه ويستمع إلى كلماته الواثقة من نفسها ، حتى غار الحمام، كان يردد صداها . فجأة رن هاتفه ،فأيقظه من غفوته الرومانسية. - ألو ، من المتكلم؟ -أخوك محمد - وياك لباس -لباس الحمد لله .فين أنت أخي؟ - أنا في زگزل - اقطع مكالمتك، سآتي إليك حالا من مدينة بركان -جيد جدا ، أحضر معك الماء والخبز. انتهت المكالمة أحس محمد ، وهو يكلم أخاه قويدر أنه كفر عن ذنبه ،إذ لم يقو على إيصاله للمحطة ، فأراد أن يلتحق به تعبيرا عن تضامنه معه،أحس وكأن جبلا من نار قد خمد داخل قلبه ،سارع بسيارته ،يشق بها عباب الريح للإتحاق بأخيه قويدر، لقد أحس بطول الطريق ،أو هكذا هُيِّئَ له ،تمنى لو أن له أجنحة الطير ، لطار إليه في أعلى الجبل ،ولسبق أنسام المساء إليه ...ربما حدسه قد أوحى له أمرا ما ،ولم يرد البوح به ،ولا تصديقه ،باعتبارها مجرد خيالات و تهيؤات شيطانية ،ولم يرتح باله إلا بعد أن رأى خيال أخيه قويدر من بعيد، وسط دخان كثيف ،متطاير في أعلى الجبل،إنه منظر رومنسي جميل ،يشبه مشهدا من مشاهد الكواسر، هدأ محمد من روعه و حمل هاتفه ثم اتصل بأخيه .... -أين أنت أخي قويدر؟ -في رأس الجبل ارفع رأسك للأعلى، أنظر فوق مغارة الحمام ،سترى دخانا متطايرا في السماء... -نعم ..نعم...إنني أراك وسط دخان كشبح...هههه..لكن لا أستطيع الوصول إليك. -لماذا؟ -لأني أخاف الأعالي.... -إذن سآتي حالا لأرافقك. -شكرا أخي قويدر، أنا بانتظارك فعلا،نزل قويدر من أعلى الجبل ،مزهوا بنفسه،كله حيوية ونشاط ،ورافق أخاه بتؤدة إلى قمة الجبل، أحس محمد بأن العالم كله بين يديه .صورة مثالية رائعة،رائحة الشواء تزكم الأنوف و كؤوس الشاي المنعنع تدور بين أنامل الشباب، لأول مرة أحس محمد بجمال اللحظة، ما أجمل أن ترى العالم من أعلى! كل شيء يبدو في حجم نملة، قهقهاتنا ترددها فجاح الجبال، حمائم تحوم حولنا، تؤرخ لهذا اليوم التاريخي،الشبان نحتوا رسومات ونقشوا أسماءهم على الصخور ، كذكرى خالدة، تعكس مدى الألفة التي جمعت بينهم في يوم من الأيام. ألم يخلد تاريخ بني يزناسن بواسطة النقوش و المنحوتات التي وجدت في غار الحمام ؟، ألم تكتشق أول جمجمة في التاريخ في هذا المكان المنعزل؟ فقد نكون يوما ما نحن أيضا محل دراسة من طرف أقوام سوف تأتي بعدنا، تحمل هَمَّ البحث والتنقيب ،متجاوزة تقاعسنا اللافت في البحث عن تراث بني يزناسن الأشاوس...الحاضر يجب ألا ينسينا ماضينا... في خضم هذه الذكريات المؤلمة، وبين هذه الأدخنة المترامية ،تستقر كنوز نفيسة .لكن جهلنا بقيمتها هو الذي ضيع علينا فرصة التمتع بها.هكذا كنا نناقش الأمور في غفلة من الزمان، ورائحة الشواء ، تثير فينا عدة أسئلة ...هل فعلا هنا اكتشفت أول عملية إشعال للنار؟...فلندع كل هذه التساؤلات معلقة لذوي الاختصاص، ونرجع لهذه اللمة الرائعة، التي حاولت سرقة لحظات المتعة من بين براثن زمن غادر، شباب بسطاء ، يحاولون تحدي الفاقة والعوز لقضاء لحظات مميزة في غفلة من الزمان. لقد تم توزيع المهام على الشباب بدقة متناهية، كل فرد يهتم بالمهمة التي خصصت له، في نظام واتزان ،ومع ذلك فالمزاح والترفيه كانا حاضرين ، مما جعل الشباب يضحكون من أعماق قلوبهم، ما أروع أن يتعايش أبناء حي سالم بهذه الطريقة ،تعايش من المهد إلى اللحد...لكن فجأة ، توقف الزمان و سمعت صرخة عارمة، رددتها فجاج الجبال ، وسمع نعيق الغربان فوق أشجار الصنوبر، توقفت كل القهقهات ، وتسمرت الأرجل للحظات في أماكنها، قبل أن يسمع دوي أحد الأصدقاء رعدا مزمجرا... _لقد تعثر وسقط من أعلى الجبل؟ _من؟ _ قويدر -قويدر النگادي _أخوك ..... لم يحس محمد بنفسه ،إلا وهو يشق الصخور شقا ،يلقي رجليه بين فج وفج ،متناسيا فزعه من المناطق الشاهقة ...تبعه كل الأصدقاء ...الكل مصدوم ، الكل يدعو الله أن يحفظ أخاهم قويدر ويخفف عنهم العاقبة....لكن لما وصلوا إلى حافة الجبل ،وجدوا الناس متحلقين حول قويدر، يبكون وينتحبون، محمد دخل في لحظات هستيرية، و كاد يغمى عليه من هول الصدمة، قويدر ينزف...ينزف جروح غائرة وكسور في سائر الجسم ،دماء تسيل من رأسه...رباه ! اللهم الطف بنا يارب! هكذا كانت كل الأفواه تردد مرتجفة ، نساء ورجالا، شيبا وشبابا ..سيارة الإسعاف قادمة....ما أثقلها ، ساعة كأنها دهر...هكذا خُيِّلَ لمحمد وهو يحاول الإبقاء على توازنه،لما وصلت سيارة الإسعاف مخترقة جبال بني يزناسن، حملته في جوفها وانطلقت به لمستشفى الدراق بمدينة بركان.ركب محمد سيارته ،التي لم يعد قادرا على قيادتها ، إذ تكلف بسياقتها أحد المتطوعين.في الطريق ،هاتف محمد أخاه منعم ليخبر باقي الأسرة ، وطلب منهم الحضور إلى مستشفى الدراق .انتشر الخبر في حي سالم العتيق انتشار النار في الهشيم،إذ لم تأت العائلة بمفردها للإطمئنان على قويدر ،بل حج أبناء الحي قاطبة لزيارة جارهم ...وألسنتهم تلهث بالدعاء للشاب المحبوب...بعد لحظات اخترقت سيارة الإسعاف المتجمهرين ،أخرج منها الشاب قويدر وأدخل قاعة الإنعاش ، لكن لم تمر إلا دقائق حتى انتشرالخبر اليقين...مات قويد...مات الرحالة اليافع، لقد كانت هذه آخر رحلة يستنشق فيها هواء بني يزناسن، عاش عاشقا لجبالها ووديانها ومات بين أحضانها .وتم إغلاق آخر صفحة من رحلاته....لم ييتبق إلا منحوتاته على صفحات الصخور، ذكرى للرحالة ، ليعلموا أن شابا مر من هنا....ورحل عنهم دون وداع ... رحلة اللاعودة... رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. إنا لله وإنا إليه راجعون.
…..….أمَّاخدُّوجْ……قصة واقعية..…...
رغم تجاوزها الستين ،لا زالت ذاكرة أمَّاخدُّوجْ فتية ، تستعيد ذكرياتها القديمة أيام الصبا ، بتفاصيل دقيقة ، كأنها تنسجها بمنساج صوفي ، شريط من الذكريات ، يمر أمام عينيها ، تردده، كأنها تحكي فيلما وثائقيا ، كانت في كل مرة تغمض حبيبتيها، وتسترسل في القص ،بنفس الحماس ونفس الوتيرة ، الكل يتفحصها بعينيه ، ويصغي إليها باهتمام بالغ .خلال هذه اللحظات الصوفية ، لا يمكنك التحكم في أذنيك ، فهما رهينتان عند أمَّاخدُّوجْ .كم كنا نشتاق لسماع أحاجيها ، خاصة وأن العولمة لم تكن قد أسرتنا بعد بهواتفها الذكية ، وأغرقنا بقصتها المدبلجة….ما أعظم أن يستمتع المرء إلى حكايا أصيلة ومن عمق التاريخ ، حكايا ممزوجة بحنان الأم ، حيث كانت أمَّاخدُّوجْ تسترسل في الكلام استرسالا ، ويدها فوق رؤوسنا ،تداعب شعرنا برفق و لطف ، هو السحر إذن يمتلكنا ويغرقنا في ملكوت الأحلام ، دون أن نفكر في الطريقة التي نستجدي بها النوم… هكذا كنا دوما ، نتحلق حول المرجل ، ندفئ سيقاننا ، وننعش أجسامنا بالكرموس المغمس في الزميطة ، مع كؤوس مشحرة من الشاي المنعنع ، الكل ينتظر آذان العشاء ، فبعد الصلاة مباشرة تبدأ شهرزادنا في القص ، قصص ملتصقة بالأرض، عايشتها بحواسها أمَّاخدُّوجْ ورسمت في ذاكرتها خدوشا لا تنمحي أبدا ، كثيرا ما كانت تردد بين شفتيها ، لو كنت متعلمة لكتبت مجلدات عن قصص بني يزناسن