محرك البحث أسفله خاص بموقع بني يزناسن فقط
سلسلــــــة حقـــــــــول العـــــــار
سلسلة" حقول العار"هي مجموعة قصصية للأستاذ محمد مهداوي، يحكي فيها ما عاناه إخوة لنا بأحد حقول ضواحي مدينة أبركان لقطف " النوار "، بنبرة كلها ألم وحزن وحسرة على ماض أليم، اختلطت أحيانا - رغم أنف العمال - بالفرح والسرور المفتعل ، لنسيان ما كابدوه من مشاق و " حكَرة " من قبل مسؤولي هذه الضيعة التي لقبها الكاتب ب " حقول العار ". تتألف هذه المجموعة القصصية - إلى حد كتابة هذه السطور - من إحدى عشرة حلقة جد مؤثرة. بارك الله فيه وفي قلمه الفياض....والله ولي التوفيق.
تقديم : ذ. محمد موح عجاجي
تتبعت كل حلقات " حقول العار " وقرأتها بكل ما تتطلبه القراءة من تركيز وتدقيق، ووجدتها جد متميزة إن على مستوى الاختيار (اختيار الفكرة)، أو على مستوى الموضوع أو الأسلوب، أو في طريقة السرد والحكي، أو في كيفية خلق عنصر الإيثار والتشويق... والأخ محمد مهداوي يعلم جيدا أنني أتتبعه أيضا في كل ما يقدمه من أعمال إبداعية أخرى، وهو شرف عظيم بالنسبة إلي. أما السر في ذلك، فلأنه صديق حميم، وجار قديم، وزميل دراسة رزين وحليم، لا تكل يده ولا تمل، وفكره دائم العطاء والبذل، ولما زاد وضاعف من جهوده خلال السنوات الأخيرة، وتفرغ إلى البحث والتنقيب والنظم والكتابة في تاريخ منطقة بني يزناسن وتراثها المدسوس في دهاليز الذاكرة الشعبية، زادت عنايتي بكتاباته، وتوطد اهتمامي باهتماماته، فوجدت فيه ذلك الشخص النادر الذي يحاول أن يزيل الغبار عن تلك الطابوهات والمعاناة التي كابدها سكان المنطقة في فترة الاستعمار السياسي والعسكري، وفي الفترة التي أتت بعدها مع الاستعمار الاقتصادي والفكري الذي حمل لواءه نخبة من المعمرين الإقطاعيين والانتهازيين، فجاءت هذه المجموعة القصصية " حقول العار " خير معبر ومفصح عن هذه الفترة، إلى جانب مختارات كثيرة من إبداعاته الشعرية أو الزجلية يستطيع القارئ العودة إليها على هذا الموقع الماتع. وكأنني أرى الأستاذ بهذه الكتابات يحاول إخراج الماضي الدفين إلى الوجود ليجعله حاضرا حيا يرزق، يستفيد منه الجيل الحاضر أولا، وينقله بدوره ليفيد به جيل المستقبل... ولا يخفى على أحد أن الأستاذ محمد مهداوي يعمل دائما على تقاسم ثمار جهوده مع القراء بكل أريحية وجود، وبكثير من الحب والبذل والعطاء، وهذه خصلة حميدة لم آت على اكتشافها الآن، وإنما أعرفها عنه منذ زمان، لذلك ألزمت نفسي على أن أتابعه في مشواره الإبداعي، وأقدم له على قدر المستطاع كل ما يحتاجه من دعم وإمداد. أخيرا، أتمنى من غور أعماقي أن ينجح في تحقيق آماله وأحلامه، ويستمر في الإبداع والتأليف، لتشريف المنطقة من الناحية الأدبية والفكرية والثقافية من جهة، ولكي لا يتوقف القارئ عن قراءته والتمتع بروعة كتاباته من جهة أخرى. وما توفيق الجميع إلا بالله...
قــــــــائمـــــــة محتــــــويــــــــات الصفحــــــــــة الحلقة الأولى : عرس النوار الحلقة الثانية : رحلة العذاب الحلقة الثالثة : فتيات الجاسمين الحلقة الرابعة : خَدَمُ الرومي الحلقة الخامسة : مهمومة الحلقة السادسة : رجالات النوار الحلقة السابعة : مقالب النوار الحلقة الثامنة : الفاجعة الحلقة التاسعة : حادثة مفزعة الحلقة العاشرة : اغتصاب وردة الجاسمين الحلقة الحادية عشر : 403 المجهولة دراسة نقدية للمجموعة القصصية (حين يبكي القمر / حقول العار)
الحلقة الأولى : عرس النوار (قصة مستوحاة من الواقع المعيش)
سياق القصة وأرضيتها : على بعد أربع كيلوميترات من عاصمة البرتقال، مدينة أبركان الأبية، وفي اتجاه منتجع شاطئ راس الماء، تستقر ضيعة متخصصة في قطف نوار الياسمين وتصدير عصيره للخارج، في قارورات عطرية غالية، كان المعمرون الفرنسيون مع أذناب الإستعمار من أهل المنطقة، يتعاملون مع العمال، شيبا وشبابا، أطفالا وعذارى بكثير من القسوة والتعذيب، نظام الأبارتيد العنصري كان مجسدا في هذه المنطقة المعزولة عن العالم، ما كان يحدث في هذه المستعمرة الصغيرة يبقى وصمة عار على جبين الإنسانية، بل ويتطلب فتح تحقيق جديد، لجبر الضرر النفسي والجسدي لأهالي مدينة أبركان، الذين كانوا يستغلون أبشع استغلال... كان ذلك في فترة السبعينات خاصة، التي تظل شاهدة على عمليات الإغتصاب والتعذيب والصعق الكهربائي الناتج عن إهمال أمن العمال وإغفال صيانة التجهيزات الكهربائية، الكل يمضغ علكة، حتى لا يفتح فمه للبوح بأسرار الماضي... .................................................................... كان الطفل عبد الكريم غض العود، ويتجاوز عقده الأول بسنوات قليلة، يعمل مع إخوته في قطف النوار بهذه الضيعة المشؤومة التي كان يطلق عليها اسم " فيرما اديال النوار "، كانوا يستقلون شاحنة كبيرة للذهاب إلى حقول الياسمين، ليلا على الساعة الثالثة صباحا، حاملين معهم " الدرعية "، وهي عبارة عن سلة من الدوم تعلق على الأوراك ويتم ملؤها بأزهار الياسمين، كان طعامهم اليومي خبز بارد مع حبة طماطم أو بصل، وإن حضر البيض المسلوق فذاك يوم مشهود... لما وصلت الشاحنة حقول الياسمين، تدحرج كل من على متنها أرضا، تستقبلهم روائح الياسمين بحفاوة بالغة... ودون سابق إنذار، بدأ " الكابران البكاي " يصرخ كعادته : - هيا أسرعوا يا ولاد... اصطفوا وابدؤوا العمل، راه غادي يصبح الحال... يمنع عليكم منعا كليا ترك ولو نوارة واحدة وراءكم، وإلا، إنكم تعرفون ما ينتظركم. طبعا، كل واحد منا كان يخاف أن يعاقب أو يطرد من العمل فيعود على قدميه إلى بيته البعيد في هذه الليلة الظلماء، وقد يكون المرء لقمة سائغة للكلاب أو قد تتعثر به قدمه فيسقط في عمق قناة الري الرئيسية (قناة ملوية)، التي تفصل الضيعة عن المدينة... لذا، كنا نفضل الصمت واستقبال السب والشتم بصدر رحب، على أن نطرد من العمل... علاوة على أن أهالينا كانوا لا يقبلون عودتنا بخفي حنين... لأن الفقر كان هو القاسم المشترك بين جميع المشتغلين في حقول الياسمين... وهو سبب آخر يجعلنا نصبر على تحمل أشكال الذل والعبودية... ففي أحسن أحوالنا كنا نحب أن نستقبل سباب الشاف البكاي أو شتم " الرومي " دون حرج، هذا المعمر الذي لم نكن نفهم ما يقول... عدا بعض الكلمات المهينة التي كان ينطقها بعربيته المفرنسة مثل : لخمار (لحمار)، غلوف (حلوف)، لَكْلَب (الكلب)... انهمك عبد الكريم وإخوته في قطف الورود، وردة وراء وردة، دون أوراق ولا طفيليات وإلا سيعاقبون على ذلك أشد العقاب، من طرف الرومي، أو سيرغمهم على مضغها وبلعها كالعادة كما يفعل الحيوان النباتي... هامتنا لا ترتفع أبدا للأعلى وإلا... أحيانا يمنع علينا حتى قضاء حوائجنا البيولوجية، فيتم التخلص منها تحت شجيرات الورود بطريقة وحشية، كالكلاب الضالة... هكذا كان استجمامنا خلال الفترة الصيفية والعطل الربيعية، عمل شاق من أجل مساعدة والدينا في شراء اللوازم المدرسية، وسد حاجياتنا الأساسية اليومية. حين نسمع لاسيران أو إعلان الكابران... نصطف كالجنود، لوزن ما جمعنا من ورود... درهمان... ثلاثة دراهم... خمسة دراهم... أقل أو أكثر... كل حسب مجهوده أو مهارته أو سرعته في قطف الورود ... هذه النقود لا تكفي حتى لثمن البوقاضيو الذي نشتاق لأكله... جمع عبد الكريم نقود إخوته الثلاثة من العمل المضني... يوم حزين... بمبلغ هزيل... ستقلق أمنا لا شك... خاصة وأن آمالها لشراء منزل للأسرة قد يتبخر في الهواء. ركب عبد الكريم وإخوته الشاحنة كالخرفان بعد نهاية العمل، واتجهوا نحو المدينة كالطير المجروح. لما وصلوا، قصدوا المنزل مباشرة، طرقوا الباب عدة مرات ولا مجيب... افترشوا الثرى أمام باب المنزل، للحصول على بعض الراحة، فجأة سمعوا جارتهم حليمة تقول لهم بصوت صاخب : - أمكم ذهبت للعرس في لارمود (حي من أحياء سيدي سليمان حاليا)، وطلبت منكم أن تلتحقوا بها فورا... - رباه، رجلاي لم تعد تحملاني... كيف لنا الوصول إلى لارمود... التعب يرهقنا والنوم يكاد يخطفنا... استجمعنا فرائصنا واتجهنا نحو العرس، نمتشق سللنا المصنوعة بالدوم، مرة نحملها ومرة تحملنا، لا ندري كيف وصلنا سالمين إلى مرابض أهالينا في لارمود... معجزة... استقبلتنا والدتنا بكلام طيب، اعطيتها درعيتي، وقام إخوتي بنفس الفعل، ثم ناولتها النقود... تفحصتها... ولم تقل شيئا... لكني لاحظت الشرر الذي كان يتطاير من عينيها... كأنها تريد أن تقول : " كل هذا العناء والمشقة من أجل هذه الدريهمات !!، ثم قالت : نحمدك اللهم ونسألك العون والصبر في كل الأحوال ". أدخلتنا في بيت صغير... أطعمتنا... ثم استسلمنا للنوم... كم كان فرحنا جميلا، سنسهر هذه الليلة مع العريس والعروس حتى الصبح، وسنتمتع بجمال الحفل وبما سيقدم لنا فيه من حلويات ورقصات... حوالي منتصف الليل سقطنا جثثا هامدة على الأرض في غرفة تشبه القبو، حاولنا التمتع بالنوم هذه الليلة المباركة، سنصبح نائمين... وسنستيقظ مرتاحين... لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، حين رنت ساعة الثالثة صباحا والليل لا زال يغطينا ، تخطت والدتي جميع الجثث المستلقية على الأرض كما يحدث في أغلب المناسبات العائلية، فأيقظتني لأوقظ بدوري إخوتي... و ضعت طوب سكر في أيدينا وناولتنا الدرعيات، وطلبت منا الذهاب للعمل. كانت الشاحنة في الخارج تنتظرنا... ما أشقانا في هذه الليلة الحزينة، لم أقدر على فتح عيني... حثتنا الوالدة على إدراك الحافلة... لكن لما خرجنا وجدناها قد رحلت... حقيقة امتزج فيها الفرح بالتَرَح، لكن الغبطة كانت أكبر، سأعود لتكملة نومي... ما أن ولجنا فتحة الباب حتى سمعنا صوت والدتنا تقول بصوت يكاد لا يسمع حتى لا تزعج أهل الدار : - اذهبوا للعمل على الأقدام... لا أريد منكم الرجوع إلى النوم... لسنا في بيتنا... هيا أسرعوا... !! لقد جرت العادة إن تخلف الأطفال عن الشاحنة، توجهوا زُرافات إلى العمل مشيا على الأقدام. فعلا، أسرعنا الخطى نحو الفيرما، ساعة ونصف من المشي كانت كافية لوصولنا... وبعد شد وجذب نتيجة تأخرنا عن بداية العمل الجماعي، وافق الكابران على استقبالنا، فانهمكنا للتو في قطف النوار، حبة بحبة، الدرعية لا تريد أن تمتلئ، لم أحس يوما بالإرهاق مثل ما حدث اليوم ونحن لا زلنا في فترة ما قبل الشروق، أحسست بالإغماء، أخذت قنينة ماء وسكبت رشات كبيرة على رأسي ووجهي لأستفيق، بدت لي أزهار الياسمين كالصبار، تريد ازدرادي، وأنا أهرب منها... أهرب... أهرب... وفعلا هربت... أغرقت نفسي في قناة الري الرئيسية... فأحسست ببعض الإنتعاشة ونسيت لحظات الكابران والرومي وأمي... وحتى ما يقوله الجيران عني بحيث كانت نظرتهم إلى الطفل الهارب عن العمل جبنا مثله مثل الفار من الخدمة العسكرية... سبحت كسمكة بورية في ماء القنال الملون بالحمري، نظرت إلى القمر فرأيته قد اختفى تحت غيمة رمادية، واعتقدت لحظتها أنه يشاركني همومي، فأحببته منذ تلك اللحظة، وأصبحت أحكي له ما بي من جراح، فصار يخفف عني ويسليني بأنواره الذهبية.
الحلقة الثانية : رحلة العذاب
الثالثة ليلا، ظلام دامس، برد قارس، نخرح فرادى وجماعات من منازلنا، فنسرع لأول حائط عال ننْدَسّ تحته، لعله يمدنا بشيء من الدفء... حقيقة، كنا نَسْتَلِذُّ بهذه الوقفة، لأنها كانت أرحم من العراء، وأحَنّ علينا من قساوة الزمهرير الذي كان يجعل أسناننا تصطك لوحدها، كأننا نعزف لحنا من ألحان الصرار الخالدة. على بعد أميال، نسمع محرك (التراكتور) قادما من بعيد يجر أذياله، يئن بصوته المحشرج، يجر عربة حديدية، فنحس أنه والعربة متخاصمان؛ أحيانا يحاول جرها نحو اليمين وهي تتجه نحو اليسار، وأحيانا تأبى إلا أن تنقاد إليه وتتبعه تتابع اليَسْرُوع، وقد تكون العربة هي أيضا مثلنا، مجرورة جرا نحو (فيرما السيكور) في هذا الجو القاتم، لعل الوصال السري الذي يربط بينهما سينقطع يوما ما بسبب أنين الأطفال الأبرياء وصرخات العَذارَى… - (هيا اطلعوا... ازربو... مغدي نستنى حتى واحد… اللي مركبش غادي يجي على رجليه…) نخرج أيدينا من جيوبنا، ونتسلق العربة كالقردة مسرعين، لعلنا نظفر بالركن الأمامي ل (الريمورك)، لأنه عال وسيقينا من قر البرد... نتمدد أرضا على الوَاطِئَة، نجلس داخل الدرعية، ونضع أخرى على رؤوسنا لنتقي زمهرير (الفجرية)، نحاول استغلال لحظات الرحلة الطويلة لنمتع جفوننا بقسط من النوم، خاصة وأن الرحلة الماراطونية ستشق عدة أحياء في مدينة أبركان، من حي سالم إلى حي المكتب، ومن حي الطحطاحة إلى حي المحال، ومن بويقشار إلى بوهديلة المحطة ما قبل الأخيرة التي سيهبط فيها من بعد كل الراكبين... في الحقيقة، لم تكن عربة النقل هذه تحتمل كل هذا العدد من الأطفال والفتيات والشبان أثناء رحلتنا الليلية، لقد كانت تضيق كثيرا كأنها علبة سردين مصفف. رغم ذلك، ومع كل هذه الزحمة، كنا نحس بشيء من الدفء عندما تلتصق الأجسام المحتشدة في العربة بعضها ببعض. بعد حوالي ساعة أو أكثر من العذاب، نصل إلى (فيرما) النوار، نبدأ في النزول ونسمع (الكابرانات) يصرخون : - (زوج… زوج... ديرو الصف... وإلا…) فعلا نصطف كالجنود، ملبين نداء القهر والقوة، ويتم توزيعنا على خطوط النّوَّار بطريقة لم تكن أبدا عادلة، لم نكن قادرين على أن ننْبِس بِبِنْتِ شَفَة... وإلا سنُتَّهَم بكوننا (راسنا قاسح)، ويزجّ بنا في الكاشو مع المعاول والفؤوس والأدوية الكيماوية والفئران… قد يكون (الكابرانات) أحيانا غائبين أثناء وصول الشاحنة إلى (الفيرما)، وفي هذه الحالة ترانا نقفز مِنْ عليها إلى الأرض لنتجه جريا إلى مكان العمل عَلَّنا نحصل على الخطوط المُكثَّفة التي كان يتسابق عليها الجميع، أو على خطوط قريبة من الميزان لنكون من الأوائل في الصف عندما يدق الناقوس. ها نحن بين الخطوط منهمكون في قطف ورود الياسمين البيضاء، نحاول ألا نترك أي وردة خلفنا، لربح الوقت من جهة، ولكي لا نرغم على العودة مرة أخرى إلى تنقية ما خلفناه من (نواور) وراءنا... وكنا كذلك نتحاشى تلك العبارات السفيهة، وذلك الكلام الفاحش الذي كان (الكابران) يمطرنا به، مع تهديده إيانا باقتطاع دريهمات من أجرنا أثناء عملية الوزن. كنا نخضع أثناء هذه العملية لامتحان غير يسير، يقوم خلالها الرومي وحاشيته بمراقبة نوعية الورود وجودتها، فإن تغير لونها أو ذبلت فذاك يوم عسير، وإذا كانت مختلطة (بالبورجون) أو بأوراق الياسمين الخضراء، يأتيك الرومي ويشدك من أذنيك شدا مؤلما، أو يرفعك من مؤخرة شعرك إلى السماء قائلا : - (افتح فمك و كولي الربيع يا لخمار…) أي : الحمار. كما قد يهددك بعدم القدوم إلى العمل مرة أخرى، أو يرميك في (الكاشو) لساعات طويلة قبل انتهاء العمل إلى غاية عودة الجميع إلى وَكْرهم، كانت أمك في هذه الحالة تقلق لغيابك وتلجأ إلى تقصي أخبارك لدى أقرانك العائدين من العمل... أما إن بقيت محبوسا حتى ساعة متأخرة من الليل، فتلك قصة أخرى، كلها عذاب وألم، خمسة كيلومترات، تلك هي المسافة التي تفصل ضيعة السيكور عن حي سالم، الخوف يجعلك ترتعد وتبكي ولا أحد يهتم بحالك، أنت لا زلت طفلا صغيرا، فقيرا، بريئا، أنت الآن محبوس والليل مقبل عليك، يوجس قلبك فزعا عندما تراودك تلك القصة التي كان العمال يتداولونها آنذاك فيما بينهم، تلك القصة التي تحكي عن وجود جنية بلباس أبيض تشرئب بين الحقول لتتصيد الأطفال... تفكر لو أطلق سراحك في جحيم الطريق من حقول السيكور إلى قناة ملوية التي تفصل الحقول عن المدينة، طريق يستحوذ عليك الرعب والهول والفزع وأنت تقطعها في الظلام. وأما إن أنهيت عملك دون أي حساب لكنك كنت من الأواخر، ذهبت عنك (الريمورك)، وتوجهت إلى منزلك مترجلا، وعندما تصل إلى حي بوهديلة على هامش المدينة، ضع دريهماتك في حافظة صغيرة واخفها بين فخذيك أو في مكان أخر من جسدك يكون آمنا... قد يعترض طريقك قطاع الطرق أو الصوص ويسلبون منك ما اكتسبته من دراهم بعد مشقة مضنية دامت من آخر الليل إلى نهاية (العصرية). كانت بعض الأمهات تأتي إلى مدخل المدينة من جهة السيكور لاستقبال أبنائها... وكان ذلك يخفف على الأطفال من حدة ظروف العمل القاسية، ويشعرهم بتقاسمهن معهم لآلامهم، لقد كان حنان الأم في تلك الظروف العصيبة زادا يملأ قلوب الأبناء أملا في حياة جديدة… كان ذلك هو ديدن اطفال " حقول العار " كلما حل موسم قطف النوار. كنت واحدا من هؤلاء الأطفال المحرومين، ها أنا الآن قد كبرت ورغم مرور الزمن لا زالت هذه الذكريات الأليمة راسخة في ذهني، لقد أصبحت جزءا من ذاكرتي الشخصية، ترافقني في سري وفي علني أينما حللت، فكلما مررت بجانب حقول السيكور تذكرها، واستحوذت علي تلك اللقطات المؤلمة منها، ذكريات عاشها كل أطفال السبعينات في مدينة أبركان بأسرها ولن ينسوها أبدا. فذات يوم حدثت نفسي وسألتها : كيف استطعت أن تعيشي في هذه المذلة وتصبري على تلك المهانة، فأجابتني : لا ينفع مع الفقر و(الميزيرية) إلا الصبر على تحمل الأذى، إلى أن يأتيَك الفرج مهللا يوما ما. بهذه الكلمة الحكيمة والنغمة الحزينة تلقينا قصة صديقنا عبدو المقاول الذي ما فتئ أن قرأ القصة الأولى من " حقول العار " حتى فاجأنا برواية قصته .. فرغم مرور أكثر من خمسة وأربعين سنة على تاريخ أحداثها، فإنه سردها علينا بتفاصيلها الدقيقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مرارة هذه الحقبة التاريخية من حياة ذلك الجيل... ستبقى هذه القصة شاهدة عليها، وستظل محفورة في ذاكرة الإنسانية إلى الأبد... -------------- اليَسْرُوع : نوع من دود القز (تَتَابُعُه متلاصقا فيما بينه يشبه تلاصق الريمورك بالجرار وهو يسحبها من ورائه).
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : أتحفنا الأخ الزجال والقاصّ محمد مهداوي كعادته، بقصة ثانية في إطار تتبعه لسلسلة الواقع المرير، الذي كان يعاني منه أطفال السبعينات بخاصة في ضيعة السيكور بإقليم بركان، التي كانت تسمى عرفا بعامية بني يزناسن : الفيرما اديال النوار. قصة لا تقل أهمية وروعة من سابقتها، سماها " رحلة العذاب "، وفيها يسرد لنا معاناة بطلها عبدو بطريقة فنية، وبأسلوب واضح شفاف ومؤثر للغاية. قصة لا يمكن فصلها عن قصة " حقول العار"، إن لم تكن جزءا لا يتجزأ منها سواء من حيث المعاني التي تحملها أو من حيث سيرورة الأحداث التي تسردها، وكأن القصة في مجملها لا تزال مستمرة ولم تكتمل بعد. لذلك، فمن خلال تدخلات القراء وتعليقاتهم المنتظرة، أتوقع ظهور شهادات جديدة قد يضيفها الأستاذ محمد مهداوي إلى فصول أخرى من القصة، حتى نتمكن من الاطلاع على تفاصيل الأحداث بكاملها، ونعرف حقيقة ما خلفته حقول العار من آثار في نفوس أولئك العمال الأبرياء. أما اختياري لهذا التقديم فهو نابع من كوني عايشت نفس الظروف الصعبة التي كان يعانى منها الأطفال والرجال والنساء في السيكور، وقوبلت بنفس التعامل القهري المستبد الذي لم يكن ممارسوه يعرفون معنى الرحمة والشفقة آنذاك، ولقد صدق الأخ عبدو بطل الرحلة عندما صرح بأن المعاناة كانت جماعية تشمل كافة ساكنة مدينة أبركان. لكن، رغم قساوة تلك الظروف وما كان يدور في فلكها من مذلة وإهانة وقمع واضطهاد، ارتأيت من خلال هذا التقديم أن أشير بعجالة إلى شيء آخر كان أخف وأظرف من ظاهرة القمع والإهانة التي كانت سائدة آنذاك، يتعلق الأمر ببعض الطرائف والعادات التي كان يمارسها الأطفال والشباب من عمال السيكور فيما بينهم، طرائف وعادات كان يُتخذ بعضها كوسيلة من وسائل التسلية والترفيه وقت الحاجة، وكان يراد ببعضها الآخر التمرد على ذلك النوع من الحصار الذي كان مفروضا على العمال، كما قد يستعمل بعضها لمجرد تناسي الآلام وتجاوز المعاناة، لأن هم الناس في تلك الفترة كان يتمثل في الأجر مقابل العمل... وهكذا. ومن أهم تلك العادات : 1 - لجوء الأطفال والشبان إلى الاستحمام خفية في السواقي المجاورة أثناء غياب الكابران، وكان ذلك يعجبهم كثيرا، وكان بعضهم ينسى أنه في عمل، فيطيل الاستحمام إلى أن يفاجأ بانتصاب الكابران أمامه. 2 - ابتداع الفتيات لسجال غنائي فتان، سواء بالليل أو بالنهار، والذي كان يسهر الجميع على سماعه وهم منشغلون بالعمل. 3 - خرق تحذير الكابران للعمال بعدم الدخول إلى بعض الحقول، التي كان يلج إليها الأطفال خلسة ليلا لقطف الورود ذات الحجم الكبير من شجيرات الياسمين المليئة (مزرزرة). 4 - انتهاز غفلة بعض العمال ووضع أوراق الجاسمة (الياسمين) في قعر قُفَفهم وتغطيتها بالنوار، لكي يقف عليها الرومي أثناء عملية التفتيش في الميزان، ويعاقب عليها أصحباها ظلما. 5 - وضع بعضهم لغُبْجَة (كفة) من النوار على بَرازهم أثناء قضاء حاجتهم، فيجمعها أحد المُغَفَّلين وتتلطخ يده. 6 - اصطناع الأصوات أو تغييرها لمناداة أشخاص متواجدين على بعد، أو بعض الكابرانات بألقاب مشينة كانت تنسب لهم سُخْرا وتهكُّما، وغالبا ما كانت هذه العادة تحدث ليلا. 7 - فرحة الأطفال واستعجالهم لتقاضي أجورهم، لكي يلجؤوا بسرعة إلى بقالة متنقلة مؤقتة موجودة بعين المكان، لشراء حلويات ومشروبات وقطع من الخبز الرومي قبل أن تنضب. 8 - إجراء منافسات في أكل رغيف من الخبز الرومي العريض (بالانجي) دون توقف ومن غير إتباعه ولو بجرعة واحدة من الماء، كان الشاف البكاي أو الرومي يأمران بالقيام بهذه اللعبة الخطيرة أثناء عملية تقاضي الأجور، فيعينان لها متبارين يتسليان بهم. لقد كانت هذه اللعبة تؤدي في بعض الأحيان إلى اختناق أحد المتنافسين. إلى غير ذلك من العادات والظواهر التي كانت تتكرر يوميا، منها ما كانت له عواقب خطيرة على أمن أو صحة الأطفال، ومنها ما كان حقا يُتسلى ويُترفه به.