الأشاوس ، لكن من المؤسف أن تاريخنا نخبوي وليس شعبوي ، ضاعت الكثير من الأحداث هباء منثورا ، ولم نعد نسمع عن عام البون ولا عن عام الكوليرا والطاعون وما إلى ذلك من حكايا المداشر والدواوير… ما أن ختمت أمَّاخدُّوجْ صلاتها ، حتى تحلقنا حولها ، كل يتوسد إحدى ركبتيها ، و الثالث يستقر في حجرها ، تصلي على النبي المختار ، و نردد معها سويا كان ياماكان في قديم الزمان …. يسكت الجميع ،ويعم الصمت المطبق المكان كأن على رؤوسنا الطير، وتستهل حكايتها دوما بما يلي : أبنائي بناتي…. حدث هذا ذات فصل شتاء في أربعينيات القرن الماضي ببني موسي الرْوا ، المنطقة التي تبعد عن سيدي بوهرية بحوالي 8 كلم. سقطت الثلوج لمدة ثلاثة أيام متتالية حتى أصبحت الأرض تكتسي حلة بيضاء ،لا يظهر منها إلا الأشجار وجدران المباني العتيقة ذات اللون الترابي، والتي لم تعد قادرة على استقبال المزيد من هذا الزحف الأبيض ، مما أثار فزع السكان و تنبأوا بالأسوء… كنا نلعب، نحن الأطفال، قرب شجرة تين عظيمة ، فرحين مزهوين بهذا الضيف الجميل. نتراشق بكويرات الثلج ، وننشد أغان أمازيغية خالدة ، كانت تبث الحمية والحماس في المقاومين اليزناسنيين فترة الإستعمار ، هدوء تام،لا أحد يتحرك، حتى الكلاب تسمرت في أماكنها ،ترتعد من شدة البرد ، والدجاج انحشر في خمه ، متلذذا بنقرات الثلج المتناسقة ، سمفونية طبيعية قل نظيرها ، السماء داكنة اللون ، وزادها حلكة تلك الأدخنة المتطايرة من مداخن المنازل بحثا عن الدفء ، مسالك الراجلين لم يعد لها أثر، مما صعب من تحركات أهل الدوار. فجأة ، وعلى مرأى أعيننا رمقنا رجلا مترجلا ، يمتشق عصا ، يحاول شق طريقه بين الثلوج المتراكمة على صفحة الجبل ، تغرق رجلاه مرة وتظهر ثانية ، وهو يلوح لنا بعصاه ، لم نفهم ما يريد قوله ، توقفنا عن اللعب ، تسمرت أعيننا اتجاهه ...وفجأة سمعنا صراخا مدويا ثم اختفى … أسرعنا الخطى لإخبار أهالينا، وما هي إلا بضع دقائق حتى اجتمع أهل الدوار للبحث عن الرجل المفقود. لقد سقط المسكين في مطمورة عميقة .وبعد عملية إنقاذ مضنية، أخرج الرجل وهو يرتجف من قساوة القر، سمعنا أسنانه تصطك ،غير قادر على التفوه بكلمة واحدة . لُف في جلباب صوفي زناسني قح ،ليحمل على الأكتاف إلى أحد البيوت المجاورة. فتم استبدال ملابسه المبللة بملابس دافئة ، وتم إضرام نار قوية ، وصل لهيبها إلى سقف المنزل ، وضع الغريب أمامها ، وتم منحه بركوكش بالكليلة والسمن الحار، وبعد بضع دقائق، استرجع أنفاسه ، وبدأ ينظر يمنة ويسرة ، لا يدري ما وقع له ، اتجه صوب الشيخ ميمون بن بوعرفة وقال له : _أين أنا ...ماذا وقع لي … _لقد كدت تفقد روحك...لكن الله لطف بك...والفضل كله يعود لهؤلاء الأطفال… _ اقترب مني وقبل رأسي قائلا : ربي آشون يحفظ ...قريب أذدجغ إرباين إينو ذييوجيلن… _حمدا على سلامتك سيدي ،لقد ولدت من جديد… حفظكم الله جميعا ، ما أعلمه عن أهالي ياث يزناسن قد تحقق فعلا، وتأكدت منه بنفسي :كرماء، يكرمون الضيف ويأوون عابري السبيل و يحمون المستجير …سأغادركم الآن ،فأبنائي قلقون علي وينتظرون قدومي على أحر من الجمر...سقطت دمعة حارة من عينيه وهو يردد هذه الكلمات...فأحسست حينذاك أني قمت بعمل جليل ، لعله يكون لنا عتقا من النار يوم تسود وجوه وتبيض وجوه... أبنائي ….بناتي….انتهت الحكاية….وحان وقت النوم…. محاجيتي مشات الواد الوااد وكلاوها لجواد...والله يجعل أيامكم كلها أعياد...