الحلقة الثالثة : فتيات الجاسمين
تمكنت فتيحة الحصول على شهادتها الإبتدائية بميزة حسن جدا، وبدل الإحتفال بنجاحها، كما تفعل الطبقات الموسرة، طُلِبَ منها الذهاب للعمل في حقول الجاسمين، من أجل شراء الأدوات المدرسية ودفع رسوم التسجيل للسنة المقبلة... وبما أنها كانت شغوفة بالدراسة لبت رغبة والديها، لأنها تعلم جيدا مدى العوز الذي تعاني منه أسرتها… حوالي الثانية ليلا، رن المنبه بصوته المرعب، كتمت فتيحة أنفاسها، ونهضت مسرعة، أيقظت أخاها أحمد، ناولته حبة سكر، واتجها نحو نقطة تجمع العمال لانتظار الشاحنة التي ستقلهم إلى مكان العمل، بدأت الدموع تهطل من عينيهما من شدة البرد، وضعت قفتها على رأسها وانحشرت بين فتيات الحي، لعلها تحصل على بعض الدفء. الكل صامت على متن الشاحنة كأنها لحظة مأتم، لا صوت يعلو فوق هدير المحرك، الذي بدأ يلتهم الإسفلت التهاما قاصدا فيرما السيكور الملعونة. لا زالت الشاحنة تخيط دروب المدينة تجمع العمال، صغارا وكبارا، شيبا وشبابا، ذكورا وإناثا، بينما كانت أعناقنا تشرئب من ثقب الشاحنة لمحت مجموعة من الكلاب، تتبعنا و تأبى إلا أن تودعنا بنباحها الصاخب، رافقتنا بضعة أميال وحين أصابها اليأس رجعت أدراجها وهي تلهث وتجر أذيال الهزيمة، كما رمقنا خلال رحلتنا مجموعة من المشردين، يفترشون الثرى تحت سقوف العمارات، تحاول مقاومة البرد بعلب الكرتون الهشة، ما أذل الفقر في جوف الليل !، وما أصعب التنفس من وراء ظلمة دامسة ! أطفال الأغنياء يعانقون الآن لعبهم ووسائدهم، متلذذين بأحلامهم الوردية ونحن كالوطاويط، نجوب شوارع المدينة، بحثا عن لقمة عيش… وأنا غارقة بين أحلام اليقظة سمعت منبه الشاحنة يرن بقوة معلنا وصولنا لفيرما السيكور، تم توزيعنا على الخطوط بسرعة البرق، امتشقت درعيتي ووضعتها على جانبي الأيمن، شددتها بحزام قوي، ثم وضعت قصبتين داخلها، حتى تبقى مفتوحة طوال فترة عملي، بسملت وحوقلت وهللت ثم شرعت في التقزدير... أقطف ورود الجاسمين وردة تلو وردة، دون كلل ولا ملل، لعلي أجمع دريهمات أقضي بها حاجتي وعوزي... ولكي أغالب غول النوم، وأدفع عن عيني سهاد العياء، رفعت صوتي الأنثوي عاليا كعادتي، أردد بعض الأهازيج التي تثير مشاعر العمال وترغمهم على التفاعل معي : أ ردو اعليا يا الحوريات أ واش انتما موتا ولا حيات فيأتيني الجواب عبر الأثير على التو دون انتظار : أ دارك بعيدة ما نوصلهاش أ فتيحة صيفطي لي كاس وتنطلق حنجرة أخرى من بين خطوط النوار مرددة : أ فاتو منا زوج طوموبيلات أ خالي وخالك ألالا حياة هكذا كنا نقضي ليالينا السوداء وسط الجاسمين، نختصر الوقت وندعم عزائمنا بالغناء، لكي ننفس عن أنفسنا كروب الحياة وهمومها، ونخفف عنا نير العبودية والإستغلال. أشرقت الشمس، سمعنا رنين لا سيران، اصطففنا كالجنود، ننتظر دورنا لوزن ماجادت به أناملنا من ورود بيضاء، كان الرومي لوبيك Lebec، يدخل يده في الدرعية، لمراقبة مدى إتقاننا لعملنا… يصيح بلهجته المفرنسة… لا للحشائش… لا للبرجون... لا للخش... أتذكر أنني في يوم من الأيام، في بداياتي الأولى، فتش لوبيك درعيتي فوجد فيها بعض أوراق الجاسمة الخضراء، انحنى أرضا وحمل حفنة من " الغيس " ووضعها على رأسي، وغرس فيها نبتة ياسمين، وأجبرني على التجول بين خطوط النوار، لأكون عبرة لمن أراد أن يعتبر... حقيقة، أدمعت عيناي آنذاك وأحسست بالذل والمهانة، لو انشقت الأرض لانحشرت في جوفها، ولقد مر الآن ما يربو على أربعين سنة على هذه الحادثة ولا تزال صورها منقوشة في خيالي. في ركن من أركان المطبخ علقت درعيتي، حتى لا أنسى ما عانيته من شقاء وقاسيته من استغلال في أواخر السبعينيات، درعيتي شاهدة على فترة حزينة من حياتي، بل من حياة الكثيرين من أمثالي، وإن كان معظم ضحايا الإستغلال لا يريد البوح عن تاريخه المظلم.…
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : ويستمر مسلسل الأحداث في قصتك المشوقة، وإن كانت حبلى بالمعاناة والمرارة التي كان يجف لها ريق الأطفال والشباب، حتى تكاد تسد معه الأفواه عنوة، لتبقى النفوس تتحمل في الخفاء وباستمرار ذلك الضيم والإذلال، اللذين كانا يرافقانها حتى في الأحلام، أحلام كانت بمثابة كوابيس تستولي على الأذهان في اليقظة وفي المنام لكثرة هولها... ها أنت الآن تحَيّي ذلك الجيل المستضعف وتشيد به، باستحضار فترة قاسية من ذاكرته، لتخليدها حتى تطلع عليها الأجيال القادمة، وتعرف قدر المتاعب والمَشاقّ التي طالما تحملها الآباء في طفولتهم، لعلها بذلك تتعظ وتعتبر... فتحية خالصة إليك أخي محمد مهداوي، وشكرا على هذا المجهود العلمي الجبار، الذي تقدمه من أجل تكريم الذاكرة البركانية من جهة، ولتشجيع الكتاب الجدد على النهوض بالكتابة التأريخية والإبداعية في منطقة بني يزناسن الأبية من جهة أخرى. .................................... كانت هناك ظاهرة منتشرة في وسط الفتيات وهن يشتغلن : إنها الغناء في غسق الليل... فقد تطلق فتاة ما بيتا زجليا على إيقاع خاص بصوت عال يسمعه القريب والبعيد، مثل : أ ردو اعليا يا الحوريات أ واش انتما موتا ولا حيات أو أ دارك بعيدة ما نوصلهاش أ خدييجة صيفتيلي كاس أو : أ فاتو منا زوج طوموبيلات أ خالي وخالك ألالا حياة ثم ترد عليها فتاة مجاورة لها، قد تكون تعرفها وقد تكون لا تعرفها، كما قد ترد عليها أيضا فتاة ثانية تحمل الإسم المذكور، ببيت في نفس السياق أو يكمل المعنى الذي أطلقته الأولى، وقد يأتيها الرد من بعيد يتعدى مسافة 100 متر، ومباشرة بعد الرد يتشكل نوع من السجال المرتجل بين فتاتين أو بين أكثر منهما، وهنا تحس أنك في سوق عكاظ... تلاحظ صمتا وهدوءا تامين يخيمان على لبلان كله، لأن الكل كان يحب تتبع هذا السجال ويستمتع لسماعه، إذ كان يحكي قصصا غنائية جميلة قد تطول مدتها، في المدح أو في الغزل أو في الهجاء اللطيف (لمعايرة الخفيفة)، فكان الكل يعيش لحظات عجيبة ورائعة تذهب الأرق من العين، وتخفف من شدة التعب، وتسلي الشغالين، فكان الجميع يتخذ من سماع هذا السجال وسيلة تساعده على التركيز في العمل والانشغال بسواه ... بحيث تكون الأنظار منحصرة في النوار، والأيادي منشغلة بالقطف بشكل منتظم، أما التفكير فيكون في هذه اللحظة في عالم آخر، عالم الفن الغنائي الذي يتطلب نوعا من الانتباه لفهم لحن القول ومعنى الأبيات المغناة، ... كانت بعض الفتيات المغنيات في بعض الأحيان تغير لحنها، لإثارة مُنَافِسات أخرى، أو لحث ذوات الصوت الرقيق واللحن الجميل على التقدم للتباري... ولم يكن هذا السجال الغنائي محصورا في الجنس اللطيف، بل كان بعض الفتيان أيضا يتقدمون إلى المشاركة في هذه المباراة الغنائية... وكان من بينهم من ينجح في أدائه ويتفوق على بعض الفتيات حتى
الحلقة الرابعة : خدَمُ الرّومي
كنت أدمن الخروج للعمل ليلا بحثا عن الرزق، رغم أني لم أكن أتجاوز بعد الثانية عشر ربيعا، يافعة ناعمة الظُّفْر، تحملت المسؤولية مبكرا وإن كنت ما زلت غضة في حاجة إلى رعاية أبوية. الثالثة ليلا، أنتظر شاحنة النوار، لِتَقِلَّني مع باقي العاملين والعاملات إلى حقول السيكور خارج عاصمة البرتقال، كنت أتصفح وجوه رفقائي فأرى علامات الكدح بادية على وجوههم، صغار السن لكنهم يبدون كالورود الذبلى، التي انقطع عنها الماء وهي في أمس الحاجة إليه. تَحَزَّمْت قفتي المصنوعة من الدوم على وركي الأيمن، ثم بدأت في قطف زهور الياسمين، وردة وردة رغم حلكة الليل التي تكاد تمنع الضوء عن رؤيتها، فلولا بياض الجاسمين الناصع لما تتبعته عيني وقطفته يدي وسط فروع الحشائش الكثيفة. هدوء تام هذه الليلة، كأننا في مأتم، لا صوت يعلو فوق خَشْخَشَة أغصان شجيرات الياسمين، وطَقْطَقَة القطف المتناغمة التي تحدثها أيادي العمال، وصرصرة الجراد والجنادب وهي تثب في كل الاتجاهات كلما أحست بخطر مفاجئ. بين الحين والحين، كانت تتلقفني قشعريرة قاتلة من شدة القر، وهذه المرة نطّت على وجهي ضَفْدَعَة صغيرة، أمسكتها بين أناملي فتبولت علي، وعفوت عنها مرغمة. في هذا السن الوردي حرمنا من الحلم، وجردنا من اللعب والترفيه، كنا نرى أنفسنا مجرد آلات ميكانيكية مهترئة أكل عليها الدهر وشرب، وأثر عليها الضغط والقهر، تستغل قسرا دون رحمة ولا شفقة،... فكيف لهذه الآلة أن تحلم بغد مشرق ؟ بعد شروق الشمس بقليل، صفر الكابران تصفيرته المعهودة معلنا حلول وقت الوزنة الأولى، اصطففنا في طابور طويل، لنزن ما جادت به أناملنا من ورود الياسمين، الكل كان يعرف مسبقا ثمن جهده وتعبه؛ بضع دريهمات لا تكفي حتى لشراء الحلوى، إذ كان دخل بعضهم لا يتجاوز أحيانا (سَتَّ أو عَشْرَ دورو) في اليوم، (30 أو 50 سنتيم)، كل حسب طاقته أو سرعته في العمل، لأن عملية جني النوار في السيكور كانت تدور على شكل مباراة، لها بداية ونهاية، دون فترة استراحة، لم يكن يجني ثمارها إلا ذوو البراعة اليدوية والمهارة الفردية (المهكاشة). بعدما انتهيت من وزنتي الأولى صبيحة هذا اليوم المشؤوم، توجهت إلى " الخط " لمتابعة عملي، وإذا بالرومي لوبيك Lebec يناديني بعربيته المفرنسة، مشيرا إلي بسبابته اليمنى وإلى منزله بسبابته اليسرى، فهمت سر إشارته المعتادة، جمعت قفتي واتجهت نحو " فيلته " في ركن من أركان المعصرة، مررت عبر ممرات خضراء جميلة، تزينها ورود الفل والروزيي والرياحين، وبمجرد وصولي بدأت في تصبين رزمة هائلة من الثياب كانت معدة، ثم غسلت الأطباق، ونقيت حديقة المنزل من الشوائب العالقة. كنت بين الحين والآخر أختلس نظرات داخل غرفة ابنة الرومي، فأراها ملآى باللعب والنونورسات الجميلة، علاوة على دراجتها الهوائية الصغيرة، التي كانت تمر بها علينا أثناء عملية تقاضي الأجور، ونحن نتابعها بنظرات خافتة، نتخيل أنفسنا مكانها، فكم كنت أتلذذ بغسلها وأحلم بامتطائها... لا زلت أتذكر يوما حين قمت بمحاولة ركوبها، داهمتني " مدام لوبيك " وصرخت في وجهي، وطلبت مني عدم معاودة المحاولة مرة أخرى، جرتني بخصلة شعري وألقت بي في الخارج... أنهيت ترتيب ما كان علي ترتيبه في هذا البيت المظلم، وعدت إلى عملي مسرعة أخترق خطوط الجاسمين كالفراشة التي تحررت من الشرْنَقَة التي كانت تكبلها... لم أكن أرتاح لخدمة هذه الأسرة ،لأنهاكانت تمثل جزءا من الماضي الاستعماري البغيض، كل ما يمكن أن أصرح به الآن، هو أنني لم أكن أحبذ مشاهدتهم في ألبستهم المتبرجة، ولا النظر إلى " مدام لوبيك "، وهي شبه عارية تتمتع بأوقاتها، تارة داخل مسبح العائلة، وتارة مستلقية على مقعد طويل على حافته، كما لم يكن يستهويني ما تقوم به عائلة الرومي من سمر ليلي باذخ، كنت أجبر على التقاط قنينات الخمور بيدي هاتين كلما جاء دوري للقيام بترتيب البيت، كانت رائحة الخمر التي تعبق المكان تثير أعصابي، لم يكن في استطاعتي البوح بضيقي وألمي، ولا التعبير عن ضيمي، خوفا من غطرسة هذا الرومي... المصيبَةُ الأَدْهَى والأَمَرّ، هي أن بعض العائلات البركانية البورجوازية كانت تتسامر صحبة هؤلاء المعمرين وأذنابهم مخلفة آثار مرورها بذلك المكان... لم يكن يخفى على أحد أننا كنا نسمع ضجيج اللهو والغناء والبذخ فور وصولنا إلى الفيرما على متن الريمورك أو الشاحنة، والساعة جد متأخرة. كنت أخبر والدتي كلما مررت ببيت الرومي... ولما تأكدتْ من أن الأمر قد أصبح عادة لا مفرّ منها، منعتني منعا كليا من الذهاب إلى حقول النوار، رغم العوز والحاجة... لقد قال أحدهم : الفقر والعار وجهان لعملة واحدة، لكنني أقول : إذا مس العار عِرْض الفتاة، صُكّ بمفرده على وجه كل العملات، وفتحت أبواب الأزمات. هذه هي قصتي... ماذا عساي أقول لكم : كانت طفولتي الشاقة عبارة عن حلقات تراجيدية مؤلمة، لم أكن الوحيدة التي عانت وقاست من هول هذا الإستغلال، فلولا العار لسمعتم قصصا أخرى يندى لها الجبين، ولولا رائحة الياسمين الزكية لفاحت روائح أخرى نتنة، كان ضحاياها صبايا في عمر الزهور. - الصورة على اليمين هي على سبيل البيان، للتعبير عن جمال حديقة الرومي. - الصورة على اليسار حقيقية، هي جزء من بقايا حقول العار.
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : أخي محمد مهداوي، كل مرة تفاجئنا بحدث جديد يضاف إلى مسلسل قصتك الرائعة، التي سردت بأسلوب بليغ ومشوق، يجعل القارئ في انتظار دائم لمجريات الأحداث، يتلهف إلى معرفة المزيد من المعلومات والأخبار عما كان يجري في حقول العار. إنها مأساة ما بعدها مأساة، فهمنا أن ظروف العمل كانت شاقة، وتصرفات المسؤلين أثناء عملية الوزن وفي الخطوط كان تحملها صعبا، وفهمنا أيضا أن فترة العمل لم تكن ملائمة، لكن عندما يتعلق الأمر باستعباد الفتيات لخدمة المعمر الهمجي في عقر دارهن، والتعامل معهن بنوع من الدونية التي تتعدى الاحتقار والاستعباد، فذلك لا ينطبق والسلوكيات والأخلاق الإنسانية.. شرف الفتاة كان ولايزال خطا أحمر لا يجب المساس به بأي حال من الأحوال إلا بشروط، وهتك عرض فتاة هو هتك لعرض أسرة بكاملها... لو كان قد حصل ما توقعته أم بطلة القصة، لبقيت وصمة العار موشومة على جبينها وجبين الأسرة جمعاء... الحمد لله أن هذه الأم اتخذت قرار توقيف ابنتها عن العمل في أوانه، ويبقى الرزاق دائما هو الرزاق.