ردود الإخوة الأفاضل حول القصة أعلاه
ذيل الكبش فال خير علينا
قصص من الواقع ذيل الكبش فال خير علينا !!؟؟ اقترب عيد الأضحى ، شمر السي حماد على ساعديه ،وبدأ يعد الدراهم المخبأة في وسادته ...أوراقا نقدية ونقودا نحاسية وفضية ، وضعها في كيس صغير واتجه نحو السوق الأسبوعي لشراء أضحية العيد...ودع صغاره ، الذين بدا على صفحة وجوههم علامات الحبور ،وقبل التوجه للسوق عرج على زوجته ، التي كانت تعد الغذاء في المطبخ لتوديعها ، لكنها استوقفته ،وخطبت فيه خطبة طويلة عريضة ، فذكرته بجميع أنواع الأكباش ، وعلى رأسهم الصردي وفصيلة بني گيل والظهرة و تمحضيت ..و...، وختمت كلامها بوصية أخيرة واضحة وغير مشفرة: -عندك تجيبلي شي كبش قل من ديال جارتنا السعدية...خس يكونو گرونو دايرين زوج دورات ، ؤ عالي ...مين تشوفو تگول سبع…والتبعبيعة يسمعوها من راس الدرب… طأطأ حماد رأسه ، ثم ابتلع ما تبقى من ريقه ، واندفع كالثور المجروح نحو الخارج ،وقف شعر رأسه لهول الحدث ، وبدأت نبضات قلبه تضرب بسرعة غير معهودة ...تمتم بكلمات غير مفهومة واتجه إلى السوق مهرولا...لا يلوي على شيء…. حين وصل إلى الرحبة ،بحث عن أكبر أضحية ، لكن المال الذي كان بين يديه غير كاف ، خاط السوق بأكمله ،طولا وعرضا .. وفي الاخير استقر رأيه على كبش ارتاح له ،استقل عربة تقليدية وأحضره إلى المنزل . ما أن ولج عتبة بيته ،حتى سمع صوتا مزمجرا ،كاد يحرق وجهه : -ما هذا الخروف الذي أحضرت لنا ، أتريد أن أكون حديث الجيران ...أتريد أ ن تجعلني سخرية للخالة السعدية....أقسم بالله لو لم تغيره حالا لما بقيت دقيقة واحدة في هذا المنزل… ألقى الزوج بجثته على عتبة المنزل ،وبدأ يفكر في حل ،يعالج به هذه المشكلة العويصة ، فكر مليا في أبنائه الصغار ،الذين تسمروا في ركن البيت خوفا من عقاب محتمل.. نهض متثاقلا ، فقصد أخاه ليقرضه بعض النقود ، ثم تابع سيره نحو السوق ، حاملا كبشه بين يديه...باعه بأقل ثمن ، وحاول البحث عن أكبر كبش آخر في السوق ، كبش أقرن ، جثته كجثة حمار ، وجسمه برميل بارود…ولا يهمه إن كان لحمه طريا أو تجاوز السنة… اطمأن للكبش واطمأن الكبش له ، وأحضره على سبيل السرعة للمنزل ،لما رأته زوجته قادمامن بعيد ،بدأت تزغرد وتزغرد..خلطت الحناء مع ماء الزهر و صبغت رأسه و قرونه ، فبدا الكبش أنشط .. وبدأ يبعبع بصوت جد مرتفع ،خرج جميع الجيران فكبروا وهللوا لعظمة هذا الكبش الأسطوري...الكل بدأ يتكلم عن كبش لالة الباتول…والباتول ببلوزتها الوجدية ، بدت كعروس ليلة عرسها...الأرض رغم شساعتها بدت تحت حافريها جد ضيقة... في ليلة العيد اقتربت لالة الباتول من الكبش ،لتتملى بطلعته البهية ، قبلته بين عينيه ، وبدأت تكلمه و" تلغي " معه بكلام مبهم ...فجأة ثار الكبش فأرادت الهرب فلحقها بنطحة قوية أسقطها أرضا ، ثم كسر وركها فباتت في المستشفى متألمة متحسرة .قضت يوم العيد وحيدة بين أسرة فارغة .أجهشت بالبكاء ، وندمت ندما شديدا ، إذ اعتبرت الواقعة عقابا من الله سبحانه وتعالى لها … ومن تلك اللحظة لم تعد تتدخل في شراء كبش العيد ، ولم تعد تكترث لما يقوله الجيران...فعاشت حياة سعيدة مع أبنائها وزوجها...أما الزوج فقد حمد الله وشكره على هذه الواقعة ، وللذكرى علق ذيل الكبش في المطبخ ، فال خير عليه وعلى أسرته…
حسن بريش : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. ربما كره حماد ذلك الكبش لكنه كان خيرا له في قادم الأيام. دمت متألقا أخي محمد. لطيفة الناجي: سرد جميل وكأنني أقرأ أحجية تبدأ ب كان يا مكان...تنتهي بدرس أو موعظة. جميل جدا تسلسل الأحداث والنهاية المباغتة أجمل. سلم القلم الفياض.