الحلقة الخامسة : مهمومة
اتفقت مع ثلة من أصدقائي الشباب على السهر في عرس بحينا، حيث تقام مراسيم الاحتفال في الهواء الطلق، وُضِعَتِ الكراسي على شكل دائري، وَنُصِبَتْ فرقة " العشران " في مكان عال، لتكون على مرمى حجر من الجميع. في حدود العاشرة ليلا، شرعت الفرقة في تقديم عروضها الغيوانية الملتزمة : مواويل رائعة لناس الغيوان، وشذرات من تحف جيل جيلالة ولمشاهب... حقيقة، كان جيل السبعينات محظوظا، لأنه عاصر هذه الظاهرة الغيوانية، التي كانت تحمل هموم الأمة، وتعبر عن آهات ومعانات المستضعفين في سائر البلاد العربية... وضعت قفتي على الكرسي، شأني في ذلك شأن سائر رفقائي، رشفنا كؤوسا من القهوة المرة، مع حبيبات من الكعك البلدي، غرقنا في جوف الطرب الشعبي الجميل، ولم نحس بأنفسنا إلا ونحن نردد مع فرقة " العشران " : (أهل الحال يا أهل الحال، إمتى يصفى الحال... الله يا مولانا... الصينية... ما هموني غير الرجال الى ضاعو...). تم ختم الجزء الأول من السهرة بأغنية كانت محببة لدى الشباب آنذاك : (مهمومة هاذ الدنيا مهمومة)، حينئذ أدمعت عيناي، التفت مسترقا النظر إلى ما يدور في عالمي الصغير، فرمقت أصدقائي غارقين في معاقرة كؤوس المدام... يترنحون يمنة ويسرة، ويسيطر على صفحة وجوههم ملامح الحزن الشديد. ألقيت نظرة على ساعتي فوجدت عقاربها تشير إلى الثالثة ليلا، الوقت مر كلمح البصر، تفقدت درعيتي وأخذتها، نهضت ثم وضعت يدي في مقبضيها وحملتها كطفل صغير على متن ظهري، نبهت أصدقائي بتأخرنا عن موعد الذهاب إلى النوار، ثار ثائر بعضهم فنهروني، واستجاب لي آخرون بأريحية تامة، أسرعنا الخطى نحو (السانديقا) بحي سالم العتيق، لإدارك الشاحنة فلم نجد لها أثرا، سخطنا على الوضع، فشعرنا بنوع من الإحباط، عم الصمت برهة من الزمن إلى أن كسره عمر قائلا : - ما رأيكم لو ذهبنا مترجلين إلى فيرما النوار ؟ - فكرة جيدة، رد عليه الفيداوي. - لبرازي : أعتقد أنكم... غي كتخربقو... الفيرما بعيدة... خمس كيلوميترات... واش هبلتو... ! - ناصر : لا تهمني المسافة، أنا مستعد لقطعها في هذه الليلة الظلماء بدلا من العودة إلى المنزل خاوي الوفاض. - معك حق صديقي... أما أنا، لو رجعت إلى المنزل دون عمل... غادي ناكل شي سلخة فاعلة تاركة... تدخل عَلِيٌّ وكان أكبرنا سنا وأرجحنا عقلا، فقال بصوته المتزن : من أبى الاستسلام وفضل التوجه إلى العمل فليتبعني... تفرقت المجموعة إلى فئتين : فئة أذعنت وتراجعت، فقررت إتمام سهرتها مع " العشران "، وأخرى تقدمت وأصرت على خوض هذه المغامرة الليلية. قطعنا حي بوهديلة، وهو آخر حي من أحياء أبركان مدينة الجاسمين آنذاك، فرحبت بنا قناة الري الرئيسية واحتضنتنا بين دفتيها، تخطيناها بتؤدة، ثم سلكنا مسلكا ضيقا يقال إنه معبد يؤدي إلى حقول النوار؛ وحتى لا نحس بالملل وطول المسار، شرعنا في ترديد أغنية (مهمومة هاذ الدنيا مهمومة)، وكان الليل الحالك يردد معنا مواويلها التي كان صداها يصلنا من بعيد... وكأنه يشارك معنا همنا وغمنا... وصلنا حقول السيكور بعد تعب شديد، استقبلنا الكابران البكاي بصوته الجوهري وقبعته الأوروبية بلهيب من الغضب، طارت شظاياه حتى لمست شغاف قلوبنا... - هيا، سيرو كملو على نعاسكم ... تفو عليكم... حتى شرقت الشمس عاد جايين تتكسولو... لم ننْبِسْ بِبِنْتِ شفة، تجرعنا مرارة هذه الكلمات النابية، بحثت عن بعض الريق لأرطب به بُلْعومي دون جدوى، تبادلت نظرات سرية مع الأصدقاء المغامرين، ففهم الكل مغزاها... وهكذا، قفلنا راجعيين بخفي حنين، نجر أذيال الهزيمة، أقدامنا لم تعد تسعفنا على المشي والنوم يغالبنا، يدفعنا يمنة ويسرة كحال السَكارَى، إلى أن أدركنا قنطرة بوهديلة بعد جهد جهيد... ثم وصلنا إلى ديارنا وآثار هزيمة المغامرة بادية على وجوهنا... سكون مطبق يخيم على أجواء الحي، عدا صدى فرقة العشران التى كنا قد ودعناها على أنغام أغنية (مهمومة... هاذ الدنيا مهمومة)، ولما عدنا وجدناها تردد نفس الأغنية، لقد أبت إلا أن تستقبلنا وترحب بنا بهذه الطريقة المؤثرة، كأنها كانت تعلم جيدا ما يجول في خواطرنا من شدة الحزن ومرارة الإحباط... فأرادت أن تكرمنا...
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : ويستمر الكشف عن آلام أولئك الأبرياء، إنها لن تنتهي أبدا ولن نستطيع ضمد الجراح خالتي خلفتها في نفوسهم، فكل وقصته، كل وهمومه ومعاناته الخاصة به في علاقته مع النوار... أشكرك أخي محمد مهداوي على تتبعك لهذه الأحداث وتقاسمها مع القراء من أجل إطلاعهم على تلك المرحلة السوداء بكل قيودها وعوائقها التي طالما آلمت آباءهم وأمهاتهم... وددنا لو تحدثت لنا عن بعض الحالات التي كان يطرب فيها أولئك المستضعفون ويسعدون خلالها رغم الظلم والطغيان اللذين كانا يمارسان عليهم في تلك المرحلة المؤلمة، في تلك الحقول المشؤومة.
الحلقة السادسة : رجالات النوار
في ليلة من ليالي الصيف الدافئة، اتفقنا على استعادة شريط الماضي، الذي انقطع لأكثر من أربعين سنة، إذ لم تستطع الظروف أن تجمع بيننا إلا بعدما شابت رؤوسنا، وصلعت رؤوسنا، وتجعدت ملامح وجوهنا، ووهن عظمنا. لم نجد مكانا أجمل من مقهى (العرفة) في عمق ساحة سيدي أحمد أبركان، لما تحمله هذه الساحة من رمزية وإيحاء جميلين، علاوة على شعبية المكان وبساطته، ولأننا ارتأينا في كون قدسيته قد تساعدنا على شحذ ذاكرتنا الصدئة لاستعادة ما تعلق في جنباتها من حكايات الماضي... المكان بعرضه وطوله يحتوي على رموز تاريخية، ذات مرجعية فريدة من نوعها : فالسجن المدني يقابله مسجد كبير، وباحة اللقلاق الحر تقابلها قنطرة وادي شراعة الضيقة، ومقبرة النصارى تقابلها أخرى للمسلمين... مكان تقابلت فيه التضادات والتناقضات الصارخة، حولته إلى لوحة فنية حية، تتصارع فيها الألوان بين الأسود القاتم والمزركش الفاتح، وعلى مرأى أعيننا تطل أبواق عالية على سطح مستودع البلدية، التي كانت فيما مضى تعلن عن احتفالات المدينةالمتنوعة، في مناسبات الأعياد الوطنية والدينية، كما كانت تعلن بصوتها الحربي عن مواعيد الفطور والسحور في شهر رمضان الأبرك... لكن الزمان والحداثة أبيا إلا أن يخرساها، لتستسلم للخرس قسرا، مثلها مثل الكثير من الرموز التاريخية التي طمست معالمها في مدينة أبركان وفي العديد من المدن المغربية. وأنا هائم بين خيالات الماضي والحاضر، اخترق سكوني صوت جوهري : - السلام عليكم - وعليكم السلام - أهلا بكم يا أحباب الله... تفضلوا... توحشانكم... - واش وجدت لينا شي براد أتاي ؟ - هو الأول... براد معشب... والسكر ديال القالب... - براااافو عليك... دابا غادي تحلا الگلسة... - ماهو موضوع الجلسة لهذا اليوم ؟ - حقول العار بفيرما النوار... - أعتقد أنكم جميعا تربيتم في كنف فيرما السيكور... هناك تكونت شخصيتكم واشتد عودكم، ولقد حصلتم على شواهد عليا... أليس كذلك دكتورنا السي أحمد ؟ - بلى، لقد صدقتم القول أستاذي، مدرسة النوار، بما تحتويه من مآس، كانت بالنسبة إلي مفتاح النجاح، لقد علمتني كيف أواجه الحياة بالكفاح، وأن نيل المعالي ليس بالتمني، كل وردة كنت أقطفها، كانت تقوي عزيمتي وتذكي حماسي... حقيقة، كنت أتخيل مستقبلي عبارة عن حقول للياسمين، فرغم بعض الأشواك الحادة التي كانت تعترض طريقي بين الفينة والأخرى، كنت أتجاوزها بكثير من الصبر والجَلْد. تدخل البروفيسور قويدر دون استئذان، وبدا من خلال صوته متأثرا، تناول الكلمة بسرعة حتى لا تنقطع خيوط حكايته... فسرد علينا القصة التالية : كنت طفلا، هزيل البنية، من عائلة معوزة، مات والدي وأنا لم أفطم بعد، فتكفلت أمي بتربيتي... كنت أعمل في حقول النوار لشراء مستلزمات الدراسة، إذ كانت هذه الحقول ملاذي وملجئي الوحيد... أتذكر أنني بُشرت بنجاحي في الدراسات الجامعية وأنا مُغَبَّر أشعث الرأس وسط خطوط النوار؛ لقد جاءني مرسول صغير فقال لي وهو يلهث : - مبرووووك عليك النجاح... عانقته بشدة ووعدته بأن أعطيه ما كسبته من مال خلال الوزنة الأولى (عندما أتقاضى أجري في نهاية العمل)... شكرته على تبليغه إياي بهذا الخبر السار، ثم واصلت عملي وأنا أعانق باقات الياسمين وأشم أريجها... لأول مرة أحسست بشذى عطرها... سافرت إلى أوروبا لتعميق دراستي، وبعد بضع سنوات أصبحت عميدا لإحدى كليات جامعة السوربون التي يوجد مقرها بعاصمة الأنوار، مدينة باريس الفرنسية... فمن كان يتخيل أن يتحول هذا الطفل الياسميني إلى قنينة عطر غالية القيمة، تتهافت على بحوثه أعتى وأبهى الجامعات الكبرى. ناولته منديلا مسح به دمعة كانت تحاول الانتحار، أدركها واحتضنها في جوف منديله... انحنى على البراد، وسقى لنفسه كأسا معشبة، رشف جرعة صغيرة، ثم نظر إلينا نظرة المتحسر قائلا : - أعتذر، لقد أيقظت مواجعكم ؟ استبقته لتتمة الكلام وشكرته على هذه القصة المعبرة، وقلت في نفسي : سبحان الله، ما أعظم هذا التحول... من طفل يتيم إلى بروفيسور في أعظم الجامعات العالمية... فالحمد لله الذي يمهل عبده ولا يهمله... هيهات بين همة الأستاذ قويدر في عاصمة الأنوار، وبين مذلة الرومي Lebec في حقول النوار، الأول أصبح قامة من قامات الرجال، والثاني يا ما طال تعذيبه للأطفال. ملت بنصف جسمي نحو اليسار، فتفحصت ملامح مهندسنا الفلاحي " علي " فوجدته جد متأثر، بادرته بالسؤال عن قصته، تردد قليلا، ثم ربت على كتفي بعطف، واسترسل في الكلام دون توقف : - لم أكن يوما أتخيل نفسي أن الزمان سيحولني من مجرد خادم ذليل في حقول النوار إلى مهندس فلاحي أسيِّر مئات الهكتارات، أقدم لها خبراتي وتجاربي، لقد كانت فيرما السيكور مدرسة لنا، تعلمنا في حقولها الاعتماد على النفس، والثبات على المواقف والإحساس بالمسؤولية، ولقد انخرطنا في العمل النقابي من أجل الدفاع عن مصالح العمال، بالرغم من المضايقات الكثيرة التي كانت تعترضنا آنذاك... في أواخر الثمانينات تم اجتثاث شجيرات الياسمين بأكملها، ولم يعد يسمع أنين اليتامى والمحرومين... لقد تم دفن ماضينا المهين ووَأْدُ جزء من تاريخنا الحزين... لكن ستبقى ألسنتنا تستعيد ما تبقى من ذكرياتنا، لنقدمها باقات ياسمين للأجيال القادمة، كي تحولها إلى قصائد وأناشيد يتغنى بها الزجالون وشيوخ الگصبة، مصحوبة بمواويل يتردد صداها بين فجاج جبال بني يزناسن، وتتلذذ بسمعها الآذان من أعالي فوغال وآلمو ومن قمم جبل بوزعبل...
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : طبعا، لم يكن النوار مصدرا للمآسي والآلام فقط، لقد كان أيضا محفزا للعديد من الأطفال والشباب على تخطي الصعاب بالجلد والصبر، وتحمل وزر الظروف القاسية التي كانت تخلقها لهم فئة مستبدة ذاب أثرها الآن... لقد كانت هناك آمال وأهداف مستقبلية لا بد من تحقيقها، وقد أتى الأخ محمد مهداوي على ذكر بعض من نجحوا في تحقيقها بامتياز من الناحية العلمية والمهنية. وهناك أيضا من اكتفى بالنجاح في صقل مروءته وهمته منذ صباه، لم يحالف الحظ بعضهم لمتابعة دراساتهم، لكن النوار علمهم الجد والمثابرة في مواجهة الحياة بالاعتماد على النفس لكسب قوتهم وقوت عيالهم الذين يوجد منهم من نجح في حياته وفي رد الاعتبار لوالديه. من ضمن معارفي، أذكر أحد الإخوة الذي مر بفيرما السيكور، هو الآن واحد من أكبر دكاترة دولة في مادة الرياضيات على الصعيد الوطني والعالمي، له كرسي عضو في كوليج دو فرونس بباريس، بروفيسور تقوم باستضافته جامعات غربية للاستفادة من أعماله وصيغه الرياضية، ورئيس لعدة لجن مناقشة لأطروحات نيل دكتوراه الدولة في الرياضيات داخل المغرب وخارجه... يتقن عدة لغات... أرجو أن يتفهم القراء تحفظي عن ذكر اسمه.