قصة اللقلق
في غابر الأزمان وفي مدينة بركان،كان يسكن سيد لقلق بجانب باحة جميلة،ماؤها زلال،خضرتها تسر الناظرين ومنظرها يغري الزائرين،يقابل الساحة قنطرة تاريخية، توحي بمرور دبابات الفرنسيس من هنا، وتعتبر القنطرة ممرا رئيسيا نحو معقل سيدي سليمان ...أكليم والشويحية… كان سيد لقلق مزهوا بهذه المناظر الخلابة ، وما زاد من قدسيتها الاحتفال السنوي بالولي الصالح سيدي أحمد أبركان...والتجمع اليومي والاسبوعي لساكنة المدينة مع الضواحي في سوق رحب ،لا زال سيد لقلق شاهدا على عمليات البيع والشراء التي كان يعقدها الباعة والمبتاعون هناك...لا زال شاهدا على الجلسات الحميمية بيت ساكنة القرى والمدن… حتى الحمير والبغال كان لها نصيب من اللقاءات الحميمية ، فكم من تلاقح تم عقده بين الدواب والطيور ،كانت ساحة سيدي أحمد أبركان مسرحا لها...هكذا استرجع سيد لقلق شريطا رائعا من الذكريات الجميلة ...تذكر خلالها كيف عشق لقلاقته بمجرد أن بنى لها بيتا من القش...فقررت العيش معه للأبد… ضحك اللقلق وقال لزوجه: -أتتذكرين يوم زفافنا… ابتسمت لقلاقة وقالت له: -نعم ...كان الجو جميلا جدا ...والسهرة رائعة في الساحة… لقلق:- صحيح...لا زلت أتذكر أغاني الشيخ احمد ليو والشيخ عبد الله المكانة ...كان عرسا تاريخيا… لقلاقة:- لكن دوام الحال من المحال زوجي الجميل… سكت سيد لقلق برهة من الزمان،زفر زفرتين حارقتين وواصل كلامه كأنه يعيد شريطا مؤلما: كل شيء انتهى...في يوم كئيب وفي صباح باكر ،سمعنا هدير محرك عملاق، أطللت من عشي والنوم لازال يغالبني فإذا بي أرى جرافة عملاقة تجرف الأخضر واليابس،لم تسلم منه حتى ساحة لحلايقية والتجار...ساعتها بكيت أنهارا وبحارا وصرخت بكل ما لدي من قوة...لكن لا أحد سمعني...حتى واد شراعة تنكر لي ...فقط جبال بني يزناسن هي التي رددت صدى صرخاتي...أحسست بجذع الشجرة يتحرك يمينا وشمالا ...طرت عاليا ...نفذت بجلدي إلى مكان آمن...وحين عدت بعد أيام وجدت الاسمنت قد زحف على الساحة والتهمها التهاما...فاحتلتها السيارات والعربات ، ومن يومها لم يهدأ لي بال ولم يغمض لي جفن… من يومها ،حرصت على العيش عاليا ...عاليا...حتى لا أسمع ضجيج وصخب حفدة هولاكو...لقد استعمروا أراضينا ولم يبق لنا شيء في هذه الدنيا إلا الفضاء بيتا آمنا لنا…
دبابة بني يزناسن 387 B1…….
لم أكن يوما ما أحلم بالعيش في بلد الأنوار، ولم أكن أتخيل أنني سأحمل الجنسية الفرنسية ، لأصبح مزدوج اللغة والفكر ، لكن ما حصل قد حصل ، بل الأدهى والأمر أن أبنائي تفرنسوا ، وأصبحوا يتقنون لغة موليير ، ويتلعثمون حينما يحاولون التحدث بلغة الجاحظ ، ويلحنون حينما يحاولون التواصل بعامية عبد الرحمان المجدوب …مفارقة عجيبة عشتها ولا أزال أعيشها في بلاد الغربة ، خاصة وأنني تجاوزت السبعين ، ولا أزال أمارس حياتي العادية كمتقاعد في بلد أعطاني الكثير ، ومع ذلك لا زلت متعلقا ببلدتي ، وبطقوس الشاي المنعنع في المقاهي الشعبية في بلدتي، بل همست يوما لزوجتي قائلا: ما رأيك لو عدنا أدراجنا لبلدتنا ؟ ربما أصابك الخرف...أأترك أبنائي وبناتي هنا وأذهب معك ...محال...بل مستحيل… - أحس أنني كالنخلة التي تم نقلها ألى مكان رطب ….أحس بالاختناق…لقد طفح الكيل ... - لا يمكنني العودة ….وأنا في هذه السن المتقدمة...