الحلقة السابعة : مقالب النوار
لم تكن فيرما السيكور كلها معاناة، ولم يفلح الكابرانات في التحكم في قلوب العمال، وكبح جماح سكناتهم وهمساتهم، بل استطاع مجموعة من الشباب والشابات خلق عالم مواز لعالم الحگرة والمعاناة، حيث خلقوا هوامش من الترفيه والتنفيس عن الذات، من خلال الشرائك والفخاخ التي كانوا ينصبونها لبعضهم البعض، ربما كعملية تنفيسية، يفرغ من خلالها العمال شحنات زائدة، من الطابوهات المكبوتة بين ضلوعهم وجوارحهم، للتخفيف على أنفسهم، وتهدئة ضمائرهم. ولعل أهم المقالب التي كانت متداولة بين العمال، هو خلط أحدهم النوار بالحشيش أو بالتراب خفية في درعية شخص آخر، حيث كان يفاجأ هذا الأخير أمام الميزان، فيتم نهره وقد يتم حرمانه من ثمن النوار، فلم يكن يهدأ بال بعض الشباب حتى يورط غيره ويبني له فخا ليذيقه نفس العلقم الذي سبق له أن ذاقه بنفسه. كما أن كل من أغمض جفنيه، سيجد حتما (درعيته) فارغة، لأن وطاويط الليل قامت بفعلتها في غفلة من ضوء القمر. حقيقة، كانت ليالي النوار الحالكة مسرحا لكثير من المقالب والنوادر الفذة، حيث كانت تستعمل ألوان مختلفة من المكر والخداع للإيقاع بالآخر، أو حياكة أدوار مختلفة من أجل إيقاعه في الشَّرَك كما يوقع الفأر الخلوي. ولقد غفوت يوما لدقائق معدودة، فتم ازدراد مؤونتي من البيض المقلي مع الطماطم، كما أُفْرِغت قنينة ماء ملوث على جزء من سروالي، دون أن أشعر بشيء لتلصق بي تهمة التبول اللاإرادي... عالم غريب حقا، فكلما أتذكر هذه المقالب، رغم قساوتها، تثير في كثيرا من الضحك الذي قد يصل أحيانا إلى حد الإغماء. سألت يوما أحد أصدقائي عن أصعب مقلب وقع له في فيرما السيكور، قهقه حتى بانت نواجذه ثم استرسل قائلا : في ليلة من ليالي شهر غشت الساخنة، بينما كنت أتناول عشائي، بين خطوط النوار، وفي غفلة من الزمان، أتى صديقي إبراهيم بشيء ما ووضعه في قِيعَة درعيتي وغطاه بحفنات من النوار، لم أنتبه اللحظة إلى ذلك إلى أن بان أثناء عملية الوزن الأولى، حيث أدخل الكابران حسن يده في الدرعية ليتفقد حالة الورود التي في القاع، فأخرجها ملطخة بذلك الشيء الذي كان برازا، فاحت رائحته الكريهة وعبقت المكان، وأرغمت كل من في الموقع على أن يدير رأسه يمينا أو شمالا لتجنب العدوى... شدني الكابران من خصري بقوة، فمسح بما تلطخت به يده على رأسي أولا، ثم طَلى ما تبقى منه على وجهي وكأنه قد طلى عليه مرهما... لم يكفه تطبيق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، وإنما أضاف إليه تنفيذ القصاص، فجرني جرا إلى الماگازا، بت فيها ليلة كاملة كانت قاسية بالنسبة إلي، ناجيت خلالها الفئران والصراصير والجنادب فألفتني وألفتها وتقاسمنا العشرة الليلية سويا في أمن وأمان... لم أكن أعرف صاحب هذه الفعلة المستنكرة آنذاك، وما عرفته إلا بعد مرور ثلاثين عاما، عندما أراد إبراهيم أن يكفر عن ذنبه، فصارحني بما في قلبه. نفس المقلب كان يحاك بطريقة أخرى، للإيقاع بزميل من زملاء العمل : بعد قضاء حاجته، يأتي صاحب الحاجة على وضع حُفْنَة من النوار على برازه، ليوقع بأحد المغفلين الذي سيظن أن الحفنة هبة نزلت من السماء وانبسطت على الأرض تنتظر من يستلمها ويضيفها إلى ما جناه من ورود، فينزل عليها بيديه النظيفتين ويجمعها بتلهف وتلقف شديدين... كان المتواطؤون في المكيدة في ترقب دقيق لتلك اللحظة التي سيصيح فيها الضحية المغفل بالسب والقذف والشتم في فاعل هذه الفعلة الدنيئة، دون جدوى، لأنه يجهل هويته. مقلب خطير لم يكن يستمتع به إلا محبو الإجرام من الشباب، إنه " التشقاف " : يلقي أحدهم بحجر في السماء خلفه حتى لا تشير إليه أصابع الاتهام، قد يصيب هدفه وقد لا يصيب، إن أصاب وسقط الحجر على رأس أحد العمال فذاك أمر خطير قد يؤدي بالمصاب إلى الإغماء من شدة النزيف، فيتدخل المسؤلون، وينقل إلى الإدارة لتلقي الإسعاف الأولي، حينذاك كانت تتم معاقبة الجميع ممن هم في نفس الحقل بتأخيرهم عن الميزان، أو بعقاب آخر بنفس حجم الضرر، أما وإن سقط الحجر على طرف آخر من أطراف جسمه دون سيلان الدم، فما على المصاب إلا الصراخ والتشكي للكابران الذي لم يكن له حول ولا قوة أمام هذه الظاهرة الإجرامية التي لم نسمع أبدا عن إيقاف المتورطين فيها. لحسن الحظ، قليلا جدا ما كان يحدث هذا النوع من السلوك اللاأخلاقي.. خصوصا عندما كان يصاب أحدهم وينتشر الخبر ويعلم به كل العمال. كان قدامى النوار والمتمرسون في الحرفة، لا يرتاحون إلا عندما يصطادون خروفا وديعا، يعلقون على رقبته ناقوسا، يجعله ملهاة للآخرين... حتى الفتيات كن يشاركن في مثل هذه المقالب الفذة بما يمليه عليهن خاطرهن من مكائد، كان منهن من يستغللن صوتهن الجميل في الغناء، وكن يطلبن منا التصفيق، فنرضخ لهن طواعية... فمن ضمن ما كن يقدمنه طعمة سائغة للرجال ترديدهُن بصوت جميل : - يا ولا نا نا نا نا نا... - آ وْليدات بَركانْ آ الزُّعَما الْكارْ قَلَّعْ گولُو بَسْلَاما كان يعجبنا هذا المدح الجميل، فنغوص في حلاوته حتى قفا رؤوسنا، لكن حين ينتهي الغناء نحس بأننا وقعنا في مقلب كبير... لم يكن يسعفنا الانهماك في التصفيق على ملء قففنا بالنوار، إذ كانت مكيدة تنتظر منها الفتاة أن يخسر منافسوها المزيد من الدراهم، لقد صدق صديق لي في التعبير عن مكايد النساء عندما أورد مثلا شعبيا يقول : إلى عمدو عليك النسا يلبسوك الغنسة. ومن هذه المقالب أيضا ما روِيَ لي من أن بعضهم كان يَقْدَمُ في حلكة الليل على تغيير صوته يقلد به صوت شخص آخر، فينادي الكابران بلقب حقير يُعرف به، أو ينسب إليه صفة مسيئة تثير غضبه، فيأتي الكابران إلى الشخص المُنْتَحَل صوْتُه فيعاقبه ظلما دون سابق إنذار ولا استفسار. ........................... - الماگازا : مستودع للأدوات والأدوية الفلاحية، يحبس فيه أيضا كل من سولت له نفسه الإساءة إلى مسؤول أو انتهاك القوانين المرتجلة.. كان يصطلح عليه أيضا اسم الكاشو. - الغنسة : لحاف أو رداء كانت تلتحفه المرأة، أو تربط به الطفل وهي تحمله على ظهرها.
الحلقة الثامنة : الفاجعة
كنا نعشق كرة القدم، نمارسها ونحن لا زلنا صغارا، نستعمل بعض الأثواب الرثة، نستديرها ونمسكها بخيط، لتحل محل الكرة، فنبدأ بمداعبتها، من قدم لقدم، ومن رأس لرأس، وحين تنفك الخيوط نعيد مسكها بقوة، وهكذا دواليك حتى يسدل الليل ستاره، ومع ذلك كنا نحس بمتعة لا توصف، خاصة وأنها ساهمت على خلق أواصر الألفة بيننا، نتشاجر اليوم ونتصالح غدا. ارتأيت أنا وأخي الصغير رفيق الذهاب إلى فيرما النوار للعمل، للحصول على بعض النقود لشراء كرة بلاستيكية وحذاء ( قز ميكة )، لنمارس هوايتنا بشكل أفضل، فعلا ضبطنا المنبه على الثانية ليلا، نهضنا واتجهنا نحو محطة (الريمورك)، ننتظر وصوله، حيث كان ما زال يستجمع العمال من جميع أحياء مدينتنا، لمحال، بويقشار، المكتب، الطحطاحة، سالم، بوهديلة… كان الجو حارا هذه الليلة، والقمر بازغا، لو ضاعت منك ابرة لوجدتها في رمشة عين… ركبنا الريمورك، وكانت ممتلئة عن آخرها، تزاوج بين الذكران والإناث، اصطحبت أخي رفيق بجانبي، حشرته وسط العمال لكي يحس بشيء من الدفء، امتزج ضجيج المحرك بضجيج الأطفال، هناك من كان يغني وهناك من كانت تزغرد، وهناك من كان يصفق للاثنين، كأنك في ساحة سيدي أحمد أبركان التاريخية مع الشيخ احمد ليو أو مع عبد الله المكانة... ولكي نثير ثائر السائق كنا نردد بصوت جهوري : زيد زيد يا شيفور …. زيد شوية فالموتور وغالبا ما كان يستجيب لنا السائق، فكنا نستفيد بسرعة زائدة ربحا للوقت، دون النظر إلى الكوارث التي قد تحدث لو انقلبت الريمورك على عقبها لا قدر الله... فلم نكن أبدا نبالي بأخطار النوار. بدأنا قطف النوار في خطوط الياسمين، وضعت أخي رفيق في الجهة المقابلة لي (الجهة الخاوية)، وكنت أقدم له يد العون في كل مرة، أرسل له بعض تقنيات (التقجدير)، لكي تخف يداه ويرفع من مدخوله اليومي، ويحقق أمنية شراء كرة قدم جميلة، تساعدنا على القذف وتسجيل الأهداف بأريحية تامة.. في تلك اللحظة سافرت مخيلتي مع مارادونا، رومينيغيه، ليتبارسكي والتيمومي... وغيرهم من عمالقة الكرة المستديرة، الذين مرت لوحاتهم الكروية أمام عيني شريطا مسجلا، أتقمص تارة دور مارادونا وتارة أخرى دور رومينيغيه... والمتعة تكاد تقفز من عيني البريئتين. فجأة، وفي حدود الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الجمعة، اخترق سمعي صوت مدوي، هز كل كياني، وبعثر عروق رأسي، أربكني وأربك كل من كان منهمكا في جني النوار : إنه صوت أخي رفيق وهو يصارع الموت إثر قبضة حديدية على الأسلاك الكهربائية العالية القوة…، صعقته فامتصت دماءه وألقت به جثة هامدة على الأرض المبللة بالندى، تجمع الناس والكابرانات والرومي... ولما تفقده الكابران حسن... وجده قد لفظ أنفاسه الأخيرة رحمه الله، وكان ذلك أمام عيني، فكانت الصدمة قوية وأنا أشاهد أخي يصارع الموت بين خطوط النوار، بكى الكل بحرقة، وأغمي علي لبضع دقائق، لما استفقت وجدت نفسي في مستشفى الدراق، نهضت من سريري، حملقت في الحضور، فإذا بي أمام أسرتي، والدمع يملأ جفون والدتي، اقتربت مني وقبلتني على جبهتي، فأحسست ببعض الإطمئنان، لكن صورة أخي قفزت إلى مخيلتي : - أين أخي الصفير رفيق ؟ - اهتم بنفسك يا ولدي، رفيق سافر بعيدا... بعيدا... لن نره ثانية… لقد اختاره الرفيق الأعلى... لقد مات شهيدا. أجهشت بالبكاء مرة ثانية، تذكرت الصعقة الكهربائية، وترددت إلى سمعي آخر صيحة أطلقها المرحوم... ومن يومها، كرهت الكرة ومن يشاهدها، لأنها لم تزل تذكرني بالفاجعة المؤلمة... وفي نفس اليوم سمعت والدي يهمس لوالدتي بكلام الواثق من نفسه قائلا : أقسم بالله أنني سأمنع أولادي الصغار عن العمل مهما كانت الظروف... فما دمت حيا سأكافح من أجلهم حتى يشتد عودهم... لكنني لا زلت أحس بأنني كنت سببا في موت أخي، وإن كان ذلك قضاء الله وقدره... فاللهم غفرانك... اللهم غفرانك… اللهم غفرانك.
قراءة ذ.محمد موح عجاجي للقصة : لم يكتف المعمر بتعذيب الأطفال جسديا أو نفسيا أمام زملائهم، لا ولا بحبسهم في مستودعات الأدوية السامة مع الفئران، أو باستغلال براءة الفتيات لخدمة مصالحه الشخصية... فلم يكن يظهر منه ولو بصيص من الرحمة والشفقة للتخفيف من آلام هؤلاء الأبرياء وإن كان يقدم لهم أجرهم البخيس والمستحق بعد نهاية العمل، بل لم يكن يراعي حتى سلامتهم أثناء العمل... لم يذهب ضحية هذه الأسلاك الكهربائية الطفل رفيق رحمه الله وحده، بل لقد صعق شبان آخرون كما صعق أيضا أحد الكابرانات. لم تكن عائلات الضحايا تتلقى تعويضات مالية عن فقدان أبنائها الذين صعقوا أو غرقوا في قناة واد ملوية أثناء فترة العمل، ولا عن أولئك الذين لقوا حتفهم بالسقوط من الريمورك، أو صدمتهم سيارة أثناء التوجه إلى العمل أو العودة منه... كل هذه الجرائم كانت مع الأسف مجانية. لقد وضعت أصبعك أخي محمد مهداوي على محل الألم وضغطت عليه بقوة في هذه الحلقة لدرجة أنه لم يعد أحد يتحمل شدة الألم... فبعد أن ذكرت لنا في الحلقات الأولى معاناة العمال من جراء التصرفات الاستعبادية التي كانوا يعاملون بها، وبعد أن خلقت فينا شيئا من التفاؤل بالحديث عن بعض رجالات النوار، وحاولت ان تعيد لنا البسمة بسرد عينة من الطرف والمستملحات في حلقة المقالب، ها أنت الآن تعود وتهوي بنا إلى قاع البئر لتغرقنا في غياباته بهذه الفاجعة المؤلمة التي تعبر عن مدى التطرف في الممارسة الهمجية التي كان يتصرف بها المعمرون وأذنابهم مع المستضعفين الأبرياء في حقول العار... رحم الله الطفل رفيق وكل من لقي حتفه في هذه الضيعة المشؤومة.
الحلقة التاسعة : حادثة مفزعة
ونحن ننتظر الإعلان عن الوزنة الثانية والأخيرة في حقول النوار بفيرما السيكور، نتحسس بآذاننا صوت هدير التراكتور (الجرار)، وهو يقل على ظهر عربته سللا عملاقة من قصب يتوجه بها إلى محل الميزان، ليملأها بزهور الجاسمين التي يتم وزنها، كان يفعل ذلك مرتين في اليوم، لكن المرة الثانية هي الأهم، حيث كان الكل ينتظرها ويتسرع لأن يكون من الأوائل في الصف، لأن الكل كان يرغب في العودة إلى منزله مبكرا. كنت طفلا فطنا ويقظا، وفور سماعي للهدير، قفزت من عمق خطوط النوار بسرعة القرد نحو مكان الميزان، لأتمكن من أكون في أول الصف، كانت هذه هي عادتنا كل يوم... وفعلا نجحت وكسبت الرهان... وبينما أنا اتصارع مع زملائي للحصول على مكان مطمئن في الصف، حدثت كارثة لم أكن أتوقعها؛ داست عجلة الجرار الضخمة أصابع قدمي اليسرى وبقيت مسحوقة تحتها إلى أن سمع السائق صراخي بعد بضع ثوان فتقدم بالجرار. رغم شدة الألم، بقيت صامدا في مكاني أنادي أخي محمد بصوت عال لعله يأتي ويأخذ مكاني، لم أفكر ولو مرة في مغادرة الصف لأهمية المرتبة التي كنت أحتلها، إن ضيعتها ضاعت كل جهودي ولن تتاح لي فرصة أخرى مثل هذه... بدأت أصيح... وأصيح.. دون جدوى، لا أحد يكترث لصراخي، ولا أحد يرفق بحالي أو يبادر لإنقاذي، الكل منشغل بالحفاظ على المكان الذي حاز عليه أمام الميزان... ناديت أخي محمد من جديد بأعلى صوتي، كررت النداء عدة مرات والدمع يسيل من جفني، يتدفق بغزارة على خدودي، أحاول مسحه بيدي المتسختين بالتراب، حتى امتزج الدمع به وصار وجهي يقطر وحلا... بعد جهد جهيد، وصل أخي، فأحسست بشيء من الطمأنينة، وأطلقت العنان للبكاء من شدة الفرحة والألم في آن واحد، فاضت دموعي وانهمرت... اقترب مني وربت بيده على كتفي والرعب باد على وجهه، ثم خاطبني مندهشا : - وياك لباس ؟! - التركتو فات على رجلي... راها توجعني بزاف… - لا باس إن شاء الله... خلي عليك الميزان، أجي معايا نخرجو من هنا. ولما رأى أنني لا أقدر على المشي حملني على ظهره وأخذني إلى بر الأمان، فاستسلمت له كخروف وديع، تفقدنا (التيكي)، أي التوصيل الذي يسجل فيه ثمن الوزنة الأولى، ولم نجده، ضاع مني وأنا أحاول فك قدمي من تحت عجلة الجرار... ماذا عساي أفعل؟ ستعاقبني أمي على تهاوني هذا، وستعيرني بكوني لا زلت طفلا ولم أعد بعد رجلا… هكذا كنت أرى الأشياء بالرغم من أن والدتي حفظها الله كانت ترأف بنا، وتتفهم الظروف، ولم يكن يهدأ لها بال إلا بعد أن ترانا أمامها غانمين سالمين. استوقفني أخي محمد فطمأنني، وأكد لي أنه سيتدخل لحل هذه المشكلة، كان أكبر مني سنا وكلامه كان مسموعا لدى جميع أفراد الأسرة، كنت في الحقيقة أتوقع أنه سيضربنى، لكنه تفهم الموقف ولم يعر لفقدان التوصيل أي اهتمام... طلب مني أن أهتم بنفسي وألا أقلق، ما دام هو المسؤول عني عارفا بظروف الحادثة وأسبابها. قربني من إحدى مجاري المياه، بلل رأسي بالماء، وغسل يدي ووجهي، ثم أعطاني طرفا من الخبز، أردت مضغه لكنه كان صلبا، بللته بالماء ثم شرعت في قضمه مع حبات جزر كالأرنب البري... ولما أحس بالجوع يقرص معدتي، أسرع إلى الحقل المجاور لقناة ملوية للري، أخذ دلاحة كبيرة، ثم عاد وضربها على رأسها بقبضة يده القوية فتهشمت إلى أجزاء صغيرة، ودون النطق بالبسملة، التهمتها التهاما، أعجبتني حلاوتها وراقتني حمرة وجهها، أحسست يومئذ أنني تذوقت أجمل وأحلى دلاحة في حياتي… وإن خف عني الوجع قليلا في تلك اللحظة، فإن آثار العجلة بقيت مرسومة على أصابع قدمي أثبت الطبيب فيما بعد أن اثنين منها أصيبا بالكسر، لكنه لم يوفق في جبر قلبي المنكسر من جراء أساليب الضغط والظلم والاحتقار التي كانت تمارس على عمال فيرما النوار أجمعين. بعد لحظات، سمعنا هدير محرك الريمورك وهي تتأهب لنقل الورود الموزونة إلى المعصرة، حملني أخي مرة أخرى على ظهره وألقى بي على حافة عربة الجرار الخلفية، استجمعت كامل قواي، زحفت على بطني بضع خطوات أبحث عن متكإ أتكئ عليه، فوجدته في عمق الريمورك. لما علم أصدقائي بما جرى لي، تضامنوا معي ببعض الفرنكات، وتعجبت للأمر، وقلت في نفسي : سبحان الله، لا يحس بالضعيف إلا من هو أضعف منه… وحينذاك تردد في أذني كلام الكابران وهو يزمجر بصوته المدمر كالرعد ورجلي لا تزال تحت عجلة الجرار : - هزو لحمار... لهلا يهون عليه... أما الرومي فقد صرخ في وجهي بفرنسيته المرموزة، حيث لم أفهم معناها إلا بعد مرور زمن غير قصير : Sale bête ! il a failli renverser ma remorque ! نزلت دمعتان حارتان من مآقي عيوني، تركتهما تهيمان على خدودي ليتلاعب بهما الريح يمنة ويسرة، وعندما سقطتا على حافة الطريق دهستهما السيارات عدة مرات دون أن أسمع لهما أنينا ولا تأوها،حينذاك أحسست بأن الإنسانية في خطر، وعرفت أن المشاعر والعواطف قد اضمحلت بين فصيلة بني البشر...
الحلقة العاشرة : اغتصاب وردة الجاسمين
لن أنسى هذا اليوم أبدا، كان يوما مشؤوما، تلفه الكثير من علامات الغدر والخداع، حيث سقطت الإنسانية في الوحل، وتلطخت براءة الطفولة بالإثم والخطيئة. لا أعتقد أن الكثير من العقلاء يستسيغ ما حدث، إلا إذا كان عديم الأخلاق؛ لقد سقطت ورقة من أوراق الخريف في عز الصيف، في غفلة من الزمان، وعلى مقربة من بشر لا يسعني وصفهم إلا بالغوغاء والدهماء... رغم تساؤلات الجميع عن كنه غيابي وسر ابتعادي عن حقول العار، لم يجرؤ أحد البحث عني... تساؤلات... همهمات... إشارات… همز وغمز ولمز... لكن دون القيام بخطوة واحدة بسيطة، ربما كانت ستنقذ شرفي، وتعيد لي أنوثتي، لن أغفر لكم وله... لقد استغل سلطته وراودني عن نفسي، مستعملا مختلف أساليب المكر والخديعة... ماذا تفعل طفلة غضة في الثانية عشر من عمرها إزاء وحش جامح ! ... لقد خرس لساني وتسمرت قدماي، لم أعد قادرة على إظهار أية ردة فعل، لقد خشيت من الفضيحة النكراء، ماذا يفعل المظلوم أمام جلاده ؟ ماذا يفعل الخروف أما م الذئب ؟ نعم، لن أنسى هذا اليوم المشؤوم، فقد أثر في كثيرا، أفقدني الثقة في النفس، تزوجت بعد ذلك ، لكني ما زلت أحس بأنني خائنة، لم أستطع البوح بحكايتي هاته لبعلي، ربما لو أفصحت له عما بي لخفت شرارة الألم في أعماقي، لم تعد لي الشجاعة الكاملة لمواجهة الغير، وكان لذلك أثر بالغ في تربيتي لأولادي، خاصة منهم البنات، إذ غالبا ما كنت وما زلت أتحسس مناسلهن بدعوى التبول، أو بتقديم عذر آخر... أما إن تأخرت إحداهن عن المنزل، فتلك قصة أخرى، أجدني كالمجنونة، أهرول بين الدروب وأخيط الطرقات باحثة عنها، أو قاصدا مدرستها، متسائلة... متذمرة... متعصبة.... مما أثارحافظة هيئة الإدارة التي تعجبت لتصرفاتي ووجدت فيها شيئا من المزايدة والمبالغة… حتى أن أحدهم نصحني بزيارة مختص نفسي قصد التخلص من هذه العقد المدمرة... هذه الحادثة الشنعاء حولتني إلى امرأة عمياء، وتحكمت في الكثير من جوانب حياتي، فصرت كلما رمقت قفة أو درعية انْهَرْتُ أرضا... بل أسرعت الخطى في اتجاه المجهول، بعيدا... بعيدا… دون معرفة المكان الذي أقصده، منعت على نفسي كل ملذات الزينة، وعلى رأسها العطر الذي يذكرني بأريج الجاسمين، والذي كنا نشتمه بين خطوط النوار في حقول العار… لقد تولد لدي نوع من الفوبيا لكل ما يرتبط بالنوار، إذ كلما رأيته اهتاجت نفسي واضطربت، وصرت أعيش حالة غير طبيعية، إنها حساسية رهيبة وشعور من نوع خاص، يذكرني باليوم الذي سقطت فيه أواق خريفي في الوحل، رغما عني ودون سابق إنذار، وتلطخت عفتي بحَمْأة العار... فمنذ هذا اليوم الدافئ، حفرت رمسا للإنسانية، ودفنتها دون مراسيم الجنازة، ثم ارتديت ثياب الحزن والأسى ولازمت الحِداد ولازمني لحد كتابة هذه السطور... حقيقة، كانت تراودني عملية الانتحار في العديد من المرات، هواجس كثيرة أصبحت تعكر صفو حياتي، وتزيدني ألما، ولا أزال أبحث لها عن حل يرفع عني نَيْر هذه الغصة القاتلة... وكلما استجمعت فرائصي لأبوح لبعلي بما يؤرق نفسيتي ويثير ضغينتي، تصدع كل شيئ وباءت خطتي بالفشل، واستكنت إلى فلذات كبدي الذين كانوا يطوقونني من كل جانب كلما رأوني في هذه الحالة، كم أنا خائفة أن تتفكك أسرتي وينهار بيتي الذي بنيته منذ ثلاثين عاما… حكم علي الزمان أن لا أتوقف عن البكاء العمر كله، لكنني سأجعل من عبراتي المالحة زوبعة مدمرة لكل حقل من حقول العار المترامية في سائر أرجاء وطني، كم وددت أن أكون رمزا للطهر، حمامة سلام للإنسانية، غصن زيتون لليتامى والثكالى، أحمل همومهم وأنفس عنهم ضغائنهم السرمدية، كم تمنيت أن أكون صك غفران أكفر به عن ذنبي، وأطهر به تلك القلوب المنكسرة، الحاملة لأكثر من هم، حتى تسترجع عُذْريتها، شرفها وكرامتها… لقد بحت لكم الآن عما أرق نومي وقض مضجعي مدة ثلاثين سنة، والآن فقط، ومعكم، أحسست ببعض الراحة، بعدما ذرفت من الدموع أنهارا وبحارا خلال هذه السنوات الطويلة، أتمنى أن تكون قد طهرت بدني وغسلت ما لحقني من دَرَن، فكل ما أتمناه هو أن تستقبلني وسادتي بالاحضان هذه الليلة، وترفق بي بعدما عقتني وهجرتني مدة طويلة... فاللهم اجعل لي من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، غفرانك اللهم غفرانك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحلقة الحادي عشرة ( الأخيرة ) : 403 المجهولة
في حدود الثامنة ليلا، ولجنا بوابة سينما ملوية الواسع، فاستقبلنا باب صغير تراقب من خلاله التذاكر، لم يكن ثمن التذكرة العادية يتجاوز ثلاثة دراهم ،حيث كنا نجمعها ببيع أكياس البلاستيك في السوق الأسبوعي يوم الثلاثاء، أو ببيع الماء يوم الجمعة لزائري مقبرة مولاي الطيب الوحيدة آنذاك، الموجودة على هضبة " لكدية " المطلة شرقا على الطريق الرئيسية المؤدية إلى مدينتي أحفير ووجدة… تصفحت رقم تذكرتي بواسطة ولاعة، فوجدته رقم 27 ،حقيقة هذا الرقم لم أكن أتفاءل به، سعدت كثيرا حين وجدت مكاني محجوزا، فكانت فرصة سانحة بالنسبة لي لتغيير مكان آخر ، تلمست المقاعد مقعدا مقعدا، لأن الظلمة كانت حاجزا يمنعني من تمييز أماكن الجلوس، فجأة تم تسليط ضوء قوي على المقاعد من طرف ( الزينون )، فبالرغم من أنه كان أبكما، إلا أن فضائله كانت جمة على مرتادي تلك السينما، اخترت مكانا مواجها للشاشة العملاقة، ألقيت بنفسي على الكرسي وجلست أتصفح المتفرجين فترة قصيرة من الوقت، إلى أن تم تسليط الأضواء على الشاشة .بدأ الضوء يرسم عدة دوائر ومثلثات على صفحتها البيضاء، فتحولت إلى قوس قزح أرضي، رافقتها موسيقى رقصة الأطلس، فاندمجت الأضواء والموسيقى الصامتة في سمفونية جميلة، استحسنتها فأحسست ببعض الراحة النفسية وتهيأت لمتابعة الفيلم. بعد لحظات، بدأ عرض الشريط الهندي التاريخي المؤثر (أمنا الأرض Mother India) ، كانت قصته تدور حول حب الإنسان لأرضه و مدى تشبثه بها، أدمعت عيناي عدة مرات من شدة وقعها على نفسيتي... حقيقة، تمتعت بهذه القصة الرائعة فلا تزال لحد الآن منقوشة في عمق ذاكرتي. جاء دور عرض الفيلم الثاني الذي كان بوليسيا رتيبا، جعلني أغفو فوق كنبتي، يخطفني النوم مرة وأستفيق منه أخرى كلما سمعت صوت طلقات الرصاص، أو كلما تم اقتطاع جزء من الفيلم عنوة فتتعالى معه أصوات الجمهور مستنكرة : - قَشُّوطة الشفار… قَشُّوطة الشفار... إذا كان " قَشُّوطة " ذلك الشخص الذي يسهر على عرض الأفلام في سينما ملوية، يكتئب ويمل من شدة طول فترة عرض الشريطين، فأنا أيضا لم أكن قادرا على متابعة الفيلم الثاني، أثر العياء على جسدي النحيف، فدخلت في غيبوبة نوم لم أستيقظ منها إلا بعد أن أشعلت مصابيح القاعة، وسمعت شخصا يناديني بصوت جوهري : - نوض... نوض... راه كمل الفيلم... السينما ما تبيتش… مسحت عيني بكمي يدي، غادرت القاعة مسرعا، ثم انحشرت في الشارع الرئيسي للمدينة، وبعد فترة من الزمن أحسست بنسمات باردة تلفح وجهي فأرجعت إلي كامل وعيي… مشيت عدة مترات حتى وصلت المسجد العتيق، وهو غير بعيد عن السينما، حيث وجدت أخي قابعا مع مجموعة من أصدقائه على كنبة اسمنتية، ينتظرون الريمورك للذهاب إلى فيرما السيكور لقطف نوارالجاسمين، ناولني أخي درعيتي، وألقى لي بنصف خبزة معه حبتا طماطم كبيرتان، أخذتهما ووضعتهما في القفة على مضض، واستقلت مكانا دافئا وسط المجموعة، أتقي بها البرد حتى لا يتسرب إلى جسمي النحيف... حوالي الثانية ليلا، بينما نحن ننتظر قدوم الريمورك، إذا بسيارة مجهولة من نوع پوجو 403 رمادية اللون، تتوقف أمامنا وقفة بوليسية، فمن شدة الوطء على دواسة الفرامل، خلفت وراءها خطا مستقيما مرسوما على الطريق... كان يستقلها أربعة أشخاص، وقفنا مشدوهين... وجوههم الملثمة كالنينجا لم تكن تساعدنا على معرفة هويتهم… رباه... إنهم يتجهون نحونا بعصي غلاظ ، يلوحون بها في السماء، لم يكن يبدو من صفحة وجوههم إلا أعينهم إذ كان الشرر يتطاير منها ، تفرقنا بسرعة البرق دون منحى محدد، والهلع يكاد يقتلنا، بدأوا يصرخون ويزعقون مرددين : - عودوا إلى منازلكم، إنهم يستغلونكم... عودوا إلى منازلكم وإلا ستلقون منا أشد العذاب... فعلا أصابنا الذعر، رجع البعض منا إلى بيوتهم منهزمين، أما نحن، قررنا مواصلة المغامرة ننتظر خفية قدوم الريمورك من بعيد إلى أن أقبلت، اتجهنا نحوها مسرعين حذرين، فأقلتنا كالخرفان نحو حقول العار، كنا مصرين على الذهاب إلى العمل في تلك الليلة، لأن همنا الوحيد هو الحصول على بعض الدريهمات لشراء الأدوات المدرسية، وقضاء يوم أو يومين على شاطئ السعيدية… أربعون سنة مضت على وقوع هذا الحدث المرموز، وما زلنا لحد هذه اللحظة لم نفهم سر الهجوم الذي تعرضنا له، لو كان من أجل المال لاتضح الأمر في حينه، ولو كانوا سكارى لبانت عليهم علامات السكر... تركونا نؤول ونحلل بطانة هذا الهجوم، نبحث عن الأسباب دون أن نجد لها تفسيرا، حادثة تبقى مشوبة بكثير من الغموض، بحثنا لها عن التخريجات المناسبة لكن دون جدوى، مهما حاولنا فك رموزها سنظل غارقين في مستنقع العجز، لذلك لا يزال السؤال مطروحا، وكل واحد منا له الحق في التحليل والتأويل ، لكن من يدري، قد يأتي يوم تظهر فيه الحقيقة من أفواه أناس لم نكن نعرهم أي اهتمام... أما أنا، فقد أنبأتني سريرتي بأن أولئك الناس كانوا يريدون لنا الخير ، لقد كان يغيضهم ذلك الإضطهاد والتعذيب الذي كنانتلقاه من الكابرانات في حقول العار ، لقد اختاروا هذه الطريقة المستفزة و غامروا بأنفسهم ليوصلوا أصواتهم الرافضة لمن يهمهم الأمر ، خاصة وأن فترة السبعينات كانت صعبة و هامش الحرية كان أضيق من سم الإبرة ...