مع كامل الأسف... - على كل حال ، أوصيكم بدفني في بلدتي الصغيرة ، أريد أن أنام قرير العين في جوفها بعد مماتي. ما أجمل أن يعيش المرء على ماضيه ، به يزود طاقته، بالرغم من شظف العيش الذي كنت أعيشه ، ورغم الاستغلال الفاحش الذي عانيت منه في طفولتي في حقول النوار بضواحي مدينة بركان ،إلا أنني أعتبرها ذكريات قوت عزيمتي ورفعت معنوياتي للبحث عن سبل أرحب ، أضمن بها مستقبلي ومستقبل أولادي…. كانت ليلة ظلماء ، على شاطئ قابوياوا ، وعلى متن مركب صغير ، تم زجنا كالخرفان ، لنعبر قارة السود في اتجاه قارة البيض، تذكرت قولة طارق العظيمة ...البحر من ورائكم والعدو أمامكم، لكن هذه المرة ألقينا جميع أسلحتنا في البحر، وخذلنا طارق بن زياد ، معذرة….إننا نحاول البحث عن غد أفضل …هي رحلة حياة أم موت ،مع هامش الفوارق بين رحلتنا ورحلة جنود طارق… كانت معاناة مريرة وقاسية ، أتذكر أنني نطقت بالشهادتين ثلاث مرات ...لكن الحظ حالفنا ، ووصلنا إلى بلد الجن والملائكة ، كما سماها طه حسين،ولقد تخبطنا خبط عشواء لسنوات عدة ،حتى استقام سبيلنا و حصلنا على إنسانيتنا بعد اعتراف الجهات المختصة بقانونية تواجدنا على أرضها ،لقد عشت غريبا بين برج ايفل وحدائق لوكسمبرج….، وكلما تذكرت الكتبية أو القرويين ،تدمع عيناي ، لن أخفي عنكم سرا ، فرغم تحسن أحوالي المادية ، لا زلت أحس بمرارة العيش هنا، فرغم شساعة الشوارع ، قلبي يزداد ضيقا و حسرة ، فكلما حاوت البحث عن آفاق جديدة ، أجد نفسي تائها بين ماض يأسرني ومستقبل يستهويني و يكبل رجلاي ، ماذا عساي أفعل ؟ ماذا يفعل ازناسني حر أما هذ الزحف العارم للعولمة الموحشة، التي غيرت طريقة لبسنا و نوعية أكلاتنا ، من البيتزا إلى الهامبورغر إلى بانيني....حقيقة تشوقت للتشيشا والزميطة والرفيسة والصكوك، هذه المدنية الموغلة ، غيرت حتى أحاسيسنا فلم نعد نتكلم عن الوعدة والتويزا وصدقة سيدي ابراهيم ...فكلما حاولت التحدث عن هذه الأشياء أمام أبنائي وحفدتي ، يميلون عني ويسرعون في تركي وحيدا أردد حكاياتي للحيطان الجامدة...لا يدرون أن عزتي في مربع ولادتي و كرامتي في بلدتي الصغيرة ، قلبي لا زال معلقا بأطلال لقوير والهندية…حاولوا إعطائي فرصة للحديث اليكم أحبائي ، فأنتم آخر من سأطرق أبوابه ….أعيروني آذانكم الصاغية من فضلكم...وإلا سأنفجر... في سبعينيات القرن الماضي ،بيننا كنت أتجول في شان جليزي، وهو أكبر شارع فرنسي ،رمقت سوبر ماركت كبير ، فولجته ، لعلي أجد بعضا من راحتي ، بعد تعب شديد ، رحت أخيط سراديبه ، يمنة ويسرة ، فوجدت كل ما بالمركب التجاري عاديا جدا ، إلا شيئين اثنين ، قارورة عطر مكتوب على صفحتها (بركان) بالفرنسية ، فتحتها لأشم رائحتها ، فكدت أقع أرضا ، لا لقبح أريجها وإنما لأنها ذكرتتي بالأيام الخوالي التي قضيتها بحقول السيكور ، فرائحة الياسمين رغم جمالها عند البعض ، بدت لي كرائحة (بوربح )، أغلقت القارورة بإحكام ، عاودت التنفس من جديد ، حتى استقامت قصبتي الهوائية ، رفعت يدي اليمنى فوجدتها كما كانت ، دون سبابة ، فحاولت تجاهل الأمر ، وعدم تذكر قصة البتر هذه ، قصة لا زمتني وستلازمني إلى آخر رمق في حياتي ، ولعل كل من يعرفني عن قرب ، لا يجرؤ على استعمال العطر بجانبي ، هي عقدة الجاسمين ، فرغم رائحتها الزكية ، لا يمكن أن تنسيني مأساتي ومآسي العديد من ضحايا الاستغلال مثلي...أتذكر جيدا أنني كدت أدمر ليلة عرسي لأني شممت رائحة الياسمين في عروسي...كانت ليلة سوداء …. أما المثير الثاني فهي قارورة الخمر، التي نقش عليها اسم بني يزناسن ، رفعت قارورة الخمر هذه إلى أعلى ، حاولت قراءة كل ما كتب على وجهها المحمر ، فانفلتت من بين يدي ، فتدفق لون أحمر قان كالدم على الأرض ، فتلطخت رجلاي ببقع حمراء ، وكأنها تريد ترك بصمة على هذا اليزناسني الحر... لم تثر البقع الحمراء عصبيتي بقدر ما أثارني الإسم المنقوش عليها...