مجموعتي القصصية...حين يبكي القمر...والمعروفة سلفا بحقول العار تم طبعها ولله الحمد بوراقة ومطبعة بلال بفاس ... أقدم خالص تحياتي لكل من قدم لنا العون أو ساهم في تشجيعنا لإخراج هذه العصارة الفكرية للوجود... ملحوظة: ضمنت مجموعتي قصصا واقعية لأناس من دم ولحم تم استغلالهم في حقول النوار ... علاوة على تدويني لتعليقات الإخوة حول الحقول...لتكون المجموعة منكم وإليكم...هنيئا لنا جميعا بهذا الإصدار ...
"حين يبكي القمر " للقاص و الزجال محمد مهداوي
دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة للمجموعة القصصية ( حين يبكي القمر/ حقول العار) . عنوان الدراسة : التوثيق التاريخي بلغة مفاتن جسد القصة القصيرة
أولا : التقديم تضعنا المجموعة القصصية ( حين يبكي القمر / حقول العار ) لمحمد مهداوي داخل ما يسمى عند البعض ب " قضية الأدب الوثائقي " ، أو عند البعض الآخر ب " قضية الكتابة التوثيقية " ، وهما معا أقرب إلى الريبورتاج ، وأبعد من الخيال الجامح . هي قضية تطرح علينا مجموعة من الأسئلة ، منها : هل يمكن أن يكون هناك أدب خيالي دون عمق واقعي ؟ وهل يمكن أن يوجد أدب للواقع دون خيال ؟ . وهذه الأسئلة طرحت على الأدب العربي شعره ونثره قديمه وحديثه ، فطرح جدلا بين النقاد ، لكونه يصعب حده التجنيسي أو تصنيفه ، مثل “ ذات ” لصنع الله ابراهيم أو أعمال محمود درويش الشعريّة التي تدور حول جوانب من سيرته الذاتية ، وغيرهما . يقول " منصف الوهابي " : " ...وكان بعض شعراء الحداثة عندنا وكتابها المنظرين ، يرون أن الشاعر إنما يخذله الشعر ويخطئه التوفيق ، إن هو ترسّم في نصه جانبا من حياته أو كشف عن مطارح أفكاره وخوالج نفسه ، وكأن النص سرد تاريخي مداره على الماضي وغياب الذات المتلفّظة وليس تلفّظا يُفسح المجال ، في الملفوظ لظهور آثار تلفـّظه ، أي الإشارات الدالّة على ضمير التكلّم وضمير الخطاب ( أنا/أنت ) ، وظروف المكان والزمان ( هنا/الآن ) ، واسم الموصول واسم الإشارة ، وأزمنة الفعل وخاصة المضارع أو ( الحال ) كما كان يسميه العرب ، وما إليها من سمات التلفظ في الخطاب التي يصعب تأّويلها إلاّ إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفّظ ، أي إلى الضمير المتكلم وإلى مكان قوله وزمانه ..." ( 1 ) فن الكتابة التوثيقية السردية هو التعبير المباشر عن كتابة سردية منطقية توثيقية شاملة هدفها تحقيق حلم أدبي أكثر واقعية . تركزت روح المجموعة القصصية " حين يبكي القمر/ حقول العار " لمحمد مهداوي على عملية توثيق للحظات تاريخية وشريحة اجتماعية ( الأطفال ) ، في مدينة " بركان " المغربية ، إن هذا النوع من الكتابة يعتبر من مصنفات وسائل التذكير والذاكرة ، لكن الكاتب محمد مهداوي تجاوز أسلوب التقارير الصحفية إلى الحكي والسرد من أجل الإمساك بجميع خيوط فن القصة . وستتمحور دراستنا النقدية الذرائعية المستقطعة حول مفتاحين نقديين تطبيقيين ، الأول الجانب التوثيقي التاريخي ، والثاني الجانب الإبداعي ( لغة مفاتن جسد القصة القصيرة ) ، وفيها سنحاول الوقوف عند أهم التراكيب الإبداعية والفنية في القصة القصيرة الواقعية كإنتاج أدبي إنساني صادق وممتع وشيق . ثانيا : السيرة الذاتية للكاتب " محمد مهداوي " . بيوغرافيا من تقديم الأستاذ " محمد موح " : ( شارك الأستاذ محمد مهداوي في العديد من اللقاءات الشعرية في مختلف مدن المملكة، وتلقى عدة دعوات أدبية على الفيسبوك وجهتها له مجموعات أدبية وثقافية، قام خلالها في حوار مباشر بالرد على أسئلة المضيقين حول العديد من القضايا والمواضيع الأدبية والإنسانية والاجتماعية كما فاز بالعديد من الجوائز التقديرية حيث توج في الكثير من المرات بالمرتبة الأولى في صنف الزجل والشعر … كما ترجمت بعض قصائده الزجلية وقصصه إلى اللغة الفرنسية من طرف المترجمين ذ.الحسين اللياوي وذ.نجم الدين مهلة ود.يحي يشاوي ) . ثالثا : المدخل البصري للمجموعة القصصية ( حين يبكي القمر / حقول العار ) . المجموعة القصصية " حين يبكي القمر / حقول العار " لمحمد مهداوي ، صادرة عن " مكتبة ووراقة بلال / فاس " / الطبعة الأولى / غشت 2019 . المجموعة القصصية " من الحجم المتوسط ، تحتوي على ست وثمانين صفحة . يقول " محمد مهداوي " في توطئته لقصصه " حين يبكي القمر / حقول العار " : حين فكرت في كتابة قصص عن مرحلة تاريخية عصيبة من ماضي مدينة أبركان طرحت على نفسي عدة تساؤلات : - 1: هل باستطاعتي - وأنا لم أعمل في حقول النواريوما - أن أؤرخ لمرحلة السبعينات والثمانينات بالمصداقية التي يستلزمها التوثيق الحكائي . - 2 : هل أدون هذه القصص محتفظا بالأسماء التي كانت عنوانا لهذه الأحداث الواقعية ، خاصة وأن أغلبهم لا زالوا أحياء . - 3 : هل أدخل هذه الحكايات ضمن السيرة الذاتية أو الغيرية أو الحكي القصصي السردي المألوف ... كيفما كان الحال فأنا حاولت التأريخ والتوثيق لمرحلة عصيبة من تاريخ مدينتي ...سأحاول قدر المستطاع ، تقريبكم من الأوضاع المزرية ، التي كانت قائمة ، مستعملا أسلوبا ، يجمع بين الأسلوب التاريخي التوثيقي والأدبي ، مع استعمال بعض تقنيات السرد المعروفة ، المبنية على التشويق والمتعة والتدرج الحكائي ..." ( 2 ). " حين يبكي القمر/ حقول العار " مجموعة قصصية قصيرة لكاتبها " محمد مهداوي " ، تضم المجموعة ما يلي : ( إهداء - مكان الأحداث وسياقها - توطئة - تمهيد - تقديم - بداية زجلية / كان يا ما كان ) - أربعة عشر عنوان لقصص قصيرة ( متوسطة الطول ) ) . يختم الكاتب مجموعته القصصية بما قيل حولها . ونختار من بين هذه الاقوال ما قاله الشاعر " محمد فريد : " استغلال بشع للمعمرين واستعمار شنيع للشعوب المستضعفة في العالم ونموذج للمغرب كمستعمرة ، وليس محمية ، إنها قصة للواقع الاستحماري الذي مارسه الإقطاع الأوليغارشي والطبقة البرجوازية المتحالفة والمرتبطة أساسا بالإمبريالية العالمية وأذنابها ، ما أحوجنا لإبداعاتك المتميزة والمنحازة للفقراء ، وفضح الممارسات الغير أخلاقية والغير إنسانية ..." ( 3 ) إن مسألة الكتابة التوثيقيّة تربطنا بالسؤال القديم ، الجديد ، المتجدّد : هل قضيّة الكتابة التوثيقية قضيّة جنس أدبي أم هي أدبية جنس ؟ وهل يمكن القول بأن الأدبية هي التي تجعل لغة مصدرا تجنيسيا لمصادر الأدب..." يمكن للكاتب أو الشاعر أن يُسائل الكلام وأن يستنبط منه فكرة أو موضوعا أو عالما . ومن حقّ كل كاتب أن يستخدم كلمات القبيلة أو العشيرة أو كلمات معظم النّاس ، ولكن شريطة أن يسلّط عليها ضوءا جديدا أو يجعلها تغتسل في ماء جديد " ( 4 ) يقول ذ محمد موح في التمهيد في نفس الموضوع التجنيسي : " ...تتبعت كل حلقات " حقول العار " [ أي مجموع نصوص المجموعة القصصية " حين يبكي القمر ] ، وقرأتها بكل ما تتطلبه القراءة من تركيز وتدقيق ، ووجدتها جد مميزة إن على مستوى الاختيار ( اختيار الفكرة ) ، أو على مستوى الموضوع أو الأسلوب ، أو طريق السرد أو الحكي ، أو في كيفية خلق عنصر الإيثار والتشويق ..." ( 5 ) رابعا - الجانب التوثيقي : تكامل الأهداف التوثيقية بين الذاكرة التاريخية والغلاف والإهداء في المجموعة القصصية " حين يبكي القمر/ حقوا العار " 1 - الذاكرة التارخية : يهتم التاريخ بمجموع أحوال الناس في زمن مضى ، فيجمع معلومات حول ذلك الزمن . لذلك يمكن القول أن التاريخ بشري ، وهذا لا يعني ، كما تصوره المؤرخون التقليديون أن مادته هي بالضرورة " الأبطال - الزعماء - الملوك ... ولكن المدارس الحديثة في التأريخ لا تدرس الإنسان كفرد - رغم أهميته في صنع هذا التاريخ - إنما تدرس التاريخ الاجتماعي ، أي الإنسان كعضو في جماعة مهما كانت طبيعته ، فالتاريخ ، ليس هو الماضي فقط ، بل الماضي و الحاضر ، أي إنه "عالم ذهني يستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة" ( 6 ) يقول " محمد موح في شهادته حول المهمة التوثيقية التي أنجزها " محمد مهداوي " :" كاتب لا يعرف الملل همه الوحيد هو إطلاع الجيل المعاصر بماض قاس مرير مرت عليه أكثر من أربعين سنة ...لقد حاول الأستاذ ( محمد مهداوي ) خلالها أن يجول بين الحقول ليقطف من كل حقل زهورا شائكة يصنع منها باقات جميلة من حيث الحياكة الفنية ، لكنها تترك في النفوس ٱثارا بالغة وٱلاما موجعة ..." ( 7) انجز الكاتب " محمد مهداوي " مجموعته القصصية لهدف محدد هو " التوثيق " بقالب سردي حكائي ... بعيدا كل البعد أسلوب القصة الصحفية التي تعتمد الخبر والأسلوب التقريري . إن رغبة محمد مهداوي كبيرة في الحفاظ على الذاكرة التاريخية فترة السبعينات والثمانينات في مدينة بركان . لذلك اعتمد الأسلوب التوثيقي الذي هو معرفة المعنى الأساسي للذاكرة والذاكرة التاريخية المجموعة القصصية " حين يبكي القمر/ حقول العار " ذات قدرة توثيقية لمجتمع السبعينات والثمانينات في مدينة بركان وعلاقته ب ( بفيريما النوار ) ، يقول ذ عبدالعزيز أو شيار في تقديمه للمجموعة القصصية : " ...لقد وفق الكاتب ذ محمد مهداوي في إبراز معالم الظلم والجور المسلط عليهم ( الأطفال ) محاولا كشف المستور عن تلك الطفولة المغتصبة التي سرقت بسمتهم وأحلامهم الجميلة معتمدا في غالب الأحيان على قصص واقعية بقيت عالقة في الذاكرة ..." (8 ) في واقع الأمر يمكن أن تكون المجموعة القصصية " حين يبكي القمر / حقول العار " محاولة جادة لإثراء الوجود الثقافي بالمشاركة التوثيقية لممارسات الماضي من أجل المستقبل ، ومن أجل أن يتاح للأجيال الأدبية القادمة فعل أرقى وشرط أفضل لإيجاد العلاقة بين "التوثيق والتقدم "، لأن التقدم – كما هو معروف – هو نوع من العلاقة بحاجة الى عملية متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل . إن الفعل التوثيقي عند " محمد مهداوي " هو ارتباط حي يجمع بين المسؤولية الأدبية والمسؤولية التاريخية ، وبين الانتماء الثقافي والغيرة الوطنية . يقول عبدالمالك المومني : " فيرمات المعمرين والإقطاعيين المحليين ، حافلة بشتى القصص والحكايات هذه واحدة شيقة ، نذكر رواية الصديق معمر بختاوي أطفال الليل في التجربة نفسها ( وفي نفس المدينة ) ...فاحكوا يا أدباء بركان المقاومين والوطنين المخلصين والشهداء فإن لكم ما تقولونه ! ..." (9) 2 - توثيقية صورة للغلاف : يحمل غلاف المجموعة القصصية صورة بالأبيض والأسود أخذت لآلة في " معمل النوار " تستعمل في تقطير وعصر زهرة الياسمين ثم تصديره سائلا خارج الوطن ، ليعبأ بعد ذلك في قنينات عطرية غالية الثمن ، تعرض في أبهى وأجمل الأسواق العالمية " . يعود تاريخ إنشاء " معمل النوار " ببركان إلى الفترة الاستعمارية ، يقول " محمد مهداوي " : " ... المعمرون الفرنسيون وبمساعدة أذناب الاستعمار في المنطقة ، هم الذين كانوا يتعاملون مع العمال ، شيبا وشبابا ، أطفالا وعذارى ، بكثير من القسوة الغلظة . حاولت سرد هذه الأحداث الأليمة على شكل قصص ، محافظا على مصداقيتها وواقعيتها ، لأنها شهادة عينية لأناس من دم ولحم ، شكلت فترة السبعينات والثمانينات مسرحا لأحداثها المؤلمة ..." (10) . ويقول عبدالقادر ذهبية : " إنها الحقبة المؤلمة عانى منها أسلافنا في ظل الاستعمار الغاشم ، ومن عانى أكثر وحتى الآن هي الطبقة المستضغفة التي تبقى رهينة الحاجة لكسب القوت اليومي بشتى الوسائل ..." ( 11 ) 3 - توثيقية الإهداء : " إلى البراءة المغتصبة تحت جنح الظلام في غفلة من التاريخ وخلل في الجغرافيا " عرفت جميع القرى والمدن المغربية ظاهرة الطفولة المغتصبة ( تشغيل الأطفال ) ، فالأطفال الصغار بخروجهم للعمل من أجل بعض الدراهم التي تمكنهم من اقتناء لوازم الدخول المدرسي أو مساعدة آبائهم في متطلبات العيش ... تغتصب الطفولة حين تجد الأطفال ( بائعي الجرائد وماسحي الاحدية في المقاهي العمومية وعند مفترق الطرقات يتسولون أو يبيعون بعض الأشياء البسيطة ، وفي الضيعات الفلاحية وفي الأسواق والشواطئ .... ) إنهم أطفال صغار رأسمالهم البراءة والاستعطاف والتدلل من أجل دريهمات لا تسمن ولا تغني من جوع ... وهم يمارسون هذه المهن قد يتعرضون لاعتداءات جسدية وتحرشات جنسية دون مقاومة إلا البكاء والصراخ . هؤلاء الصغار يبدون أكبر من أعمارهم بكثير بسبب خروجهم إلى العمل وتعرضهم للمضايقات والإجهاد . حيث يتم اغتيال طفولتهم ودخولهم مرغمين سن الرشد والرجولة ، وهذا هو الأخطر في ظاهرة الطفولة المغتصبة . خامسا - الجانب الإبداعي : الربط بين الخط الدرامي والخط الزمني للأحداث في المجموعة القصصية " حين يبكي القمر/ حقول العار " . 1 - الافتتاح ب " كان يا ماكان " / الزمان والمكان في المجموعة القصصية " حين يبكي القمر/ حقول العار " . كان يا ما كان في قديم الزمان .. تجعلنا نرحل في ضرب من الاستذكار السّردي للحظة تاريخية مرّت في مدينة مغربية اسمها ( بركان ) ، وحقيقة تؤكد أنّ ما حدث حدث فعلا . كان يا ما كان بها افتتح محمد مهداوي مجموعته القصصية رغبة منه في تقليب أحول السرد ، لأن فعل الزمان السردي فعل لغويّ ... يقول محمد مهداوي ( 12 ) : كان يا ما كان //// ف قديم الزمان حكايا تروبها //// لعجايز للصبيان دراري صغار //// زينهم زين الكمرة صحكتهوم صفرا //// ومعيشتهم مرة محلاهم طيور //// نورو السيكور الورد رحب بهم //// ب سبع عطور هازين درعية //// بالدوم مكسية مشاو فالريمورك /// عند الفجرية المجموعة القصصية " حين يبكي القمر " محاولة جادة لإثراء الوجود الأدبي و الثقافي بالمشاركة التوثيقية لممارسات الماضي السلبية من أجل بناء مستقبل أكثر إيجابية ، ومن أجل أن يتاح للأجيال القادمة فعل أرقى وشرط أفضل في حياة كريمة ، و لإيجاد العلاقة بين التوثيق والتقدم الحضاري وحقوق الإنسان ، لأن التقدم – كما معروف – هو نوع من العلاقة بحاجة إلى عملية متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل. جاء في القصة القصيرة " اغتصاب وردة الياسمين " ما يلي : " لن أنسى هذا اليوم أبدا ، كان يوما مشؤوما ، تلفه الكثير من علامات الغدر والخداع ، حيث سقطت الإنسانية في الوحل ، وتلطخت براءة الطفولة بالإثم الخطيئة . لا أعتقد أن الكثير من العقلاء يستسيغ ما حدث ، إلا إذا كان عديم الأخلاق ، لقد سقطت ورقة من أوراق الخريف في عز الصيف ، في غفلة من الزمان ، وعلى مقربة من بشر لا يسعني وصفهم إلا بالغوغاء والدهماء ، فرغم تساؤلات الجميع عن كنه غيابي وسر ابتعادي عن حقول العار ، لم يجرؤ أحد البحث عني ، تساؤلات ...همهمات ...إشارات ...همز وغمز ولمز ، لكن دون القيام بخطوة واحدة بسيطة ، ربما كانت ستنقد شرفي ، وتعيد لي أنوثتي ..." ( 13 ) سرد أحداث الماضي الذي يتراءى فيه المكان و الزمان ، حيث تصبح مهمة الحكي أن يضعنا إزاء رؤية واقعية ، في جانب منها ، الاجتماعي والنفسي والسياسي ... الكتابة القصصية عند " محمد مهداوي " لا يمكن أن تؤخذ من حيث هي وثيقة أو تاريخ حياة وعصر وجيل . إنّما هي شكل فنّي ينضوي على سرد شيق بالمعنى الواسع للكلمة ، دون أن يسوقنا أسلوب التشويق إلى القول أن صلة القصص بالحياة انقطعت ، أو هي مفصولة عن المجتمع . و" الأدب يظلّ تخيرا نوعيّا من الحياة ، على قدر ما يظلّ عملا تخييليّا ، الأمر الذي يسوّغ قولهم “واقعيّة العمل التخييلي” ، فكلّما ارتبط الكاتب بالواقع ، كلما كان أثره في القارئ كبيرا ... قد يبدوَ التخييل أقلّ غرابة من الحقيقة وأكثر تمثيلا. والتمييز لا يقوم في الأدب بين واقع وتخييل ، وإنّما بين مفاهيم عن الواقع مختلفة ، وطرائق من التخييل متنوّعة.... " (14 ) ونقرأ في القصة القصيرة " فرحة لم تكتمل " ...لم أحس يوما بالإرهاق مثل ما حدث اليوم ، خاصة ونحن لا زلنا في فترة ما قبل الشروق ، أحسست بالإغماء ، أخذت قنينة ماء وسكبت ضخات كبيرة على رأسي ووجهي لأستفيق ، بدت لي أزهار الياسمين كالصبار ، تريد ازرادي ، وأنا أهرب منها ، أهرب ، أهرب . أغرقت جسمي النحيف في عمق قناة الري الرئيسية ، فأحسست ببعض الانتعاش ونسيت للحظات الكابران والرومي وأمي ، فأحسست بالراحة رغم أن هروبي هذا كان قسريا ، يشبه إلى حد ما هروب الجندي المبتدئ من الخدمة العسكرية ، ألقيت بجسمي في الماء وسبحت كسمكة البوري في ماء قناة الملون بالحمري . نظرت إلى القمر فرأيته قد اختفى وراء غيمة رمادية ، واعتقدت لحظتها أنه يشاركني همومي ، فأجبته منذ تلك اللحظة ، وأصبحت أحكي له ما بي من جراح ، فصار يخفف عني ويسليني بأنواره الذهبية . " (15 ) 2 - الجمل المؤثرة و أسلوب الحكي الواصف للأحداث : يعتبر أسلوب الحكي الواصف للأحداث أحد أهم هذه الأبواب التي يجب الولوج من خلالها لمساءلة النصوص القصصية في " حين يبكي القمر/ حقول العار " وذلك لأن الحكي يستلزم الأشكال والأبنية والعلامات واللغات والأخيلة والخريطة الذهنية لكل قصة . إن الحكي يرتبط بالأساس انخراط الكاتب في الحكي القصصي بأبعاده اللغوية والفنية والدلالية و حضور الفن الجمالي التشويقي داخل القصص عموما . إن القصة في فعل الكتابة عند محمد مهداوي في " حين يبكي القمر / حقول العار " جسد فسيفسائي ل ( اللغة والشخوص والأمكنة والأزمنة والألوان والفضاءات والبنيات … وهي عوالم شعبية وتراثية وتاريخية (ساحة سيدي أحمد أبركان - الموقف - سواقي ملوية - فريما السيكور - الكاشو - عاصمة البرتقال - السنديقا ( حي سالم ) - مقهى العرفة - السجن المدني - المسجد الكبير - باحة اللقلق - قنطرة وادي شراعة - مقبرة النصارى - ضريح سيدي أحمد أبركان - مستودع البلدية - لمحال - بويقشار - ، المكتب - الطحطاحة - سالم – بوهديلة ...) . مما جاء في القصة القصيرة " فتيات الجاسمين " : " حين أشرقت الشمس ، سمعت فتيحة صوت لاسران ، سارعت للظفر بالمقدمة في الميزان ، الكل في طابور مستقيم الواحد تلو الآخر مصطف كما تصطف أثواب الغسيل فوق سلك حديدي ، الجميع ينتظر دوره لوزن ما جادت به أنامله من زهور ناصعة البياض . كان الرومي لوبيك Leprec ، يدخل يده في الدرعية لمراقبة مدى اثقان العمال لعملهم ، وبين الفينة والأخرى يصيح بلهجته المعرنسة ، ( لا للحشائش ...لا للبرجون ...لا للخش ...) . لا زالت فتيحة تتذكر أنها في يوم من بداياتها في العمل ، فتش السيد لوبيك درعيتها فوجد فيها بعض الأوراق الخضراء ، انحنى أرضا وحمل حفنة من " الغيس " ووضعها على رأسها ، وغرس فيها نبتة ياسمين ، وأجبرها على التجول بين خطوط النوار لتكون عبرة لقريناتها ..." (16 ) اعتمد محمد مهداوي أسلوب السرد الحكائي الذي انطلق من واقع حزين مُتعَب ، اشتعل فيه على تجميع أفكاره ، ومشاعر نفسيته لتصل حد الانفعال الوجداني الذي انطلق منه الكاتب ، واشتغل كذلك فيه على مشروع كتابته بأسلوبه الأدبي الذي يريده ( أدبيا توثيقيا ) . 3 - السرد المبتعد عن الإغراق في الرمزية الخانقة والسرد الممل المكرر . وجدنا لغة المجموعة القصصية سهلة من أجل ايصال رسالة أدبية توثيقية تبين للقارئ بلا عناء ، ما تحمله تلك الرسالة من مآسي وآلام شتى ، و بصور شتى ، تضمنتها القصص القصيرة في المجموعة ، كما تميزت الكتابة القصصية بالوضوح ، والاستقامة ، والجرأة في قول كلمة الحق .... نقرأ في القصة القصيرة " دبابة بني يزناسن " : " ما أجمل أن يعيش المرء على ماضيه ، به يشحن طاقته ، بالرغم من شظف العيش الذي كنت أعيشه ، ورغم الاستغلال الفاحش الذي عانيت منه في طفولتي في حقول النوار بضواحي مدينة بركان ، إلا أنني أعتبرها ذكريات قوت عزيمتي ورفعت معنوياتي للبحث عن سبيل أرحب ، أضمن بها مستقبلي ومستقبل أولادي ..كانت ليلة ظلماء ، على شاطئ قابوياوا ، وعلى متن قارب صغير ، تم زجنا كالخرفان ، لنعبر قارة السود في اتجاه قارة البيض ..." ( 17 ) مهما كانت جمالية النص المكتوب حين ينطلق من الواقع ، تكون صوره وألوانه أجمل بكثير من من النص الغارق في الخيال . يتجلى الإبداع بصورة واضحة لما يستمد الكاتب الفكرة والبناء النصي من الواقعية الحقيقية .... لنتأمل القصة القصيرة " الفاجعة " : " ...اخترق سمعي صوت مدو ، هز كل كياني ، وبعثر عروق رأسي ، أربكني وأربك كل من كان منهمكا في جني النوار : إنه صوت أخي سمير وهو يصارع الموت ، إثر صعقة كهربائية عظمى ... صعقته فامتصت دماءه وألقت به جثة هامدة على الأرض المبللة بالندى ، تجمع الناس والكوميس والرومي حوله أسرع الكابران حسن لتفقد أخي سمير فوجه جثة هامدة ..."( 18) استطاع محمد مهداوي " أن يصور الخارج النفسي الإنساني ، و الدواخل ، والخلجات، والمشاعر ، بدقة وبساطة مليئة بالثقة وعدم التنكر لما حصل من خلال نقد بناء لممارسات خاطئة ارتكبت في حق الأطفال بالمدينة . يتبين من خلال المجموعة القصصية أن محمد مهداوي متحكم في البناء المعرفي التوثيقي ، والوعي الموضوعي بكل دلالاته المستمدة من حقائق الواقع ، كما تبين لنا أن الكاتب ابتعد عن حدود الذاتية الشخصية .. سادسا - خاتمة : إن الجمالية في النوع وليست في الكم ، والكاتب إنما يطرح الكلام بعضه على بعض حتى يظفر بغرضه من الكتابة التي تستمد موضوعاتها ، إلى حد كبير من البيئة الاجتماعية ، لأن تأثير البيئة المحيطة والواقع ، يصدم ذائقة الكثير من الكتاب ، فتتفجر اللغة معبرة وواصفة ومفسرة بأدواتها التعبيرية المتعددة التي تحتضنها خصوصية كل جنس أدبي أو بيني . و" نحن نشاطر القائلين بأنّ بعض الصّيغ الشّعريّة وما تنطوي عليه من قدرة على الإيهام بالتّصديق والحمل عليه ؛ كان من نتائجها أن قام أكثر النّقد عندنا ، على المقاربة بين النصّ وما يذكره من وقائع وكائنات وأشياء ، حتّى كادت “الجودة” تنحصر في “ الإصابة ” بإقامة أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها ...." (19) . ونختم دراستنا الذرائعية المستقطعة بالقول أن السرد في المجموعة القصصية " حين يبكي القمر / حقول العار " سافر بي في رحلة إلى الماضي ، وكأني أعيشه مكانا وزمانا وأحاسيس ، خاصة وأني كنت أزور مدينة بركان في فترات العطلة الصيفية ، خلال فترة الثمانينات ، وكنت بدوري من الأطفال الذين اشتغلوا خلال عطلتهم في الفيرمات المحيطة بمدينة بركان . الهوامش والمراجع : 1 - موقع القدس العربي / منصف الوهابي / في الكتابة التوثيقية الخيالي دون الخيال . 2 – المجموعة القصصية / حين يبكي القمر / الصفحة / 6 3 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 82 4 – قاف صاد / العدد 6 / 2007 / الصفحة / 14 5 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 8 6 – مفهوم التاريخ / عبدالله العروي / الصفحة / 35 7 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 78 8 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 12 9 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 78 10 – المرجع 2 نفسه / 12 11 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 82 12 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 13 13 – المرجع 2 / الصفحة / 15 14 – فكر ونقد / العدد 25 / يناير 2000 / الصفحة / 43 15 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 24 16 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 34 17 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 64 18 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 54 19 – الحياة الثقافية / العدد 36 و37 / 1985 / الصفحة 71 20 - الذرائعية في التطبيق / عبدالرزاق عودة الغالبي 21 - محاضرات بالمركز المغربي لتعليم النقد الذرائعيي التابع لحركة التجديد و الابتكارفي الادب العربي 22- دور الذرائعية في سيادة الأجناس الأدبية / عبدالرزاق عودة الغالبي 23 - الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللساني والنقدي / عبدالرزاق عودة الغالبي
العربي الناصري : الأستاذ محمد مهداوي لك الشكر والتقدير على سردك لنا هذه القصص من صميم الواقع الذي عاشه أو عاشته كل قبيلة من قبائل بني يزناسن فرادا أو جماعات ومن منا لا يحمل ولو الشيء البسيط من معاناة الجيل السبعينيات عمال الفيرما الذين كانوا يحولونها إلى نكتة وهم يقصون معاناتهم بشيء من الابتسامة والسخرية ونحن صغار وكبار نضحك تلك الليالي الجميلة نعم تلك أيام كانت قمرية لا شمسية كانت ليالي فيها الوجوه سواسية وأنا إلى يومنا هذا وأنا طفل استيقظ على سراخ جارتنا .علال ذالسي علال ثاغنا ان لآلة يلي .لقد مت علال غرقا في الساقية وهو يتخلص من أوساخ ووحل الفيرمة. مات ذاك الذي كنا ننتظره بلهفة أن يمتعنا بحكاياته عن فيرمة النوار ونحن نستمع كل منا يرسم لوحة تشكيلية على حسب رؤيته بألوان القاص علال ذاك الشاب الطيب الذي كان يعين والديه وأمه الفخورة به بين نساء الدوار : ولدي علال اشترى لي هذه أو هذا . وأخته نصيرة تتباهى به وتتغنى برجولته في الأعراس علال وقفته ويديه في جيوبه ورأسه دائما منحني على جنبه الايسر يميل إلى الوراء كانه ينظر إلى الأفق البعيد رحمك الله يا علال وأسكنك فسيح جنانه. نعم مات علال وغنت الأم يوم زفوا لها الخبر (علال ذالسي علال ثاغنا ان لآلة يللي) بعد الاربعين قررت الام ان ترحل من القبيلة لان العين أصابت ولدها، نعم رحلت وسكنت جوار الساقية التي مات فيها علال ويقولون كانت أحيانا تمشي الطريق الذي كان يسلكه علال إلى الفيرمة رحمه الله .