بني يزناسن...خمر بني يزناسن...لا وألف لا ...لا أريد أن تلصق صفة النذالة ببني جلدتي ، ولا أريد أن يختزل تاريخ بني يزناسن في قنينة خمر...خرجت للتو من السوبر ماركت ساخطا ، وهمت بذاكرتي بين جبال بني يزناسن الشامخة شموخ أهلها ، فناديت بأعلى صوتي وسط شارع شان جيليزي ...واااا بوزعبلاه ! وا فوغالاه ! … وتذكرت للتو الدبابة الفرنسية التي كتب عليها اسم بني يزناسن ، رمز النخوة ، و شعار الرجولة والفحولة...بحثت عنها في أروقة وأزقة باريس زقاقا زقاقا ،فلم أجد لها أثرا ، لكن هديرها المرعب، لا زال يزمجر في أذني ليخبر جسر بونيي ، أن رجالا أشداء أشاوس ،مروا من هنا ، فأهدوكم الحرية و كسروا أغلال العبودية من على أرجلكم ، وسيبقى الرقم 387 B1هو القن السري لأهالي بني يزناسن لفتح باريس وضواحيها...
أنفاس من الماضي
نوسطالجيا الأحياء الشعبية أنفاس من الماضي في تمام الأربعينات، كان الحاج رابح يعيش في جبال بني يزناسن الشاهقة، رفقة أسرة مكونة من ثمانية أفراد، ستة ذكور وامرأتان. وبما أن فرنسا الاستعمارية كانت تسعى لتركيع قبائل بني يزناسن، جابَهَها رواد الجبل بكثير من المقاومة والأنفة، وتم اعتقال الكثيرين منهم وزجهم في السجون ظلما وبهتانا، بل كان لاليجو يهاجمون القبائل ويطالبونهم بتقديم ما لديهم من خراف ودجاج وحنطة وعسل وحليب وسمن… كان الحاج رابح رجلا شجاعا وذا همة، ربى أبناءه على الشرف والكرامة والرزق الحلال، كانوا يزرعون أراضي أنݣاد الشاسعة حبوبا، مستعملين المحراث الخشبي، الذي يجره بغلان أو حماران، وفي فصل الصيف يحصدون ما جادت به يد الرحمان، ويحملونه على ظهر الدواب من أنݣاد إلى بني ميمون. كان الأمر شاقا جدا، خاصة وأن الوسائل المستعملة كانت بدائية، ولا تفي بالغرض، ومع ذلك كان الخير وفيرا رغم شح الأمطار، وكان جدي رحمه الله يقدم "لعْشور" في البيدر، قبل وضع الحبوب في المطامر، والغريب في الأمر أن الأسرة ظلت مجتمعة، رغم زواج البعض، وظل جدي هو المتحكم في كل شيء، ولا صوت يعلو على صوته، لهذا كانت القاطرة الأسرية تسير بتؤدة وحكمة، والجميع يرضخ لأوامره ونصائحه، رجالا ونساء، شيبا وشبابا… ومن حسنات هذه اللمة أن جدي كان "امْقدم" وجدتي"امْقدمة"، يأتي الفقهاء والمريدون كل جمعة فيقرؤون القرآن ويرددون الأمداح، مع كؤوس الشاي المنعنعة… هذه القيمة الدينية جعلت من جدي رجلا مهابا ومحترما، وقراراته يتم قبولها بشكل عفوي… ومن أبناء الحاج رابح عاشور، زوجه جدي وهو لا يتعدى العشرين سنة، وزوجته لا تتعدى الستة عشر سنة، مُأْتَمّين بتقاليد القبيلة التي تشجع على تزويج البنات والشباب في سن مبكر، كما أن قرار الزواج لا يتحكم المتزوجون فيه، وإنما هو قرار من رب الأسرة ولا يجب معارضته، فهو الذي يعرف الأسرة المناسبة، التي يمكنها الاندماج بسرعة مع قوانين القبيلة والتقاليد الأسرية .. تزوج عاشور حليمة، وتم ذبح ثور كبير وقدم لحمه للضيوف مع الحمص والزبيب والبصل، وتم ارفاق المأدبة بكؤوس اللبن الطازج… وحضرت كل القبائل المجاورة لهذا الحفل البهيج، لبست فيه العروس الحايك، وتم تغطية وجهها وشعرها وسائر جسدها، كما قُدمت رقصات الصف اليزناسنية التليدة، ولم يخلُ الحفل من التبراح والزغاريد… لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، بعد مدة يسيرة من الزواج تم اقتياد الزوج عاشور إلى السجن من طرف لاليجو، لأنه كان منخرطا في صفوف المقاومة اليزناسنية، وبقيت زوجته التي لا تتجاوز الستة عشر سنة رفقة العائلة الكبيرة، تم تكليفها برعي العشرات من الأغنام والماعز، ولقد عانت كثيرا جراء ذلك، خاصة وأن المسالك الجبلية صعبة والطقس كان باردا جدا علاوة على هطول الأمطار الغزيرة والوحل المترامي على بعض المدرجات…والأدهى والأمر أن الألبسة كانت مفقودة، ولا تتوفر على نعال تقيها قر الثلوج المتهاطلة طيلة فترة الشتاء… عانت حليمة كثيرا، وتحكي أنها كانت ترجع أحيانا وقد أسدل الليل ستاره، ورجلاها كلها أشواك، كانت أختها الكبرى فاطنة هي التي تقوم بتنقية رجليها معتمدة تارة على أظافرها وأخرى على أسنانها… ذات مساء سُمع طرق قوي على الباب، أسرعت حليمة بفتحه، فإذا بزوجها واقفا أمامها يرتعد من البرد، أدمعت عيون الشابة الصغيرة ، استقبلت زوجها بابتسامة بريئة، وأسرعت في إخبار الجميع، اِلتمَّت الأسرة حوله تعانقه وتسائله، لكن الحاج رابح سارع إلى إشعال النار ليتحلق الجميع حولها احتفاء بعاشور، ودون مقدمات قال الحاج لابنه الذي كان مطأطِئ الرأس: -"ارفع رأسك راك ماشي مجرم…راك كنت فالحبسْ من أجل بْلادك".. هيأت النساء بركوكش بالسمن الحار، وقدم للضيف كوجبة أولى من أجل تدفئته وتسخين عظامه… هكذا عاشت العائلة الكبيرة للحاج رابح، متآلفة متضامنة، محافظة على تقاليدها القبلية، محبة للخير، مدعمة للمقاومة بالعدة والعتاد…ويشهد التاريخ أن رجال ونساء بني يزناسن، كانوا يسكبون دماءهم الطاهرة على أرضهم، لا يريدون لا جزاء ولا شكورا… وبعد تضحيات جسام تم الحصول على الاستقلال برجوع محمد الخامس لحضيرة البلاد، ففرح المغاربة جمعاء باندحار المستعمر الغاشم، ولا زالت حليمة تتذكر أنشودتها الخالدة، التي كانت تتغنى بها رغم أنها أمازيغية ولا تعرف القراءة والكتابة: يا ملك المغرب …يا ابن عدنان الأبي نحن جند للفدا …نحمي هذا الملك عرش مجد خالد…ماجد عن ماجد قد بناه الأولون…في شموخ الفلك نحن لا نبغي به….معدلا عن حزبه إننا من نحبه كلنا في ظله…دائما نفديه خلال الستينات، أصبح العيش في جبال بني يزناسن مغامرة كبرى نظرا لنضوب المياه وقساوة الطقس وصعوبة المسالك، علاوة على نقص حاد في المدارس من أجل تعلم الأبناء، ففضلت عائلة الحاج رابح الاستقرار في مدينة بركان، في حي سالم تحديدا، حيث كانت الجدة تمتلك أرضا فقسمتها على أبنائها، وأخذ كل واحد نصيبه ليبني فوقها منزلا من الطوب والخشب والقصب… والغريب في الأمر أن المنازل كانت مصطفة الواحدة تلو الأخرى،حيث ترك كل واحد بابا مفتوحا نحو المنزل المجاور، ولم يتم غلقها إلا في بداية السبعينات، حين كبر الأبناء والبنات، وتم تغيير البنايات بأخرى اسمنتية، فتغيرت معها كثير من الأشياء، تقلصت العلاقات الأسرية، خاصة بعد تفكيك جماعة "الفقْرا ولَفْقرات"، وموت الجد والجدة، لأنهما كانا نقطة المركز والمحور الذي تدور حولهما كل العائلة الكبيرة… أما نحن الأطفال، فقد كبرنا في حي سالم وكنا أكثر حظا منهم، حيث استطعنا التعلم والعمل في مهن شريفة، رغم أننا عايشنا المرحلة الانتقالية بصعوبة بالغة، ولقد أصبحنا شهود عيان على تاريخ حافل بالأمجاد والمعاناة… مات الحاج رابح وماتت زوجته الحاجة الصافية، لكنهما تركا نسلا يدعون لهما بالرحمة والمغفرة، لأنهما كانا اللبنة الأساس لأسرة أصيلة، حافظت على تقاليد الكرم وعلى أواصر المحبة والمودة، ولتخليد جذور هذه الأسرة التليدة، تم تسمية أحد الأحفاد باسم رابح تيمنا للحاج رابح، وتخليدا لمساره التاريخي في دحض ومقاومة المستعمر الغاشم ... بقلم محمد مهداوي